الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

سمک "الأثرینا" والرّحلة المحفوفة بالمخاطر

سمک "الأثرینا" والرّحلة المحفوفة بالمخاطر

یتمیز هذا النوع من السّمک عن باقی الأنواع بأنه یضع بیضه على الیابسة، لأن البیض لا یکتمل نموّه إلا فی هذا الوسط. والرّحلة إلى الیابسة ولو لفترة قصیرة تعنی الموت بالنسبة إلى هذه الأسماک. وبالرغم من هذه المخاطر تقوم هذه الأسماک برحلتها مجابهة خطر الموت فی سبیل الحفاظ على النّسل, ومن بفضل الإلهام الإلهی تقوم هذه الکائنات باختیار الوقت والظرف المناسبین للخروج من الماء، وتنتظر هذه الأسماک إلى أن یصبح القمر بدرا ثم تخرج لدفن البیض فی رمال السّاحل. وانتظارها للبدر یرجع إلى أنّ الأمواج العاتیة تتزامن مع اکتماله فتزحف هذه الأمواج على السّواحل الرّملیة. وهذه الأمواج تستمر مدّا و جزرا لمدة ثلاث ساعات تختار فیها هذه الأسماک الموج الملائم کی تمتطیه لإلقاء فقسها على الساحل الرملی. وعند انحسار الموج تقوم الأنثى فی خلال هذه الفترة القصیرة والخطیرة بحفر مکان بعمق خمسة سنتمترات بواسطة جسمها المتقلص والمنحنی وتقوم بوضع بیضها فی هذه الحفرة.

ولا تنتهی هذه العملیة عند هذا الحد لأنّ الإناث یجب أن تدفن هذا البیض وتغطیه کی ینمو بصورة جیّدة. کلّ هذه الخطوات یجب أن تحدث قبل أن تغمر السّاحلَ میاهُ الأمواجِ وإلاّ فإن حیاة السّمکة سوف تکون معرضة للهلاک. والملاحَظ فی هذا المثال أنّ السّمکة تخاطر بحیاتها حرصا على النّسل فی صورة رائعة من التّضحیة والفداء فضلا عن سلوکٍ یتّسم بالحساب الدقیق و التقدیر الذکیّ (64 ).

ولو تأملنا فی سلوک هذه السّمکة الذی یتسم بالتّخطیط والتضحیة لأدرکنا أنّ هناک موجّها ومنظّما لهذه الخطوات، فالسّمک یعمد إلى اختیار هذا الأسلوب للتکاثر من بین المئات من الأسالیب الأخرى. ولنفترض أن هذا النّوع من السّمک قد اکتسبت هذه الطریقة فی التکاثر عن طریق الصّدفة, ترى ماذا یمکن أن یحدث بعد ذلک ؟ إنّ هذه السّمکة ستتعرض للموت فی أوّل خروج لها إلى الیابسة لأنها ستقوم بتجربة أنجع وسیلة لوضع البیض خلال فترة قصیرة جدا وخطیرة أیضا وتحت ظروف مستحیلة أیضا، لذا فإنّ انتظارها للبدر وتزامنه مع مدّ الأمواج و جزرها على السّاحل الرّملی وامتطاءها لهذه الأمواج وخروجها إلى السّاحل ووضعها البیض ودفنها إیاه کلّ ذلک لیس إلاّ وحیا وإلهاما من الله العلیّ القدیر الذی ألهما بلطفه هذه المقدرة الفائقة.

حصان البحر: الکائن الحی الوحید الذی یکون ذکره حاملا

حصان البحر: الکائن الحی الوحید الذی یکون ذکره حاملا

یتمیز ذکر هذا الحیوان بأن جسمه یحتوی على کیس خاص یضع فیه البیض الذی تضعه الأنثى, وتقوم الأنثى بوضع هذا الجنین داخل کیس الذّکر, و یقوم هو برعایة هذا البیض و مده بالغذاء عبر سائل یتم إفرازه داخل هذا الکیس شبیه بـسائل البلازما, وتستمر عملیة التغذیة حتى اکتمال نمو الجنین. ویظل الذّکر على هذا الوضع مدة تتراوح بین عشرة أیام و اثنین و أربعین یوما. وتقوم الأنثى بتفقد الذکر کل صباح, و مراقبة البیض تساعدها فی معرفة لحظة اقتراب الولادة من قبل الذّکر وبالتالی التهیؤ من أجل وضع البیض مرة أخرى (63).

بطریق الإمبراطور و صبره الخیالی

بطریق الإمبراطور و صبره الخیالی

هناک حیوان یظهر عزما غریبا فی الحفاظ على بیضه وصبرا لا مثیل له وتفانیا مثیرا للدّهشة, وهذا الحیوان هو بطریق الإمبراطور. فهذا الحیوان یعیش فی القطب الجنوبی الذی یتمیز بظروف بیئیّة قاسیة جدّا. تبدأ أعداد کبیرة من هذا الحیوان تقدر ب 25000بطریق رحلتها للتزاوج, و یقدر طریق الرّحلة بعدة کیلومترات لاختیار المکان المناسب للتزاوج, وتبدأ هذه الرّحلة فی شهر مارس وأبریل (بدایة موسم الشتاء فی القطب الجنوبی ), ومن ثم تضع الأنثى بیضة واحدة فی شهر مارس أو حزیران. والزّوج من البطریق لا یبنی عشّا لبیضته بل لا یستطیع ذلک لعدم وجود ما یبنی به فی بیئة مغطاة بالجلید. بید أنّه لا یترک بیضته تحت رحمة برودة الجلید لأن هذا البیض معرض للتّجمد بمجرد تعرضه لبرودة الجلید القاسیة, لذا یحمل بطریق الإمبراطور بیضه على قدمیه و یقترب الذّکر من الأنثى بعد وضعها للبیضة الوحیدة بعدّة ساعات لاصقاصدره بصدرها ویرفع البیضة بقدمیه. ویحرص کلاهما أشدّ الحرص على ألاّ تمسّ البیضة الجلید, ویقوم الذکر بتمریر أصابع قدمیه تحت البیضة ومن ثمة یرفع الأصابع لیدحرج البیضة باتّجاهه. وهذه العملیّة تتم بکل هدوء وإتقان لتجنب کسر البیضة. وأخیرا یقوم بحشر البیضة تحت ریشه السّفلی لتوفیر الدّفء اللازم .

وعملیة وضع البیضة تستهلک معظم الطّاقة الموجودة فی جسم الأنثى لذا فإنّها تذهب إلى البحر لتجمع غذاءها وتسترجع طاقتها فی حین یبقى الذکر لحضن البیض, و تتمیز فترة حضن البیض لدى بطریق الإمبراطور بصعوبة مقارنة بباقی أنواع الطّیور إضافة إلى حاجتها الشّدیدة للصّبر من جانب الذکر, فهو یقف دون حراک مدة طویلة و إذا لزمت الحرکة فإنّه لا یفعل ذلک إلاّ لأمتار قلیلة براحة القدمین. وعند الخلود إلى الراحة یستند الطیر على ذنبه کما لو أنّه قدم ثالث ویرفع أصابع قدمیه بصورة قائمة کی لا تلمس البیضة الجلید. ومن الجدیر بالذّکر أنّ درجة الحرارة فی الأقدام المغطّاة بالرّیش السّفلی أکثر ب:80 درجة عن المحیط الخارجی لذلک لا تتأثر البیضة بظروف البیئة الخارجیة القاسیة .

وتزداد ظروف البیئة قسوة کلما تقدم فصل الشتاء بأیامه وأسابیعه حتى أن الریاح والعواصف تبلغ سرعتها 120-160 کم فی الساعة, وبالرغم من ذلک یبقى الذکر ولمدة أشهر دون غذاء ودون حراک إلاّ للضّرورة ضاربا مثلا مثیرا للدّهشة فی التّضحیة من أجل العائلة, وتبدی العائلة تضامنا کبیرا لمقاومة البرودة القاسیة إذ أنّ حیوانات البطریق تتراصّ واضعة مناقیرها على صدورها وبذلک یصبح ظهرها مستویا ومشکّلة دائرة فیما بینها وسدا منیعا من الرّیش فی مواجهة البرد القارس. وتحدث هذه العملیة بإخلاص و تنظیم دقیق دون أن تحدث أیة مشکلة بین الآلاف من هذه الطّیور المتراصّة, وتظل هکذا لمدة أشهر عدیدة بصورة من التعاون المدهش والمثیر للحیرة والإعجاب. فحتّى الإنسان تصیبه مشاعر الملل و الأنانیة فی هذه الظروف القاسیة رغم کونه مخلوقا عاقلا یسیر وفق مقاییس أخلاقیة و عقلیة. ولکن البطریق یبقى متعاونا متکاتفا ویعمل الفرد من أجل المجموعة بأکمل صورة ممکنة، والتّضحیة التی یبدیها هذا الحیوان للحفاظ على البیض تحت هذه الظروف القاسیة تعتبر منافیة لمفاهیم نظریة التّطور التی تدّعی أنّ البقاء للأصلح والأقوى و نکتشف أنّ الطّبیعة لیست مسرحا للصّراع بل معرضا للتفانی والتضحیة التی یبدیها القوی للحفاظ على حیاة الضعیف. وبعد ستین یوما من الظّروف القاسیة یبدأ البیض فی الفقس، ویستمر الذکر فی تفانیه من أجل الصّغیر علما أن هذا الذکر لم یتغذ أبدا طیلة فترة الرّقود على البیض. ومن المعلوم أن البطریق الخارج لتوّه من البیض حیوان ضعیف و صغیر یحتاج إلى تغذیة و عنایة مستمرّة فیفرز الذکر من بلعومه مادة سائلة شبیهة بالحلیب یتم إعطاؤها للفرخ الصغیر لیتغذى علیها. و فی هذه الفترة الحرجة تبدأ الإناث فی العودة وتبدأ بإصدار أصوات ممیزة فیردّ علیها الذکور بصوت مقابل وهذه الأصوات هی نفسها التی استخدمت فی موسم التزاوج وبواسطتها یعرف الذکر والأنثى بعضهما البعض. وقد وهب الله سبحانه وتعالى هذه الحیوانات قدرة التمییز بین الأصوات وهو اللّطیف الخبیر .

وتکون الأنثى قد تغذت جیدا طیلة فترة الغیاب ویکون لدیها مخزون جید للغذاء, وتضع هذا المخزون أمام الفرخ الصغیر و هو أوّل طعام حقیقی یتناوله بعد خروجه من البیض. وقد یتبادر إلى الذهن أن عودة الأنثى تعنی خلود الذکر للرّاحة ولکن هذا لا یحدث أبدا, فالذّکر یظل على اهتمامه ورعایته لمدة عشرة أیام أخرى ویقوم خلالها بمسک الفرخ الصغیر بین قدمیه, ثم یبدأ رحلة بعد ذلک إلى البحر لیتغذى بعد حوالی أربعة أشهر من الصیام عن الحرکة والغذاء. و یظل الذّکر غائبا من ثلاثة إلى أربعة أسابیع یعود بعدها إلى الاهتمام بالفرخ کی ترجع الأنثى بدورها إلى البحر لتصیب من الغذاء ما تیسّر لها. تکون هذه الفراخ الصغیرة فی المراحل الأولى من حیاتها غیر قادرةعلى تنظیم حرارة أجسامها لذا تکون معرضة للموت فی حالة ترکها وحیدة تحت ظروف البرد القاسیة، لذلک یتناوب الذکر والأنثى فی عملیة الحفاظ على حیاة الصّغیر وتوفیر الدّفء والغذاء له

(62).

وکما هو واضح فی هذا المثال فکلاهما یتفانى ویضحی حتّى بحیاته إذا اقتضى الأمر فی سبیل الحفاظ على حیاة الفرخ الصغیر. إنّ الإلهام الإلاهی هو التّفسیر الوحید لهذه التضحیة والتعاون الذیْن یبدیهما الذکر والأنثى للحفاظ على حیاة الصغیر. إنّ المتوقع من هذا الحیوان غیر العاقل أن یترک هذا البیض وشأنه ویفکر فی الخلاص والنجاة من البرد القاسی إلا أن لطف الله سبحانه وتعالى بهذه الحیوانات جعلها ترأف ببیضها وفرخها وتظهر هذه الصورة الرائعة من التکاتف والتعاون والتضحیة.

العنایة الفائقة التی تخص بها الکائنات الحیة بیضها وصغارها

العنایة الفائقة التی تخص بها الکائنات الحیة بیضها وصغارها

الظاهرة المعروفة لدى الأحیاء أنهّا تبذل جهدا کبیرا فی العنایة بالبیض والصغار وتتحمل فی سبیل ذلک الصّعوبات الجمّة فهی تقوم بإخفائها عن عیون الأعداء وتحافظ علیها (البیض) من الکسر إضافة إلى تدفئتها بدرجة معقولة دون تعریضها إلى حرارة عالیة، وتقوم الکائنات الحیة بنقل بیضها إلى مکان آخر عند إحساسها بخطر یهددها وتظل تحرسها لعدة أسابیع متواصلة دون کلل أو ملل وحتى أن بعضها یقوم بحمل البیض بفمه. ویمکن لنا أن نلاحظ هذه الأنماط السلوکیة الملیئة رحمة ورأفة لدى الکثیر من أنواع الأسماک والطیور والزواحف .

فأفعى " البایتون " مثلا تشکل تهدیدا خطیرا لحیاة الإنسان إلا أنها تسلک تجاه بیضها سلوکا ینطق عطفا ورأفة. فهذه اللأفعى تضع تقریبا 100 بیضة فی کل مرة و تلتفّ حول هذا البیض, والهدف من هذا الالتفاف هو الحفاظ على البیض من درجة الحرارة العالیة بالإضلال علیها والحفاظ علیها من البرودة عن طریق رفع جسمها و الانفصال عنها. ویضل هذا البیض بمنأى عن الأخطار طالما ظلت الأفعى الأم ملتفة حولها. و بفضل هذه العنایة التی تبدیها أنثى "الیایتون" یقل تأثیر الأخطار على حیاة الصغار وهم لا یزالون داخل البیض (50). وهنالک بعض أنواع الأسماک یسلک سلوکا غریبا فی العنایة بصغاره وهم لا یزالون داخل البیض إذ تقوم السّمکة الأم بجمع هذا البیض فی تجویف فمها کوسیلة لحمایتها لذا تدعى هذه الأنواع بـ " الأسماک التی ترقد على بیضها بفمها ", و قسم من هذه الصغار سرعان ما یلوذ إلى فم أمه عندما یشعر بالخطر. وهذا السّلوک شائع لدى أسماک القط (الشبوط) أو (cat fish ) التی تستمرّ فی السّباحة لمدّة أسابیع وفمها ملآن بالبیض الصغیر الذی یقدر حجمه بحجم الکرات الفولاذیة الصغیرة الموجودة فی العجلات المیکانیکیة، وتقوم السّمکة بخض فمها بین الحین والآخر لتحریک هذا البیض لإفساح المجال لغاز الأکسیجین المذاب فی الماء للوصول إلیها وعند فقس البیض عن صغار ضعاف یلجأون إلى فم أبیهم لعدة أسابیع تالیة, وطیلة هذه الفترة لا یتغذى الذّکر أبدا ویستخدم مخزونه الدّهنی فی مواصلة فعالیاته الحیویة ( 51).

وتعتبر الضفادع الکائن الحی الآخر الذی یحمل صغاره وبیضه فی فمه, فضفدع "رینودیرما" تحمل أنثاه البیض داخل جسمها وعند حلول موسم التزاوج تضع الإناث بیضها على الأرض ویبدأ الذکور فی الدّوران حول هذا البیض فی حرکة تعبر عن قدرته على حمایتها من الأعداء. وعندما تبدأ الأجنحة تتحرک داخل البیض للخروج منها تهجم الذّکور على هذه المجامیع لتلتقم أکبر کمیة من هذا البیض التی تحاط بطبقة جیلاتینیة شفافة ویقوم الذّکر بتجمیع هذا البیض على جانبی فمه داخل أکیاس الصوت, وبالتالی یبدو فمه منتفخا للغایة, وتبقى فترة داخل الفم إلى أوان اکتمال نموها, وفی النّهایة یبدأ الذّکر بالتجشؤ عدة مرات وینهی ذلک بأن یتثاءب فاغرا فمه بصورة واسعة لیفسح المجال للصّغار الذین اکتمل نموهم للخروج إلى الحیاة ( 52).

وهناک نوع آخر من الضفادع یعیش فی استرالیا یقوم بازدراد بیضه لیحافظ علیها لیس فی فمه و إنما فی کیس موجود فی معدته ویبدو للقارئ أن البیض فی هذه الحالة معرض للهلاک نتیجة الإفرازات المعدیة الهاضمة إلاّ أنّ الذی یحدث لدى هذه الحیوانات هو العکس تماما إذ تتوقف المعدة عن إفراز هذه الأنزیمات لحظة ابتلاع الأنثى لبیضها و بذلک لا یتعرض البیض لأی خطر (53). وهناک أنواع من الضفادع تتّبع أسالیب متنوعة فی الحفاظ على بیضها کضفدع " البیبا " الأسود الذی یقوم ذکره بتجمیع البیض بواسطة سیقانه الزّعنفیّة لیلصقها إلى ظهر الأنثى ثمّ ینتفخ الجلد لیساعد على التصاق هذا البیض, ویتکون غلاف رقیق حافظ لهذا البیض، وبعد 30 ساعة یختفی هذا البیض تحت جلد ظهر الأنثى ویعود إلى شکله الأصلی, ویبدأ البیض فی النمو تحت جلد الأنثى. وبعد 15 یوما تبدأ الیرقات فی التّحرک داخل البیض والتی تجعل ظهر الأنثى تبدو و کأنها فی حرکة التوائیة. وبعد مرور 20یوما تشرع الضّفادع الصّغیرة فی الخروج عبر ثقوب تکون قد فتحتها فی جلد الأم, وبعد خروجها تبدأ فی البحث عن ملجئ آمن لها فی الماء.

أما الضفدع الأوروبی الأسود والمسمى بـالمولِّد أو القابلة فیقضی أغلب حیاته على الیابسة القریبة من الماء ویتزاوج على الیابسة أیضا و لا تترک الأنثى بیضها على الأرض, ویلقی الذکر علیها حیامنه, وبعد نصف ساعة یقوم الذکر بلصق هذا البیض بعضه ببعض کأنما یقوم بترتیب حبات المسبحة على الخیط، ثمّ یلصق هذه السلسلة على سیقانه الخلفیة وتبقى هکذا لمدة أسابیع عدیدة یجرها معه أینما ذهب وعندما یبدأ هذا البیض فی الفقس یلقی بها فی الماء, ویبقی سیقانه فی الماء حتى اکتمال خروج الصّغار من البیض. وعند اکتمال هذه العملیة یرجع إلى مسکنه على الیابسة (54).

بعد هذا العرض للأمثلة العدیدة تبرز أمامنا نقطة مهمة للغایة، وهی الإنسجام الکامل بین التکوین الخلقی لهذه الکائنات الحیة والأنماط السّلوکیة التی تمارسها. فالضّفدع الذی یملک تجویفا خاصا فی جسمه یستخدمه للحفاظ على البیض ولکنه لا یعلم عن وجود هذا التجویف فی جسمه إلا أنه مع ذلک یسلک سلوک العارف بوجود هذا التجویف، أما الضفدع الآخر الذی ورد ذکره فی الأمثلة فإنه غیر عاقل ولا یملک الإرادة أن یوقف إفراز الإنزیمات الهاضمة فی معدته کی لا تصیب البیض بأی ضرر ، وعلى افتراض أنّ هذا النوع من الضفادع یملک القابلیة على إیقاف إفراز الأنزیمات فإن هذا الفرض ینافی طبیعة الکائنات الحیة التی لا تملک القابلیة على التّحکم فی الأفعال اللاّإرادیة، وکذلک الحال بالنّسبة إلى الضفدع الذی یرعى صغاره تحت جلدة ظهره. کلّ هذه الشّواهد الحیّة من توافق بین التّرکیبة الخلقیّة والأنماط السّلوکیة لم تتشکّل بمحض أبدا الصّدفة.

وهذه الصّفات التی أوردناها کأمثلة تحمل فی جوهرها تصمیما وتخطیطا لا یمکن إنکارهما. والواضح للعیان أن هذه الکائنات الحیة التی تمتلک خاصّیة الانسجام بین الترکیب الخلقی وأنماطها السلوکیة هی کائنات مخلوقة من قبل المولى عز وجل وهو الذی أبدع صورتها وخلقها لأنه قادر على کلّ شیء. ولا یمکن ملاحظة مشاعر الأمومة والأبوة والرأفة المبثوثة إلى هذه المخلوقات بالأمثلة أعلاه فحسب بل فهناک أمثلة أخرى کالنّمل والنحل وغیرها من الأحیاء التی تبذل اهتماما منقطع النّظیر فی الحفاظ على البیض وعلى الیرقات داخل الشرانق, فالعاملات تقوم بحمل البیض إلى غرف خاصّة داخل الخلیة المنشأة تحت الأرض, وکذلک الأمر مع الیرقات داخل الشرانق، وتغیر هذه العاملات مکان بیضها و مکان الشرانق أیضا حسب تغیّر درجة الحرارة والرطوبة داخل الخلیة إضافة إلى سعیها الحثیث إلى الحفاظ على راحة البیض والیرقات بأن تحملها فی فمها لتغییر مکانها فی رحلات متواصلة بین الغرف داخل الخلیة. وإن حدث أن داهم الخطر الخلیة کلّها تقوم العاملات بحمل البیض والشرانق إلى مکان آمن خارج الخلیة (55).

أمّا اهتمام الطّیور ببیضها فیأخذ أشکالا متنوعة تثیر الحیرة والدهشة فی آن واحد. فنحن نجد مثلا طیر "المطر" الصّغیر الذی یضع أربع بیضات فی حفرة بالأرض، وإن حدث أن ارتفعت درجة الحرارة یقوم هذا الطیر بغمس صدره فی الماء حتى تبتل ریشه الأمامیّ ثم یرقد على البیض و یلامس البیض بریشه المبتلّ, وهکذا یستطیع أن یخفّف من تأثیر الحرارة العالیة (56).

و مما نشاهده فی عالم الأحیاء أنّ الکائنات الحیة البیوضة تقوم بتهیئة وسط ملائم من ناحیة درجة الحرارة لاکتمال نمو الأجنحة داخل البیض, فالطّیور الغطّاسة على سبیل المثال تبنی أعشاشها من الطّحالب الطافیة على الماء وتقوم هذه الطیور بتغطیة بیضها بهذه الطّحالب, وهذه العملیة توفر نوعا من التکییف الحراری داخل العش. أمّا البجع فیرقد على البیض لتوفیر الدّفء اللاّزم لنموّ الأجنحة ویغیر من وضع رقاده بین الحین والآخر لتوفیر دفء متساو لجمیع البیض (58).

أما الطائر الرّملی فیستخدم أسلوبا آخر فی توفیر الدّفء لبیضه، فبعد أن تضع الأنثى بیضها فی العشّ یتولّى الذّکر الاهتمام بهذا البیض فیرقد علیه وینتف ریشه الذی یغطی منطقة الصّدر ویفرشه فی أنحاء العش وتمتلئ الأوعیة الدّمویة الموجودة فی صدره بکمیة زائدة من الدم، وحرارة هذا الدم تکون کافیة لتوفیر الدّفء اللاّزم للبیض طیلة أکثر من ثلاثة أسابیع. وعندما یخرج الصّغار بعد فقس البیض یستمر الذّکر فی رعایة الصغار أکثر من أسبوع ونصف ومن ثم یتناوب مع الأنثى فی أداء هذه الوظیفة المهمة 59.

إنّ الاهتمام بالحفاظ على درجة الحرارة داخل العش بمستوى محدود ومقبول یعتبر أمرا ذا أهمیة قصوى لکافة الکائنات الحیة. والمثیر للدّهشة أن الحیوانات تتبع أسالیب مختلفة ومتنوعة فی إنجاز هذه العملیّة الحیاتیّة المهمّة وتبدی حساسیة بالغة تجاهها. وهنا تبدو أمامنا استحالة إدراک الطیر أو الأفعى أو النحل لأهمیة الحفاظ على الحرارة بمستوى دقیق وبالتالی اتباعها أسلوبا مثیرا للدّهشة فی إنجاز هذه العملیة من تلقاء ذاتها. ومصدر هذه المعرفة و الإدراک هو الله سبحانه وتعالى الذی خلق هذه الکائنات و أودع فیها هذه الخصائص الحیاتیة لیضرب بها الأمثال للإنسان المتفکر. و هذه الکائنات الحیة وهی تسلک سلوکا من وحی إلهام إلهی تنشط نشاطا دؤوبا لا یعرف الکلل ولا الملل. فمثلا تبنی بعض الطیور عدة أعشاش یکون أحدها لرعایة الصّغار وتنشئتهم والأخرى لوضع البیض والرّقود علیه. ویتصف بهذه الصّفات کلا من طائر " المطر"الصّغیر والطیور الغطّاسة إذ یتناوب الذّکر والأنثى فی عملیة الاهتمام بالصغار والرقود على البیض.

والأغرب من هذا مساعدة الفراخ الموجودة فی العش الأول للفراخ الموجودة فی العش الثانی, وهذا النموذج یمکن رؤیته لدى طائر "دجاج الماء "و"خطاف الشّباک"حتى أن أزواج الطّیور تساعد أزواجا أخرى فی العمل مثلما هو موجود لدى طائر النحل. وهذا النّوع من التعاون والتکافل شائع لدى الطیور عامة 60. وهناک عامل مهمّ فی نسف نظریة التّطور من الأساس, وهذا العامل یتلخّص فی الرأفة التی تبدیها الحیوانات لیس فقط تجاه صغارها بل تجاه صغار حیوانات أخرى. وحسب ادّعاء دعاة التّطور یکون من المستحیل رؤیة هذه الأنماط من السّلوک لدى الکائنات الحیّة فی حین أنّ ما یصدر عنها من سلوک هو مثال فی ا الرّأفة والتّضحیة ومن المستحیل أن تکون قد تشکلت بالصّدفة. وهناک أمثلة لا تحصى فی الطبیعة على التعاون والتکافل بین الأحیاء. وهذا دلیل واضح على أنّ الطّبیعة لیست ولیدة الصّدفة و العبث کما یدّعی المادّیون .

کیف تنجح الحیوانات فی إنجاز هذا العمل ؟

کیف تنجح الحیوانات فی إنجاز هذا العمل ؟

تصوّروا إنسانا لیست لدیه أیة معرفة بالعمارة ولا عمل فی قطاع البناء أبدا ولیست لدیه خبرة فی تحضیر المواد الأولیة للبناء ولا عن کیفیة البناء ومع هذا یقوم بإنشاء مسکن بکل براعة وإتقان, کیف یحصل هذا؟ هل یستطیع أن یفعل ذلک لوحده ! بالتأکید لا، فالإنسان الذی یعتبر مخلوقا عاقلا وذا منطق من الصعوبة أن یسلک هذا السلوک .

إذن هل من الممکن أن تسلک هذه الحیوانات سلوکا یتطلب ذکاء وقابلیة ؟ وکما أسلفنا القول فی الصفحات السابقة إنّ أغلب الحیوانات لا فقط لا تملک مخا وإنما تفتقر إلى جهاز عصبی ولو بسیط ولکنّها مع ذلک تقوم بحسابات دقیقة جدا عند إنشائها لأعشاشها، وتطبق قوانین الفیزیاء وتستخدم أسالیب تتطلب مهارة خاصة بالنسیج والخیاطة، إضافة إلى إیجادها حلولا أمام کلّ المشاکل التی تعترض سبیلها أو سبیل صغارها وبصورة عملیة تماما. وتعد هذه الحیوانات لنفسها خلطة البناء بصورة طبیعیة ومتقنة فضلا عن ترکیبها وصفة خاصة لعزل عشها عن تأثیرات البیئة السلبیة. ولکن هل یعرف الطیر أو الدب القطبی معنى العازل الحراری؟ وهل یفکر هذا الحیوان أو ذاک بضرورة تدفئة عشه أو عرینه ؟ والواضح أن هذه الاستنتاجات الفکریة لا یمکن أن تصدر من هذه الحیوانات، إذن کیف اکتسبت هذه الحیوانات مثل هذه الخبرة والمهارات؟

و هذه الحیوانات تتّصف کذلک بأنها مثابرة وصبورة جدا فی إنشائها لمساکنها على الرغم من أن هذه المساکن تکون فی أغلب الأحیان محلاّ لسکن صغارها فقط.

هناک تفسیر واحد لهذه العقلانیة والمنطقیة والتفانی فی سلوک هذه الحیوانات, إنه الإلهام الإلهی. فالبارئ المصور خلقها بهذه الصورة الکاملة وألهمها هذا السلوک کی تحافظ على نسلها وعلّمها الدفاع عن النفس و الصّید و التّکاثر کلّ بأسلوبه الخاص الذی یمیّزه باعتباره نوعا حیوانیاّ مختلف، هو الله الحافظ الرّحمان الذی رحمته وسعت کل شیء وبرحمته هذه علّم هذه الحیوانات کیفیة بناء أعشاشها وفق تخطیط بارع و متقن، وما الکلام عن "التطور" و من أن " الطبیعة الأم" أو المصادفات هی التی علمت الکائنات الحیة هذه الأنماط السلوکیة سوى تخبط لا أساس له سواء فکریا أو علمیا، وما سلوک الحیوانات هذا سوى إلا إلهام إلهی ورحمة واسعة من لدن الرحمن الرحیم .

ویقول الله سبحانه وتعالى فی کتابه المبین " وأوحى ربک إلى النحل أن اتخذی من الجبال بیوتا ومن الشجر وممّا یعرشون " صدق الله العظیم . سورة النحل - الآیة 68 .

إنه هو الذی ألهم النحل کیفیة بناء الخلیة وکذلک باقی الکائنات الحیة ألهمت من قبله جلت قدرته کیفیة بناء مساکنها وکیفیة إعداد المواد اللاّزمة للبناء والأسالیب المتّبعة لإنجاز تلک الأعمال و کذلک الحفاظ على النسل والتضحیة فی سبیل الحفاظ على حیاة الصغار. إنّ الکثیر من الکائنات الحیة تبدی تفانیا محیّرا وتتحمل صعوبات کثیرة فی سبیل التکاثر والحفاظ على بیضها أو صغارها المولودین حدیثا، ویمکن مشاهدة نماذج فی الطبیعة تضحی بحیاتها فی سبیل ذلک. فمثلا هناک أنواع من الحیوانات تقطع کیلومترات عدیدة جدا فی سبیل وضع البیض وأخرى تبذل جهدا شاقا ودؤوبا لإنشاء أعشاش آمنة، وأنواع أخرى تموت مباشرة بعد التکاثر ووضع البیض فضلا عن أنواع تحمل بیضها فی فمها لمدة أسابیع دون أن تتغذى أو أنواع تحرس بیضها لمدة أسابیع أیضا دون کلل أو ملل.

والحقیقة أن هذه الأنماط السلوکیة الفریدة تهدف إلى تحقیق غایة واحدة هی الحفاظ على النّسل لأن الصغار و هم ضعاف لا یستطیعون البقاء إلاّ برعایة الکبار البالغین الأقویاء، فلوترک غزال مولود حدیثا وحده فی العراء أو لو ترک بیض طیر دون حمایة لاشک أن حظهما فی البقاء یکون ضئیلا جدا. والملاحظ فی الطّبیعة أنّ الحیوانات البالغة تقوم برعایة صغارها دون ملل أو إهمال أو استنکاف وتتحمل مسؤولیة الرعایة کاملة, کلّ ذلک استجابة للإلهام الإلهی.

والغریب أیضا فی هذه المسألة هو کون الکائنات الحیة التی تبدی تفانیا ودأبا فی رعایة صغارها هی من أقل الکائنات الحیة تکاثرا، ومثال على ذلک الطیور فهی تضع عددا محدودا من البیض کلّ سنة ولکنها تهتم بهذا العدد من البیض اهتماما بالغا. وهذا القول جائز فی اللبائن أیضا والتی یمکن القول عنها أنها تلد مولودا واحدا أو مولودین ولکنها تستمر فی الرّعایة و العنایة مدة طویلة نسبیا، وهنا ک کائنات حیة لا تبدی اهتماما ملحوظا بصغارها بالرغم من کونها تبیض أعدادا کبیرة من البیض تقدر بالآلاف مثل الأسماک والحشرات أو الفئران التی تلد أعدادا کبیرة فی کل موسم تکاثری, ولکونها بهذا العدد الضخم ضمن العائلة الواحدة فإن الاحتمال عال باستمرار النّسل بالرغم من هلاک أعداد کبیرة من الصغار فی المراحل الأولى من حیاتها. ولو کانت هذه الحیوانات تهتم بصغارها بصورة کبیرة لکانت أعدادها تتزاید باطراد وبالتّالی یحدث خلل فی التّوازن البیئی, ومثال على ذلک فئران الحشائش التی تتکاثر بصورة کبیرة جدا ولو حدث أن حافظت على أعدادها المتزایدة لملأت هذه الفئران وجه البسیطة(49). و المعلوم أنّ التکاثر یمکن اعتباره إحدى الوسائل الکفیلة بالحفاظ على التوازن البیئی إلا أن الکائنات الحیة لا یمکن لها التحکم فی خاصیة "التکاثر" هذه من وحی علمها أو سلوکها المنطقی .

والمعلوم أیضا أن هذه الکائنات الحیة مخلوقات غیر عاقلة لذا فلا یمکن أن ننتظر منها سلوکا ضابطا للإیقاع التکاثری حفاظا على التوازن البیئی و لا حسابا مضبوطا لتحقیق ضرورة التکاثر من أجل استمرار النسل. وکل هذه الشواهد الحیة تدل على وجود قوة تدیر هذه السیمفونیة الطبیعیة، وهذه القوة تملی إرادتها على کل کائن حی على حدة لیمارس دوره المسیّر ( ولیس المخیّر ) فی ممارسة مهمّته فی البیئة الطبیعیة على أکمل وجه، أی أنّ الحقیقة تتمثل فی عدم وجود أیّ کائن حی خارج السیطرة أو تحرّکه بشکل اعتباطی, فکل الکائنات الحیة تنقاد وتخضع لله الواحد القهار .

ویقول الله سبحانه وتعالى فی محکم کتابه المبین عن کیفیة تکاثر الأحیاء بإذنه جل جلاله وعن کیفیة تقدیره لحیاتها ومماتها وهو الحی القیوم: " الله یعلم ما تحمل کلّ أنثى وما تغیض الأرحام وما تزداد وکل شیء عنده بمقدار " سورة الرعد - الآیة 8 ویقول أیضا: " ومن آیاته اللیل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الّذی خلقهن إن کنتم إیاه تعبدون " سورة فصلت - الآیة 47, أمّا فی سورة الشورى-الآیة 49-50 فیقول تعالى : " لله ملک السموات والأرض یخلق ما یشاء یهب لمن یشاء الذکور (49) أو یزوجهم ذکرانا وإناثا ویجعل من یشاء عقیما إنه علیم قدیر (50) " صدق الله العظیم .

مهندسو ما تحت الماء

مهندسو ما تحت الماء

من المعلوم أن الأسماک لیس من عادتها بناء منازل خاصة بها، إلا أن هناک أنواعا منها یسلک سلوکا محیرا, فأسماک المیاه العذبة تنشأ لها مساکن خاصة فی قیعان البحیرات أو الأنهار أو المیاه الراکدة، وغالبا ما تکون على شکل حفر یتم حفرها بین الأحجار أو الرمال، ومثال على ذلک سمک " السلمون " وسمک "البنی " فهی تترک بیضها داخل هذه الحفر حتى تفقّس لوحدها. و هناک أنواع أخرى من الأسماک تقوم بحراسة هذا البیض بالتناوب بین الذکر والأنثى عندما یکون البیض مکشوفا والأخطار محیقة . ومعظم أنواع الأسماک تتمیز بکون الذکر هو المسؤول عن إنشاء المساکن الخاصة بوضع البیض وحراستها أیضا.

وهناک أسماک تتمیز بکون مساکنها أکثر تعقیدا، ومثال ذلک السمک الشوکی الذی یعیش فی أغلب المناطق النّهریة والبحیرات فی کلّ من أمریکا الشمالیة وأوروبا إذ یقوم الذکر بإنشاء أعشاش أکثر اتقانا من أعشاش الطیور، حیث یقوم هذا النوع من السمک بجمع أجزاء من النباتات المائیة ومن ثم یلصقها ببعضها البعض عن طریق سائل لزج یفرز من کلیّ هذا السّمک ویقوم الذکر بالسباحة حول هذه الخلطة اللزجة والتمسح بها حتى یعطیها شکلا طولیا منتظما وبعدها یثب فجأة سابحا من منتصف هذه العجینة شاقا إیاها لکی تصبح على شکل نفق له مخرج ومدخل ویمر من خلاله الماء، و إذا حدث أن مرت أنثی بالقرب من هذا النفق العش یقوم الذکر بمغازلتها بالسباحة حولها جیئة وذهابا حتى یذهب بها إلى مدخل النفق الذی یحاول أن یدلها علیه عن طریق مقدمة رأسه، وعندما تبیض الأنثى داخل هذا النفق یدخل الذکر من المقدمة دافعا الأنثى إلى الخارج عن طریق المؤخرة. وهکذا تعاد العملیة مع عدة أثاث وهدف الذکر من دخول النفق وطردهم إیاهن هو تلقیح البیض. وعندما یمتلأ النفق بالبیض یبدأ الذکر بحراستها ویثابر على السماح بدخول الماء العذب إلى النفق، ومن جانب آخر یقوم بترمیم الأجزاء التالفة منه، ویستمر فی حراسة النفق حتى بعد عدة أیام من فقس البیض. وفیما بعد یقوم بقطع الجزء العلوی من النفق تارکا السفلی لمعیشة الصغار (48).

مسکن الضفدع "الحداد"

مسکن الضفدع "الحداد"

یعتبر هذا النوع من أبرع البرمائیات فی إنشاء مسکه وهو یعیش فی جنوب إفریقیا، و یقوم الذکر بإنشاء هذا المسکن على ضفة الماء فالذکر یشرع فی الدوران حول نفسه فی الطین حتى یحدث فیه ثقبا واضحا، ومن ثم یقوم بتوسیع حوافی هذا الثقب، وعند اکتمال هذه الخطوة یبدأ بتکوین جدران طینیّة متینة لهذا الثقب وفی النهایة یکون قد أنشأ حوضا مائیا بعمق 10سم، ویبدأ بالجلوس داخل هذا الحوض ویصدر أصواتا یدعو فیها الإناث للتکاثر (التزاوج) ویظل على هذا الوضع حتى یلفت انتباه إحدى الإناث وعند مجیء الأنثى تبدأ بوضع بیضها داخل الحوض أما الذکر فوظیفته تلقیح هذا البیض. وبعد ذلک یبدأ کلاهما بمراقبة هذا البیض حتى فقسه، وعند الفقس تخرج یرقات الضفادع والتی تکون محاطة بغلاف واقی وتبقى فی هذا الحوض بمأمن من خطر الأسماک والحشرات وعندما تترعرع سرعان ما تثبت فوق جدران هذا الحوض المخصص (لرعایة الصغار) لتخرج وتبدأ حیاتها (47).

مساکن التّماسیح

مساکن التّماسیح

تعدّ أنثى التمساح الذی یعیش فی منطقة "أفیرکلیدس" فی فلوریدا مکانا مختلفا جدّا لوضع البض فهی تقوم بجمع النباتات المتعفنة وتخلطها بالطین لتصنع منها تلة ارتفاعها 90سم تقریبا ومن ثم تحفر حفرة فی قمة هذه التلة لتضع فیها بیضها وتغطیها بعد ذلک بالنباتات التی تکون قد جمعتها من قبل ثم تبدأ بحراسة هذه التلة من خطر الأعداء. وعندما یبدأ البیض بالفقس تقترب الأم عند سماع أصوات صغارها وهم یصدرون أصواتا متمیزة و تقوم بإزالة النباتات التی غطتها بها ویبدأ الصغار بالتسلق إلى أعلى, و تجمعهم الأم فی تجویف فمها المتسع وتذهب بهم إلى الماء لیبدأوا حیاتهم (46).

الملاجئ الثّلجیّة للدّب القطبی

الملاجئ الثّلجیّة للدّب القطبی

تنشئ أنثى الدّب القطبی ملجأ ثلجیا عندما تکون حاملا أو بعد وضعها لولیدها, وهذا الملجأ تحت رکام الجلید، و عدا هذا فإنها لا تعیش فی ملاجئ أو مساکن معینة. وعموما تضع الأنثى ولیدها فی منتصف الشتاء, و یکون الولید الصّغیر لحظة ولادته أعمى و لا شعر له إضافة إلى صغر حجمه، لذا فالحاجة ماسة إلى ملجئ لرعایة هذا المولود الصّغیر الضعیف. والملجأ التقلیدی یتم إنشاؤه على شکل مترین طولا ونصف قطره تقریبا أی نصف متر عرضا لأن الملجأ یکون على شکل کرة ارتفاعها نصف متر أیضا. ولکن هذا المسکن أو الملجأ لم ینشأ هکذا دون أیّ اهتمام أو تخطیط بل حفر تحت الجلید بکل عنایة واهتمام وسط بیئة مغطاة بالجلید, وتم توفیر کل وسائل الراحة والرعایة للولید الصغیر فی هذا الملجأ. وعموما فإنّ لهذه الملاجئ أکثر من غرفة تنشؤها الأنثى بمستوى أعلى قلیلا من مدخل الملجأ کی لایسمح للدفء بالتّسرب إلى الخارج.

وطیلة فصل الشتاء تتراکم الثلوج على الملجأ ومدخله وتحافظ الأنثى على قناة صغیرة للتهویه والتنفس، ویکون سقف الملجأ بسمک یتراوح ما بین 75 سم و مترین. و یقوم هذا السقف بدور العازل الحراری فیحافظ على الدفء الموجود داخل الملجإ ولهذا تبقى درجة الحرارة ثابتة داخله (45).

وقام أحد الباحثین فی جامعة أسلو النرویجیة ویدعى Paul Watts بتثبیت محرار فی سقف أحد ملاجئ الدّببة لقیاس درجة الحرارة وتوصّل إلى نتیجة مذهلة, فدرجة الحرارة خارج الملجأ کانت حوالی 30 تحت الصفر أما داخل الملجأ فلم تنزل الحرارة تحت 2-3 أبدا. والظاهرة الملفتة للانتباه هی کیفیة قیاس أنثى الدب لسمک السّقف الثلجی کی یتواءم مع درجة عزله الحراری لداخل الملجأ إضافة إلى کون الوسط داخل الملجأ بهذه الحرارة ملائما للأنثى من ناحیة تنظیم استهلاک مخزونها الدّهنی فی جسمها أثناء سباتها الشتوی, والأمر الآخر المحیر هو خفض أنثى الدب القطبی لجمیع فعالیاتها الحیویة إلى درجة کبیرة أثناء سباتها الشتوی کی لا تصرف طاقة زائدة ولتساعد على إرضاع صغیرها، وطیلة سبعة أشهر تحوّل الدّهن الموجود فی جسمها إلى بروتین لازم لتغذیة صغارها, أما هی فلا تتغذى أبدا وتنخفض دقات قلبها من 70 ضربة فی الدقیقة إلى ثمان ضربات فی الدقیقة وبالتالی تنخفض فعالیاتها الحیویة، ولا تقوم بقضاء حاجاتها أیضا وبهذه الطریقة لا تصرف طاقتها اللازمة لتنشئة الصغار الذین سیلدون فی تلک الفترة.

الأعشاش التی تبنیها الکائنات الحیة المختلفة

الأعشاش التی تبنیها الکائنات الحیة المختلفة

نحل "البامبوس" :یتمیز هذا النوع من النحل بتضحیة وتفان فریدین عند بنائه لخلیته، فالملکة الشابة تبدأ فی البحث عن أنسب مکان لإنشاء الخلیة قبل أن تبدأ بوضع بیضها بفترة قصیرة، وبعد أن تجد المکان المناسب، تکون المرحلة اللاّحقة هی إیجاد المواد اللازمة لبناء الخلیة من ریش أو عشب أو ورقة نباتیة.

فی البدایة تبنی الملکة مکانا خاصا بحجم کرة المنضدة فی وسط الخلیة وتبنیه بواسطة المواد الأولیة التی تجمعها من المحیط الذی توجد فیه، أما المرحلة الآتیة فتتمثل فی عملیة جمع الغذاء للخلیة. فعندما تخرج الملکة تبدأ بالتحلیق راسمة دوائر وهمیة فی الهواء واتجاهها أثناء التحلیق یکون نحو الخلیة دوما وبهذه الطریقة تتذکر موقع خلیتها ولا تنساه، وتقوم بجمع رحیق الأزهار أو لب العسل وعندما ترى الکمیة کافیة تعود لتفرغ ما فی بطنها فی المکان المخصص فی الخلیة. أما الجزء الّذی لا یمکن التّغذّی منه فلا تلفظه خارج الخلیة بل تستخدمه فی صناعة سائل لاصق یفید فی لصق المواد البنائیة للخلیة إضافة إلى دوره کعازل حراری. وبعد تغذیها من هذا العسل تبدأ بإفراز مادة الشمع إضافة إلى استخدامها رحیق الأزهار الذی جمعته فی عمل غرف صغیرة کرویة الشکل لتضع فیها من 8-18 بیضة والتی ستفقس عن أول نحلات عاملة فی الخلیة وتقوم الملکة بسدّ هذه الغرف وما حولها برحیق الأزهار سدا محکما.

ویتم وضع البیض فی هذه الغرف بترتیب محکم لا فوضى فیه. والمهمة الرئیسیة الأخرى هی تغذیة هذه العاملات, لذا تقوم الملکة الشابة بإنشاء أوعیة خاصة من الشّمع تضع فیها خلاصة العسل, وبعد فترة تکوین تتراوح ما بین أربعة و خمسة أیام تجد العاملات الخارجات من البیض غذاء جاهزا لها قوامه لبّ العسل ورحیق الأزهار .

ولو أمعنا النظر فی هذه العملیة بکافة تفاصیلها لوجدنا أمامنا حیوانا غیر عاقل وعدیم المنطق ولکنه یستطیع استخدام خلاصة العسل کأفضل عامل بناء بالإضافة إلى تفانیه لإنشاء خلیة ملیئة بالأفراد الصحیحین النشیطین. أمّا طول هذه الحشرة فلا یتجاوز بضعة سنتمترات. و أول ما یتبادر إلى أذهاننا من سؤال هو لماذا کلّ هذا الإیثار والتضحیة من قبل الملکة ؟ فالملکة بعد خروج العاملات من البیض لا تکسب شیئا ذا بال، بالإضافة إلى وجود احتمال ترکها لخلیتها التی أنشأتها عند قدوم ملکة أخرى تزاحمها فیها. بلا شک هناک سبب لتفانیها هذا وتحملها کل هذا الجهد الدّؤوب وهو الإلهام الإلهی الذی یوجه باقی الکائنات الحیة أیضا. إذن فلا مکان فی عالم الأحیاء لمفهوم الأنانیة التی یقول بها دعاة التطور (43).