الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

کسر الأصنام

إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِیمًا ) النساء 48)





کسر الأصنام

یمثّل الشرک أسلوب عیش شائع فی المجتمعات التی لا تعرف الدین الصحیح. بغفلتهم عن الله، فإن هؤلاء الناس یتبنون آلهة مجتمعهم وبالتالی یشرکون بالله من دون أی تردد. ونتیجة لذلک، فإن معظم الناس لا یظنون أن أعمالهم تمثل عصیاناً على الله وأنه تعالى سیعاقبهم على جهلهم العقائدی. والأکثر من ذلک، فهم ینظرون بإزدراء إلى من یدعوهم إلى الإسلام وترک ما أشرکوا بالله. فی الواقع، فإنهم یجدون ذلک عجیب وغیر مفهوم.

لقد تصرف المشرکون فی عهد رسولنا الکریم(ص) بنفس الطریقة. فقد آمن هؤلاء بوجود الله ولکنهم قسموا أمورهم وشؤونهم بین آلهة متعددة أخرى. التجارة، الحب، الحرب، الزراعة- کلٌ له إلهه الخاص. فهذا النظام "الشرکی" بدا طبیعیاً ومنطقیاً بالکامل لهم، ولذلک، فقد تعجبوا عندما رفض الرسول (ص) هذه الآلهة ودعاهم لیؤمنوا بالله وحده:

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْکَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ کَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَیْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِکُمْ إِنَّ هَذَا لَشَیْءٌ یُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِی الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) ( ص: 7-4)

إن إعلان الرسول (ص) أن لا إله إلا الله وأن جمیع الآلهة من صنع البشر لیس لها أیة قوة، کان إعلان مربک للمشرکین. وأحد أهم أسباب هذا الإرباک کان عجزهم عن فهم کیفیّة عمل نظام مبنی على عبادة إله واحد. فمن سینظم تجارتهم ویضبطها إذا هجروا إله التجارة؟ من سیعینهم على أرض المعرکة إذا هجروا إله الحرب؟ وإذا لم یکن هنالک إله للزراعة، کیف وممن سیطلبون الماء والزرع الجیّد؟ فبسبب عماهم العقائدی، لم یتمکنوا من إدراک أن جمیع هذه الآلهة لا قوّة لها:

(لإِیلافِ قُرَیْشٍ (1) إِیلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّیْفِ (2) فَلْیَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَیْتِ (3) الَّذِی أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) (قریش: 4-1)

إن الناس الیوم یقعون فی الخطأ نفسه. کیف، قد یسألون، سیستطیعوا العیش بعد ترک المبادئ والأشخاص الذین یعتبرونهم کالآلهة ویعبدون الله وحده؟ إن الجواب بسیط جداً: علیهم أن یدرکوا أن الله لدیه القدرة لأن یخلقهم، لأن یرزقهم، ینزل رحمته علیهم، یحمیهم ویحفظهم. إن مستخدمهم الذی یعملون لدیه لا یطعمهم عندما یقوم بدفع مرتبهم، ولکن الله تعالى یفعل ذلک، الذی خلق مستخدمهم وقدّر رزقه وجعله یدفع لهؤلاء أجورهم. إن الأحداث لا تحدث بالصدفة، ولکنّها تحدث بتدخل ربّانی متتابع، کل حدث وفق مشیئته تعالى. لقد خلق الله العالم بقدر وقد خضع له الناس کما ذکر لنا فی سورة التکویر إلى درجة لا یستطیعون معها أن یشاءوا شیئاً إلا أن یشاء هو سبحانه: ...مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِیَتِهَا إِنَّ رَبِّی عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِیم (سورة هود:56)

قد یصوّر الشیطان للناس أن التحرّر من الشرک شیء صعب جداً ومعقد، وأن العیش بالتوحید والإیمان شیء مستحیل. إلا أن هذه الإدعاءات لیست إلا خوف مصدره من قال عن نفسه أنّه کذاب:

وَقَالَ الشَّیْطَانُ لَمَّا قُضِیَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَکُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُکُمْ فَأَخْلَفْتُکُمْ وَمَا کَانَ لِی عَلَیْکُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُکُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِی فَلا تَلُومُونِی وَلُومُوا أَنْفُسَکُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِکُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِیَّ إِنِّی کَفَرْتُ بِمَا أَشْرَکْتُمُونِی مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِینَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ ( إبراهیم : 22)

فإذاً من غیر المنطقی للناس الذین یحاولون أن یکونوا مؤمنین صادقین ومخلصین أن ییأسوا بسبب وساوس الشیطان وتخویفاته الکاذبة.

إن تغییر صادق فی النیة یکفی للتحرّر من الشرک، لأن ذلک سیحوّل رؤیة الشخص من شرکیة إلى توحیدیة. بکلمات أخرى، لا داعی لتنویر کل الأماکن لکی یراها من یضع النظارات السوداء، فیکفی أن ینزع هذا الشخص نظارته فقط. إن الشرک یسد نور الحقیقة بنفس الشکل. إن نزع النظارة بحرکة واحدة هو أمر سهل والطریقة الوحیدة للتحوّل من الشرک إلى الإیمان والصفاء اللذان یحبّهما الله. وذلک لا یتضمن أکثر من قرار التوکل علیه تعالى قی کل الظروف والإلتزام و التمسک بأوامر القرآن ونواهیه. إن هذا الصدق والتصمیم لا شک سیصحبه عون من الله ورحمة، بالإضافة إلى الفلاح فی هذه الدنیا وفی الآخرة.

لا یهدی الناس إلى الصراط المستقیم إلا الله تعالى. فمن شاء إذاً أن یفوز برضوانه تعالى فعلیه أن یسأله دوماً الهدایة، عونه فی عیش حیاة إخلاص وصدق، والتیقن من أنه تعالى سیجیب دعوته. فعلیه أن لا یقع فی فخ التشاؤم الذی ینصبه الشیطان بتساؤله " کیف سأتمکن من تخطی کل ذلک ؟ کیف سأتوصل إلى الإیمان الخالص والنقی؟ " عوضاً عن ذلک، فعلیهم أن یفهموا أن الله سیوجّهم فی الإتجاه الصحیح ویحفظهم من کل إنحراف، شرط أن یظهروا الصدق والتصمیم. وسییسّر لهم تعالى العیش فی الطمأنینة والفرح الذان یصحبان هذا الإیمان.

إن الذین یهجرون آلهتهم المزیفة ویتوجهون إلى الله لن یشعروا أبداً بالفراغ والوحدة، بل على العکس، فإنهم سیبلغون السلام، الراحة، والأمان لأن الله تعالى یقول:

... ذَلِکُمْ یُوعَظُ بِهِ مَنْ کَانَ یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ یَتَّقِ اللَّهَ یَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَیَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لا یَحْتَسِبُ وَمَنْ یَتَوَکَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِکُلِّ شَیْءٍ قَدْراً (3) ( الطلاق 3-2)

ولذلک، فإن الناس الذین هم مدرکون ونادمون أنهم یعیشون وهم مشرکون علیهم الإنتهاء فوراً من عبادة أصنامهم الزائفة، سواء کانت ممتلکاتهم، أموالهم أو أعمالهم. لا شیء مما یملکون یخصّهم فی الواقع. فحتى خبزهم الیومی لا یتوقف علیهم، وثروتهم الکبیرة قد أو قد لا تنتقل إلى أولادهم لیتمتعوا بها، وهکذا دوالیک. فالله تعالى فقط هو الذی بیده کل شیء وهو الذی یعطی الناس ما یشاء. بإدراکهم هذه الأمور، على الناس أن لا یصیبهم الفخر بما یملکون، بل علیهم التفکیر بأسلوب حیاتهم ونظرتهم العقائدیّة بتأنی والقیام بالتغییرات اللازمة. علیهم أن یدرکوا جیداً أن کل ما یملکون هو ملک لله وحده، أنه تعالى أمدّهم بما یملکون لیختبرهم به، وأنهم یجب أن یستخدموا هذه الأشیاء بطریقة ترضیه. بنیة تحریر أنفسهم من کل مشاعر الفخر والتملک، علیهم تحطیم هذه الآلهة بالکامل. فصدقهم فی هذا الأمر، لا یثبت إلا من خلال طریقة معیشتهم اللاحقة وتصمیمهم. فقد یتوجب علیهم إنفاق کل ما یملکون،عندما یلزم الأمر، فی سبیل الله، من دون أی تردّد أو قلق من المستقبل أو کیف سیتمکنوا من الحصول على وجبتهم التالیة. بتوکلهم الکامل على الله، علیهم التذکر دائماً أنه هو وحده تعالى الذی یرزقهم وأن یدرکوا أنهم عاجزین تماماً أمامه.

کما سبق ورأینا، فالفرق بین التوحید والإشراک هو عموماً یتعلق بالنیة وبالمنظور. لقد حطم رسولنا الکریم (ص) الأصنام داخل الکعبة، وأحرق موسى (ع) العجل ورمى برماده فی البحر. هذه الضربات وُجهت إلى تجلیات مادیة للوثنیّة، والتصرف ذاته یجب أن یطبق على الوثنیّة الرمزیة ( أو الخفیّة). فالمهم هو تحطیم مبدأ الوتثنیة والشرک، وذلک لا یتم إلا بتغییر الشخص لنیته ولمنظوره.

ولذلک، فإن التغییر العظیم الذی یختبره المؤمنون الجدد مکانه فی قلوبهم. فبینما قد یبقون على بعض الأمور من حیاتهم السابقة، إلا أنهم سیکون لدیهم منظور وفهم مختلفین کلیاً. بإختصار، فإن عاداتهم الإجتماعیة، معتقدات أسلافهم وأجدادهم، رغباتهم الخاصة وطموحاتهم، وأفکار بعض الناس، کل هذه الأمور ستخلوا من المعنى بالنسبة لهم، لأنهم سینظمون حیاتهم الجدیدة وفق القرآن الکریم لینالوا رضوان الله تعالى. بتوقفهم عن إرضاء آلهتهم الخاصة والوهمیّة، سیستسلمون لله خالقهم، کما قال النبی یوسف (ع)، عندما سأل: ...أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَیْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( یوسف: 39)

ثم قال یوسف (ع) هذه الکلمات التی تنطبق على کل المشرکین فی کل وقت :

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّیْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُکُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُکْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِیَّاهُ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لا یَعْلَمُونَ ( یوسف: 40)

الشرک الخفی

إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِیمًا ) النساء 48)




الشرک الخفی

حتى الآن، تکلّمنا عن الشرک فی معناه العام، أسبابه، کیف ینشأ، والأشکال التی یتخذها. فی هذا الفصل، سننظر إلى نوع أخطر من الشرک: الشرک الخفی.

لقد حذّر نبیّنا الکریم (ص) المؤمنین من هذا النوع من الشرک، وأعطى کمثل على هذا الشرک الخطیر الریاء، وهو حین یراءی الإنسان بأعماله. عن محمود إبن لبید:

خرج النبی (ص) مرّةً فقال: " أیّها الناس "، إحذروا الشرک الخفی ! فسأل الناس،" یا رسول الله، وما الشرک الخفی؟" فقال، "عندما یقوم الرجل للصلاة ویسعى لتجمیل صلاته لأن الناس ینظرون إلیه، هذا هو الشرک الخفی" (جمعه إبن خزیمة)

عن أبو موسى:

خطب فینا رسول الله یوماً قائلاً " أیها الناس، إحذروا الشرک فإنّه أخفى من دب النمل على الأرض". فسأل من شاء الله أن یسأل، "وکیف نتجنّبه وهو أخفى من دب النمل، یا رسول الله؟ فردّ(ص)قائلاً " قولوا اللهم إنّا نعوذ بک من أن نشرک بک ما نعلم ونسألک أن تغفر لنا ما لا نعلم " (جمعه أحمد والطبرانی)

بالرغم من تمکن الناس من إجتناب جمیع أنواع الشرک التی ذکرناها سابقاً، إلا أن علیهم أن یظلوا متیقظین من خداع الذات. فإذا أرادوا أن یصلوا إلى الإیمان "الکامل"، فعلیهم أن یهتموا بهذا الموضوع ویجتنبوا الإعتزاز بأنفسهم:

مُنِیبِینَ إِلَیْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِیمُوا الصَّلاةَ وَلا تَکُونُوا مِنْ الْمُشْرِکِینَ ( الروم: 31)

وَیَقُولُ الَّذِینَ کَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَیْهِ آیَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ یُضِلُّ مَنْ یَشَاءُ وَیَهْدِی إِلَیْهِ مَنْ أَنَابَ ( الرعد: 27)

کما توضح لنا هذه الآیات، فقد ألزم الله المؤمنین بالإیمان "الصافی والنقی" وحرّم علیهم الشرک. وفی نفس الوقت، فقد أبلغهم أنه تعالى سیهدی من ینیب إلیه إلى الصراط المستقیم. بکلام آخر، من شاء الهدایة من الله، فعلیه تجنب جمیع أنواع الشرک وأن یجعل الله مبتغاه. ولکن ماذا یعنی هذا حقا؟

ما یعنیه ذلک هو أن یجعل الشخص من الله ولیّه ونصیره الوحید، ویسعى إلى إرضائه وحده، ولا یعتمد إلا على رحمته تعالى. فمبتغى الإنسان الوحید هو أن ینال حب الله ورضوانه. ولهذا السبب، فعلى هذا الشخص أن یعیش وفقاً لشروط الله، أوامره ونواهیه. أمّا إرضاء الأخرین ونیل موافقتهم وإستحسانهم، فهو یأتی فی المرتبة الثانیة بالنسبة إلى هذا الشخص، فهو لا یطلب شیئاً من هذه الدنیا إلا أن یکون ولیّاً لله تعالى وینال رضوانه. کل إنسان مؤمن یقرأ هذه الکلمات قد یعتقد أنّه یملک هذه الصفات. ولکن بدلاً من الثقة الزائدة بنفسه، فعلیه أن یتأمّل مطولاً وبعمق فی هذا الموضوع وأن یسعى دوماً إلى تحسین نفسه.

التذکّر أن الله على کل شیء وکیل

إن الّذین یکرّسون أنفسهم کلیّاً لله تعالى یتوکّلون علیه وحده، لأنّهم یعلمون أنه هو وحده الوکیل على کل شیء. إذاً، فلا حاجة لهم بدعاء من هم دونه. إن الذین لدیهم هذا التوکل لا یخافون ولا یحزنون، ولا یزعجهم أی شیء قد یلاقوه فی حیاتهم. مدرکین أن الله یختبرهم فی کل الأمور، فهم یقبلون هذا ویلجأون إلیه تعالى. وبتوقیرهم لربوبیّته تعالى، فهم یشعرون بالرضى بما قدر لهم بحکمته. ففی یعلمون جیداً أنه یوجد خیر کثیر فی کل الإختبارات الّتی یمرون بها:

کُتِبَ عَلَیْکُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ کُرْهٌ لَکُمْ وَعَسى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئاً وَهُوَ خَیْرٌ لَکُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَیْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَکُمْ وَاللَّهُ یَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( البقرة: 216)

إذاً، فالمؤمنون حقا لا ینحرفون عندما یواجهون الأحداث والمواقف التی قد یعتبرها الکافرون خطیرة وفظیعة. فهم یثبتون فی توکلهم على الله، لأنهم لو شککوا فی ربهم ولو للحظات فهذا یعنی أن ثقتهم بالله ناقصة، وأنهم قد أخفقوا فی تقدیر قدرته وحکمته تعالى. وهذا یمثل إقتراباً من الشرک، وهو شیء لیس للمؤمن فیه عذر.

وهنا قد یظهر الشرک الخفی کخطر عظیم. فمثلاً، من الخطأ جداً للذین یجدون أنفسهم فی وضع صعب أن یقول فی نفسه:" إنی عموماً شخص مؤمن ومسلّم، ولدی توکل کامل على الله، غیر أنّه قد یصیبنی الخوف فی بعض الأحیان فتتزعزع ثقتی بالله وتسلیمی له ". إن خداع الذات أمر خطیر جداً فی هذه الحالات. من الواضح أن من یتبع هذا المنطق لیس لدیه توکل حقیقی على الله. فحتى لو أقرّ هؤلاء بوجوده تعالى، فإن مجرّد التفکیر فی التسویة فیما یختص بإیمانهم یؤکد نقص فی التسلیم والتوکل لدیهم وإخفاق فی فهم قدرة الله وقوّته. وهکذا موقف وتصرّف لا نجده إلا بین المشرکین.

أما الذین یکرسون أنفسهم لله فهم یسلّمون بصدق للقدر الذی کتبه لهم، فهم یعلمون أنه لا یمکن تغییره بأی حال. ویقول الله أن کل ما نختبره مکتوب فی اللوح المحفوظ وأننا لا نختبر إلا ما کتب تعالى:

وَمَا تَکُونُ فِی شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ کُنَّا عَلَیْکُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِیضُونَ فِیهِ وَمَا یَعْزُبُ عَنْ رَبِّکَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِی الأَرْضِ وَلا فِی السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِکَ وَلا أَکْبَرَ إِلاَّ فِی کِتَابٍ مُبِینٍ ( یونس : 61)

بکلام آخر، فإن کل حدث فی حیاة الإنسان، من دون إستثناء، مکتوب فی الکتاب. کونهم مدرکین لذلک، فإن المؤمنون یقیّمون ما یحدث لهم وفقاً لهذا الإدراک، یبحثون عن الجمال فی تفاصیل قدرهم، ویتجنّبون بذلک خطأ الندم، عدم الرضا والحزن. من دون إستثناء، فالمؤمنون راضون فی کل وقت من حیاتهم.

أما إذا لم یکن الحال کذلک، فهذا یعنی أن إیمان الشخص ضعیف وأنه واقع فی الشرک. بالرغم من قول بعض الناس أنهم یؤمنون بالله و بالیوم الآخر، وأنهم مسلمون، إلا أنهم لیسوا راضین بالعیش بالتسلیم والتوکل الذی أمر به القرآن. هذا الإخفاق فی فهم المعنى الحقیقی للقدر هو أشارة إلى الشرک الخفی.

إذا،ً فمشاعر الشخص وردات فعله تجاه الأحداث تمثل أهمیّة بالغة. فعلى جمیع الأشخاص الذین یعتبرون أنفسهم مؤمنین حقاً أن یعیدوا التفکیر فی حیاتهم بأکملها، طریقة عیشهم یوماً بیوم، أحاسیسهم، أفکارهم، مشاعرهم، نظرتهم إلى الحیاة، وأهم شیء، عقلهم الباطنی لیبحثوا عن أی ضعف أو خلل فی إیمانهم.

قد یکون الشرک فی بعض الأحیان متجذراً فی حیاة الإنسان. فالخوف مثلاً قد یمنع الناس من العیش مع إیمان خالص. فی الواقع، فهم عالقین بإهتمامات ومشاغل تتعلّق بالمستقبل لدرجة أنهم یبدأون بنسیان أوامر الله ونواهیه فی سبیل تأمین مستقبلهم. إن تصرفهم هذا یتضمن القیام بتنازلات ضروریة بالنسبة إلى الدین. أو أنهم حتى قد ینظرون إلى هذه المصاعب على أنها غیر مرحّب بها ویثورون على الله تعالى. وهنا ینسى معظم الناس قدرة الله وسلطانه ویقعون فی الشرک الخفی. فبنسیانهم أن الله وحده هو الذی بیده مستقبلهم، یرزقهم ما یملکون، ویمحی الصعوبات من حیاتهم، فهم یسعون إلى المعونة من جهات أخرى.

على کل شخص أن یتجنّب بقوّة هذا التصرّف الخاطئ، وبحال وجد نفسه فی هکذا موقف، أن یترکه فوراً. فعلیه أن ینظر إلى وضعه من وجهة النظر القرآنیّة، أی یتذکر أن الله على کل شیء قدیر وأنّه تعالى ربّ کل شیء.

فإذا أصاب أحد الأشخاص مرض خبیث أو شلل دائم فی حادث ما، فإن کان یعتبر نفسه مؤمن صادق وحقیقی، فهو لن یشعربالحزن الشدید أو القلق. فی الواقع، فإنه لن یشتکی حتى من هذه الصعوبات، بل إنه سیستقبل هذا الوضع الجدید بالتسلیم والرضى، على علم منه أن هذا ما قدّره الله له، وأنه أذا صبر على ما أصابه، فسینال الثواب العظیم فی الآخرة. فالمؤمنین الصادقین یتحملون کل أنواع المصاعب برضى وینظرون إلى الخیر والحکمة من وراءها. وهم لا یفعلون ذلک لمواساة أنفسهم، بل لأنهم یوقنون أن الخیر موجود فی هذه الصعوبات. بإدراکهم لحقیقة أن الله قدر مصیرهم وأن کل ما یحدث یحدث لحکمة ما، فهم یتأملون فی أمور حیاتهم، و یبقون على صبرهم وثباتهم فی کل الأوقات.

کل شخص قد یختبر أحداث غیر متوقعة فی أی وقت، کأن یُظلم أو یُفترى علیه الکذب، أو أن یُعتدى علیه شفهیاً أو جسدیاً. ولکن من کان بریئاً من الشرک الخفی أو الظاهر لا ینسى قدره ولا یصبح أبداً فریسة لمشاعره وأحزانه، ولا یقلقه شیء. فهو یتذکر دوماً أن الله على کل شیء وکیل وأن أی شیء یصیبه هو فی دائرة قدره الله تعالى له. فنجده یقابل الشر بالخیر، کما یأمر القرآن.

قد یمر المؤمنون عبر أحداث قد تشکل رعباً حقیقیاً بالنسبة للکافرین، ولکنها تبدو عادیة بالنسبة لهم. فالمؤمنون الصادقون لا یشعرون بالخوف ولا بالقلق، لأنهم وضعوا کامل ثقتهم بالله. ففی حال فقدوا عائلتهم مثلاً وکل ما یملکون فی وقت واحد، فهم یثبتون على تسلیمهم وخضوعهم لله تعالى فی کل وقت. وفی وجه ما قد یعتبره الکافرون مصیبة، فإن إیمانهم، خضوعهم، تسلیمهم، وتوکلهم على الله لا یتزعزع. فهم لن یصیبهم الحزن أو یتحولوا إلى ضحایا تشاؤمهم، حزنهم، ویأسهم.

على الناس أن یفکروا بصدق فی کیفیة تصرفهم فی مواقف کالتی ذکرناها، ومن ثم إتخاد التدابیر اللازمة لتجنب الوقوع فی الشرک الخفی. فإن الإعتقاد کما یفعل الکثیرون أن "ذلک شیء بسیط لا یضر"، معتبرین ردود فعلهم الجاهلة والخاطئة خلال الأوضاع الصعبة أمر طبیعی وبسیط، أو الإرتکاز بردات فعلهم على ردّات فعل الآخرین قد یقود أیضاً الشرک الخفی :

وَإِنْ تُطِعْ أَکْثَرَ مَنْ فِی الأَرْضِ یُضِلُّوکَ عَنْ سَبِیلِ اللَّهِ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ یَخْرُصُونَ ( الأنعام: 116)

عامل آخر قد یقود الناس إلى الشرک هو الإعتقاد بإن شخص ما ناجح بسبب مجهوده الخاص. فمن الخطأ الجسیم لمن یقوم مثلاً بخطاب ما، نسبة خطابه الناجح إلى نفسه ومنطقه وذکاءه، فالله فقط هوالذی أراد لهذا الشخص أن یقدم ذلک الخطاب. أو بحال کان شخص ما ناجح، یقوم بالإکتشافات العلمیة، أو یخترع أشیائاً لتسهیل الحیاة على الناس، فکل ما یعنیه ذلک هو أن الله شاء ذلک فی قدر هذا الإنسان. لا یستطیع الناس أن یکونوا السبب فی نجاحهم، فالتصدیق بذلک، ومن ثم التفاخر بإنجازاتهم یعنی نسیانهم لربّهم :

وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ کَانَ عَلِیماً حَکِیماً ( الإنسان:30)

على الناس حین یمرّون بالمحن والأمور السلبیّة ( مصائب وکوارث، أمراض، إصابات) أن یتذکروا أن هذه الأمور کلها هی جزء من قدرهم. فلا یجب أن تعزى هذه المصائب إلى سائق متهور مثلاً، لأن هذا یعنی عدم فهمهم لحقائق الإیمان. بالتأکید فإن الله خلق مختلف الأسباب التی تُعزى هذه الأمور لها، ولکن کل هذه الأسباب هی تحت سیطرة الله وعلمه. فالذین یعلمون هذه الحقائق قد عرفوا جیداً قدره تعالى. أما الآخرین الذین یرفضون تقبّل ذلک، فهم قد سقطوا فی الشرک الخفی. فمع أن مرض شخص ما مثلاً سببه جرثومة، إلا أن الله هو الذی خلق هذه الجرثومة وجعلها تؤدی وظیفتها وهدفها الذی یتمثل فی إمراض ذلک الشخص وذلک تحقیقاً لقدره. ویعطینا تعالى مثلاً للصعوبة التی واجهها المؤمنون على زمن الرسول (ص):

وَمَا أَصَابَکُمْ یَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِیَعْلَمَ الْمُؤْمِنِینَ (166) وَلِیَعْلَمَ الَّذِینَ نَافَقُوا وَقِیلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاکُمْ هُمْ لِلْکُفْرِ یَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِیمَانِ یَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا یَکْتُمُونَ (167) ( آل عمران: 167-166)

بمعنى آخر، فبما أن کل الأحداث تحدث بمشیئة الله، فلیس هنالک سبب منطقی للغفلة عن واقع أن کل شیء ضمن إرادته وسیطرته تعالى. فبما أنه العلیم، فکل دقیقة من حیاة الشخص تحدث لأنه تعالى شاء ذلک. لا یهم کیف قد یبدو حدث ما، ولکنه یحمل دائماً حکمة کبیرة معه. ولکن الناس، مؤمنون وغیر مومنین قد لا یفهمون دوماً الحکم من وراء بعض الأحداث. فأحیاناً قد یتمکنوا من فهمها، فیشکرون الله، وأحیاناً أخرى قد لا یکون ذلک فی مقدورهم ذلک إلا أنهم یحافظون على ثقتهم بربّهم، لعلمهم أنه یخلق کل شیء لخیر وحکمة.

منطق" ألقلیل من الإیمان والقلیل من الشرک "هو خطأ کبیر

أن الشرک الخفی یمثل خداع خطیر للذات مصدره تبنی المنطق الذی یقوم على مبدأ " قلیل من الإیمان وقلیل من الشرک " و" لا یضر قلیل من الشرک مع الإیمان ". یجب على کل المؤمنین أن یکرّسوا أنفسهم لله فی کل وقت وأن لا یقوموا بالتنازلات والتسویات فی هذا الأمر، لأن هذه الأمور هی من المتطلبات الأساسیة للإیمان والمنطق. فإذاً، علیهم أن لا یعتقدوا بتاتاً أن أی شخص أو جهة ما غیر الله تملک أی قوّة أو قدرة حقیقیّة. ویأکّد القرآن على هذه الحقیقة کالتالی :

قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِینَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَیْرٌ أَمَّا یُشْرِکُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَکُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا کَانَ لَکُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ یَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِیَ وَجَعَلَ بَیْنَ الْبَحْرَیْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَکْثَرُهُمْ لا یَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ یُجِیبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَکْشِفُ السُّوءَ وَیَجْعَلُکُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِیلاً مَا تَذَکَّرُونَ (62) أَمَّنْ یَهْدِیکُمْ فِی ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ یُرْسِلُ الرِّیَاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا یُشْرِکُونَ (63) أَمَّنْ یَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ یُعِیدُهُ وَمَنْ یَرْزُقُکُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَکُمْ إِنْ کُنتُمْ صَادِقِینَ (64) ( النمل: 64-59)

کما نرى من الآیات السابقة، فإن کل ما یحدث یحدث فقط لأن الله أراد له الحدوث. إن نسیان هذا الواقع والإعتقاد أن أی شیء یحدث بطریقة مستقلة عن الله هو فی الحقیقة شرک به تعالى.

أن الشرک الخفی هو العائق الأصعب أمام تحوّل إیمان المرء إلى إیمان صحیح وحقیقی. فإن الشخص لا یکون مؤمناً حقّاً إلى إذا کان إیمانه نقی من کل شائبة. فالبحث عن حلٍ وسط، أو التخیّل أن أی جهة تملک قوة أو سلطان حقیقی هو من الشرک. إن التظاهر بعدم فهم هذه الحقیقة لا جدوى منه ولیس إلا خداعاً للنفس. إن الأمور التی تُناقش هنا هی وقائع یجب على المسلمین أن یتفکّروا فیها ویعملوا بجهد لیحقّقوها فی حیاتهم فی أسرع وقت ممکن. إن إعتقاد الشخص بإنه منیع ضد هذا الخطر وأنه بالإمکان العیش "کنصف مسلم" هو لیس فقط شیء غیر منطقی، ولکنه السبب لحیاة مضطربة ومتعِبة. على الناس أن یقیسوا رغباتهم فی الدنیا وفق الشریعة، وأن یکتشفوا أخطاءهم ثم یقومون بتصحیحها. فلا أحد یعلم متى یموت ویُدعى إلى الحساب.

قد لا یعانی الناس من ضرر کبیر إذا قاموا بتأجیل أمور أخرى. غیر أن عدم إیجاد الحل الصحیح لهذا الأمر الأساسی یشکل خطرٌ وخطأ کبیرین، کونه أمر بالغ الأهمیّة. فالشرک هو الخط الفاصل بین الإیمان والشرک، والشرک الخفی هوالسدّ الخادع الذی یمنع الناس من رؤیة الحقیقة، یغبش منطقهم ورؤیتهم، یدفعهم إلى نسیان سبب وجودهم، ویقودهم إلى الغفلة عن یوم الحساب.

فما أن یعی الناس أنهم قد سقطوا فی الشرک، فمن السهل أن یحرروا أنفسهم. فکل ما علیهم فعله هو أن یقدِروا الله الذی هو خالقهم، حقّ قدره. فمن یعتقد بأن فعل ذلک أمر صعب فهو مخطىء ومتوهّم. فی الواقع، فأن هذا التصرف یعکس صدقهم وإخلاصهم. فالله لا یرید إلا شیئین إثنین من المؤمنین: إخلاص کامل له وحده وإیمان متکامل به بصفته مالک القوة والسلطان الحقیقیین.

أن من یملکون هذه الصفات لن یلاقوا إلا الفلاح، السرور، والنعم من الله تعالى حین یرجعون إلیه لا یشرکون به شیئاً:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُم فِی الأَرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمْ الَّذِی ارْتَضَى لَهُمْ وَلَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً یَعْبُدُونَنِی لا یُشْرِکُونَ بِی شَیْئاً وَمَنْ کَفَرَ بَعْدَ ذَلِکَ فَأُوْلَئِکَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} ( النور: 55)

إن حالة المؤمنین فی الآخرة تصفها هذه الآیة:

إِنَّ الْمُنَافِقِینَ فِی الدَّرْکِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِیراً (145) إِلاَّ الَّذِینَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِینَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِکَ مَعَ الْمُؤْمِنِینَ وَسَوْفَ یُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِینَ أَجْراً عَظِیماً (146) ( النساء:146-145)

العاطفة: خطر قد یقود إلى الشرک

إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِیمًا ) النساء 48)




العاطفة: خطر قد یقود إلى الشرک

کما قلنا سابقاً، لیس للشرک أی أساس عقلانی أو منطقی. فإن الشخص لا یبدأ بالتفکیر کیف سیتّخذ آلهة أخرى ویجعل لله الشرکاء. فی الواقع، عندما یبدأ الناس بالتفکیر بوضوح و یستعملون منطقهم وضمیرهم للتفکّر فی محیطهم، فإنهم سرعان ما یعلمون أن الله هو الإله الوحید. غیر أن بعض الناس، الأکثریة ربّما، لا یتفکرون، وبالتالى یسلکون السبل المنحرفة.

إن الفشل فی الإلتزام بهذه الحقیقة، أی لا إله إلا الله، حتى عندما یتقبّلها الشخص عقلیاً ومنطقیاّ، مصدره العوامل العاطفیة المتعددة التی تؤثّر على تفکیر الشخص ومنطقه. بهدف الإیجاز، فإننا سنشیر إلى ذلک على أنه " العاطفیة " أو " الرومانتیکیة ".

یستطیع الناس أن یفکروا ویتصرفوا بطریقة صحیحة فقط عندما یحکّمون عقلهم. العدید من الآیات القرآنیة تصف کیف یفقه المؤمنون الحقائق المهمة باستخدام عقلهم وکیف أن المشرکین والمنافقین یجدون أنفسهم دائماً فی المآزق بسبب عدم إستخدامهم لعقلهم. أحد أهم الأسباب لهذا هو أنهم یتصرفون فقط طبقاً لعواطفهم. فالعاطفة، التی تطمس المنطق، تجعل الناس عرضة لإیحائات الشیطان وتجعلهم ألعوبة بین یدیه. فهو، عبر هذا " السلاح " یوجّه المشرکین کیفما یشاء و یسوقهم إلى الإنحراف والضلال.

إن الله تعالى یمنح المشاعر کالحب، الخوف، الثقة، الحاجة، والأمان للناس منذ ولادتهم. على الناس أن یستعینوا بهذه الصفات لنیل رضوان الله، إتّباع هداه، والدفاع عن الخیر والحقیقة. ولکن بحال تحوّلت هذه المشاعر عن هدفها الحقیقی، فإنها تصبح تمثّل قوة تدفع بالشخص نحو الشیطان والشرک. إذا وُجّهت هذه المشاعر نحو الخیر، وهو هدفها الصحیح، فإنها تقود صاحبها إلى الإیمان، الصفاء، وإلى الله تعالى. أما إذا اتّجهت نحو الشر، فإنها تسوقه إلى الشرک. فی الحالة الأولى، سینتظر المؤمنون ثوابهم من الله، وفی الحالة الثانیة، وهی التی تتعلّق بإعطاء صفة الألوهیة لکینونات من صنع البشر وللأهواء الشخصیة، فلن یلاقی الکافرون إلا غضب الله وعذابه.

إن الفئة الثانیة من الناس لا تدرک ( أو لا تهتم ) أن الحب، الحمد، التعظیم، الخوف، التوقیر، الثقة، والدعاء یجب أن یُوجّهوا إلى الله، لأن لیس هنالک مصدر آخر ورازقُ لکل شیء، ولیس هناک مالک حقیقی للقدرة والجمال، العلم والقوة سوى هو تعالى. إذا نسب أحد صفة من هذه الصفات إلى غیر الله، فهو یکون قد وقع فی الشرک.

سنقوم الآن بتفحص مشاعر الحب، الخوف، والإستعانة لنبیّن کیف أن الفشل فی السیطرة على هذه المشاعر باستعمال المنطق، ثم تأسیس حیاة المرء على هذه القرارات الخاطئة المتأثرة بهذه المشاعر، قد یودی بالإنسان إلى الشرک.

الحب

یُدرک المؤمنون أنّ بما أن الله هو الذی خلقهم، فهو الوحید الذی یستحق حبّهم وإخلاصهم. بعد أن أنشأئهم من العدم، فقد إستمر تعالى بتلبیة کل إحتیاجات عباده الجسدیة والروحیة، وبمدّهم بالنعم التی لا تُحصى. والأکثر من ذلک أنّه طالما أن عباده یؤمنون به ویطیعوه، فالله سیجزیهم خیرالجزاء من نعمٍ وبرکاتٍ فی الدنیا والآخرة، بالإضافة إلى ما هو خیر من کل ذلک، رضوانه تعالى. فهو یعطی کل هذه الأشیاء من دون مقابل، کرحمة وکرم منه. فإذا علمنا کل ذلک، فکیف یُعقل أن یستحق أی فرد من الخلق حب الإنسان وإخلاصه.

إن سبب من أسباب الحب هو الإهتمام والعجب الذی یشعر به الشخص عندما یواجه الصفات الرائعة والجمیلة لمحبوبه. وعندما یصبح هذا الإهتمام والعجب متبادلان بین الطرفین، تتحوّل العلاقة إلى رابط حب قوی. غیر أن ما یهمّ هنا هو أن یدرک الشخص لمن ینتمی هذا الجمال والتفوّق فی الواقع، ثم ان یوجّه مشاعر الإهتمام والإعجاب فی الإتجاه الصحیح، أی الله، مصدر کل الجمال، الروعة، والصفات العلیا. فهذه الصفات التی قد تبدو متأصلة فی خلقه لیست سوى إنعکاسات لصفاته العلیا، وهی فی الحقیقة ملک له وحده تعالى. فمتى أقررنا أن الله تتجلى صفاته وقدراته فی عباده، فإن أی حب یشعر به المرء لا بد أن یکون لله وحده. فإذا کان لیس هذا هو الحال، فقد وقع الإنسان فی خطأ الشرک بالله.

بالتاکید أن الشعور بالحب لیس خطأً. ولکن الخطأ هو نسیان الله والتعلّق بشغف وتعصب بما هو غیره تعالى أو بترک الأمور التی ترضیه تعالى. عندما ینظر الإنسان بعین الإیمان، فإن کل الجمال ألذی عند البشر یراه على أنه ملک لله. إن الذین یدرکون ذلک سیتوجّهون له تعالى و هم یعون أنهم بحبهم للأشخاص الآخرین، فهم فی الواقع یحبّون الله. أما حب المشرکین، فهو مختلف:

وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَیْنِکُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا ثُمَّ یَوْمَ الْقِیَامَةِ یَکْفُرُ بَعْضُکُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ یَوْمَ الْقِیَامَةِ یَکْفُرُ بَعْضُکُمْ بِبَعْضٍ وَیَلْعَنُ بَعْضُکُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاکُمْ النَّارُ وَمَا لَکُمْ مِنْ نَاصِرِینَ (العنکبوت: 25)

إن رابط الحب هذا سیتحوّل إلى کراهیة ورفض مشترک، لأن هذه الأوثان التی تتعلّق بها الناس عبر الروابط العاطفیة ستعود علیهم بالعذاب فی الآخرة. لا أحد یتّخذ من الله إلهاً وحیداً له یستطیع أن یحبّ أی شیء أو شخص أکثر مما یحب الله. أما بالنسبة إلى المشرکین، فیقول القرآن:

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ یَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً یُحِبُّونَهُمْ کَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِینَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ یَرَى الَّذِینَ ظَلَمُوا إِذْ یَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِیعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعَذَابِ (البقرة: 165)

إن المؤمنون یوجّهون حبّهم کله إلى الله، لأن عدم فعل ذلک یعنی أنهم لیسوا صادقین فی إیمانهم أو إن علمهم بالله والإسلام ناقص. فی الواقع، فإن الذین یجعلون لله الشرکاء لدیهم فهم خاطئ عنه تعالى. مع عدم قدرتهم على تأسیس علاقة قریبة مع الله وتقدیره حق قدره، فإنهم یوجّهون حبهم نحو غیره.

من الجیّد هنا أن نرکّز على العلاقة بین الرجل والإمرأة، وهو الشکل الأکثر وضوحاً ومشاهدةً للحب الذی ینتج عنه الشرک. فی هذه العلاقات، فإن أی حبٍ وتعلُقٍ بالآخر مبنی بشکل مستقل عن رضوان الله هو سبب کبیر للإنحراف نحو الشرک. فلذلک نرى أن هذه العلاقات مبنیة على ما یُعرف بالرومانتیکیة، العاطفة، الأحاسیس، والفائدة المشترکة، لأن الشخص هنا یبحث عن إرضاء الشریک. ومن دون أی تردد بالنسبة إلى التعدّی على الحدود التی وضعها الله للناس، فی سبیل إسعاد أنفسهم، یوجّه کل شخص من أصحاب هذه العلاقة کل الحب الذی منحه إیاه الله إلى شریکه، وعاجلاً أم آجلاً ینسون ألله. والنتیجة أشخاص یؤدّون واجباتهم تجاه بعضهم البعض، ینسون واجبات الله ویرى الواحد الآخر على أنّه مستقل عن الله تعالى. یصف القرآن هذا العلاقات على أنّها عبادة متبادلة وتألیه للشخص الآخر.

یذکر القرآن حب النساء المملوء شهوةً وشغفاً الذی نجده فی هذه العلاقات. فإذا کان هذا الحب یتسبب فی نسیان الإنسان لربّه وعدم ذکره کما ینبغی، أو إذا کان الشخص یفضّل حب النساء على حب الله، فاستحوذ هذا الحب على قلبه الذی أصبح فارغاً من حب الله، فإنه فی هذه الحال سیتحوّل مع الوقت إلى الشرک. وذلک کلّه ینطبق أیضاً على الأنثى فی هذه العلاقة. ویخبرنا القرآن أن هذا الحب الذی یعتبره المجتمع " بریئاّ "، فی الواقع لا یرضی الله تعالى.

إن المجتمع یسمّی هذا النوع " الشرکی" من الحب " الحب الحقیقی"، " الحب الرومنسی"، و" الإحساس النقی"، وهو حتّى یُثنی على هذا الحب ویشجّعه. بما أن هذه الحملة الدعائیة "الرومنسیة" تعوق التطوّر الذهنی والعقلی للأشخاص الناشئین، فإنّنا نلحظ ظهور الأجیال الغافلة عن الدّین، الإیمان، وسبب وجودهم. بما أنّهم لم یعرفوا الله، فهم لا یشعرون بأی حب، ورع، أو توقیر له تعالى. بالنسبة لهم، الشرک هو شکل طبیعی من التصرّف، و أسلوب حیاة مقبول. بالتأکید أن باستطاعة الناس أن یحبوا وأن یشعروا بالعاطفة تجاه بعضهم البعض، ولکن لیس بطریقة مستقلّة عن الله.

إن الحب الذی یشعر به المؤمنون هو حبٌ شفّاف، مشع یبعث الطمأنینة فی القلب، لأنه موجّه إلى الله. فهم یحبّون الآخرین لأنهم لیسوا إلا تجلیّات من الله. ولهذا نجد أن المؤمنون لا یحزنون کثیراً عندما یموت أحد أحبابهم أو عندما یخسرون شیئاً عزیزاً على قلبهم. فهم یعتبرون أن کل الجمال الروحی والجسدی فی المحبوب هو فی الواقع ملک لله الذی هو أقرب إلیهم من حبل الورید، فهذه الخسارة لیست إلا إسترجاع لإحدى تجلیاته تعالى بهدف إختبار هذا الشخص. فطالما أن هذا الشخص ثابت على الإیمان والفهم، فإن الله سیستمر بالتجلی بأحلى صفاته. بما أن المؤمنین الذین یملکون الإیمان الصحیح مدرکون لهذه الحقیقة، فإنهم منیعون لکل أشکال الأسى والحزن:

إِنَّ الَّذِینَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلا هُمْ یَحْزَنُونَ (الأحقاف: 13)

أما المشرکون، فهم یعانون فی قلوبهم من آلام الفراق حین یموت الشخص الّذی أحبّوه وکرّسوا أنفسهم من أجله. فکل إنسان أو شیء فضلّوه على الله تعالى وجعلوه ندّا له سیکون مصدر عذاب لهم فی الدنیا والآخرة. إن هذا الأمر یشکّل موضوعاً لکثیر من الأغانی، القصائد، الروایات، والأفلام، التی هی أکثرها مکرّسة لمواضیع مثل الفراق، الخیانة، الهجر، الحب الغیر متبادل، الموت، الألم، والعذاب الذی ینتج عن کل ذلک.

فآلام هؤلاء التی تبدأ فی هذه الدنیا سوف تستمرّ فی الآخرة، وبشکل أشدّ وأقوى من الناحیة الروحیة والجسدیّة. ویذکر القرآن النار التی تطّلع على القلوب.(الهُمَزَة:7-5) فکل شکل من أشکال ألم القلوب فی هذه الدنیا یمثّل جزء یسیر من العذاب الأکبر الذی سیلاقیه المشرکون فی جهنّم. فالله ینتقم فی الدنیا وفی الآخرة من الذین خانوه وجعلوا له الشرکاء من دون علم.

الخوف

عامل آخر یقود الناس إلى الشرک هو الخوف. ذلک الشعور، الذی من المفترض أن یوجّه فقط إلى الله، عندما یوجّهُ نحو أحد من عباده، ویؤثر على موقف الشخص وتصرّفاته، فإن هذا الشعور یصبح فی خانة الشرک. یعلم المؤمنون أن الله هو وحده الذی یستحق أن یخافوا منه ویوقّروه. فهو القوی العزیز، بیده کل الأمور، وهو الذی أخضع کل شیء لإرادته. فلا شیء یستطیع أن یضرّ الإنسان بغیر إذنه تعالى، وهو فقط یستطیع أن یکشف الضرّ. إن الخوف من أیة جهة غیر الله یعنی أن الإنسان یعتقد أن هذه الجهة لها وجود مستقل عن الله وأنها خارج نطاق سیطرته:

وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَیْنِ اثْنَیْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِیَّایَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِی السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّینُ وَاصِباً أَفَغَیْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) (النحل: 52-51)

أَلَیْسَ اللَّهُ بِکَافٍ عَبْدَهُ وَیُخَوِّفُونَکَ بِالَّذِینَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ یُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (الزمر:36)

کما تؤکّد لنا هذه الآیات، فإن المشرکین یخافون من الناس وحتّى من المؤمنین بدلاً من أن یخافوا من الله، وهذا شعور منحرفٌ سببه قلة الفهم لدیهم:

لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِی صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا یَفْقَهُونَ (الحشر:13)

الإستعانة والتوکل

کل کائن دون الله هو فقط خلق من خلقه یوجد فقط لأن الله أراد ذلک، وهو حیٌ لأن الله یمدّه بما یلزم من الرزق وأسباب البقاء. بإختصار، فإن کل شیء باستثنائه تعالى، هو عاجز، فقیر، محتاج، ولا یملک أیة قوّة أو قدرة خاصة به. أذاً، باستثناء الله، فلا یوجد شیء نتوکل علیه أو نستعین به. إن رفض هذه الحقیقة والتوکل على الأسباب، الوسائل، والأشخاص، یعنی نسبة الإستقلالیة والقدرة الذاتیة لهم، وبإختصار، فإن ذلک شرک:

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ یُنصَرُونَ (74) لا یَسْتَطِیعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ (75) (یس:74-75)

لقد حذّر النبی محمّد (ص) أصحابه من طلب العون من غیر ألله تعالى. یقوله (ص): إذا سألت فاسئل الله.

یخبرنا القرآن أن المشرکین سرعان ما یتحوّلون إلى عبید للأوهام التی خلقوها. فبنسیانهم لله وسعیهم لإرضاء خلقه، لحمایة أنفسهم کما یعتقدون، فهم یعیشون حیاتهم فی حقارة وذلّ، فی سبیل إرضاء هذه الأصنام. غیر أن هذه الأصنام ستخیّب کل الآمال التی یضعها هؤلاء فیها. وهذا جزء یسیر من الخزی الذی یلاقوه جرّاء انحرافهم عن منهج الله.

یصف الله عدم الجدوى فی اتباع الناس لآلهة ابتدعوها:

یَا أَیُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ یَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ یَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَیْئاً لا یَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (الحج:73)

هنا أیضاً نرى عجز هذه الآلهة:

أَیُشْرِکُونَ مَا لاَ یَخْلُقُ شَیْئاً وَهُمْ یُخْلَقُونَ (191) وَلاَ یَسْتَطِیعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ یَنصُرُونَ (192) (الإعراف:192-191)

وَالَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا یَسْتَطِیعُونَ نَصْرَکُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ یَنصُرُونَ (الأعراف: 197)

ولکن بالرغم من کل ذلک، یستمرّ الناس فی التوجّه والتوسل بالدعاء إلى هذه الأصنام. أما بالنسبة إلى مصیرهم، فیخبرنا القرآن:

فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَکُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِینَ (الشورى: 213)

تطلعنا سورة الکهف على قصة الرجل صاحب الحدیقة الرائعة، التی ملئت بالنخل والثمر، والذی لقی الخزی والعذاب فی هذه الدنیا. فقد کان شدید الفخر بحدیقته وما یملک، وادّعى أن هذه الأشیاء ستدوم له ولن تفنى أبداً وأن یوم الحساب لن یأتی. ولکن حین أنزل الله به العقاب وأصبحت هذه الحدیقة الرائعة خاویة على عروشها، أدرک فداحة خطأه بجعله الشرکاء لله:

وَأُحِیطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ یُقَلِّبُ کَفَّیْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِیهَا وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَیَقُولُ یَا لَیْتَنِی لَمْ أُشْرِکْ بِرَبِّی أَحَداً (42) وَلَمْ تَکُنْ لَهُ فِئَةٌ یَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا کَانَ مُنتَصِراً (43) (الکهف:43-42)

أن الذین یعلّقون آمالهم على غیر الله، الذین یضعون ثقتهم فی غیره تعالى، وأیضاً یسعون إلى إرضاء غیره، فهؤلاء لن یبلغوا مبتغاهم. ولذا، فإنهم دوماً یشعرون بالفراغ، الوحدة، وبأنهم مهجورون، وخاصة فی الأوقات الصعبة:

لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (الإسراء:22)

ونرى فی القرآن مثلاً رائعاً لوصف حالهم هذا:

ذَلِکَ وَمَنْ یُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَکُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا یُتْلَى عَلَیْکُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَیْرَ مُشْرِکِینَ بِهِ وَمَنْ یُشْرِکْ بِاللَّهِ فَکَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّیْرُ أَوْ تَهْوِی بِهِ الرِّیحُ فِی مَکَانٍ سَحِیقٍ (31) (الحج: 31-30)

فی المقابل، المؤمنون الذین یضعون ثقتهم ویعتمدون على الله وحده، الذین یفردونه فی العبادة ویطلبون منه المعونة، یعیشین حیاتهم متمتعین بالنعم، الإحترام، والإعتزاز:الَّذِینَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِکْرِ اللَّه..."(سورة الرعد:28). عندما یکون قلب الإنسان مطمئن بذکر الله، فإنه لا یحتاج إلى أی شیء آخر، حتى عندما یواجه صعوبات کثیرة. فهم مکرّمین کالنبی یعقوب (ع) الذی قال: ..إِنَّمَا أَشْکُو بَثِّی وَحُزْنِی إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون (یوسف:86). وهذا الموقف یعود إلى فهم المؤمنین الصحیح للقدر:

{قُلْ لَنْ یُصِیبَنَا إِلاَّ مَا کَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْیَتَوَکَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:51)

عندما یجتمع الحب، التوکّل، والرجاء فی قلب المؤمن، فالذی نحصل علیه هو الولایة من الله التی وصفت فی القرآن الکریم والتی تتمثل بالمودّة والنصرة منه تعالى:

إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْکُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ یُحْیِ وَیُمِیتُ وَمَا لَکُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِیٍّ وَلا نَصِیرٍ (التوبة:116)

بما أن الله هو الوحید الذی یملک القوة الحقیقیة، فکل شیء إذاً یعتمد علیه تعالى:

قُلْ أَغَیْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِیّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ یُطْعِمُ وَلا یُطْعَمُ قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَکُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَکُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِکِینَ (الأنعام:14)

غیر أن إحدى أهم الصفات لدى المشرکین هی إصرارهم على إتخاذ أولیاء من دون الله، مع أن التولّی عن الله وإتخاذ عباده أولیاء یمثّل إثماً عظیماً یجرّ العواقب الوخیمة:

أَفَحَسِبَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنْ یَتَّخِذُوا عِبَادِی مِنْ دُونِی أَوْلِیَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْکَافِرِینَ نُزُلاً (الکهف:102)

بینما یتّخذ المؤمنون الله وحده ولیّاً لهم، فإن الکافرون والمشرکون ینظرون إلى الشیطان على إنّه ولیّهم. بطاعتهم لأوامره، فهم یستهزئون بالقرآن الکریم والحدود التی وضعها الله تعالى لخیر البشر، یتعمّدون جعل الشرکاء له، لا یذکرونه، ویظهرون ولائهم وإنتمائهم للشیطان. هذا التصرّف الّلا عقلانی یؤدّی بصاحبه إلى أسوأ خاتمة:

کُتِبَ عَلَیْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ یُضِلُّهُ وَیَهْدِیهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِیرِ (الحج:4)

الشعور بالإمتنان

یلقى الناس جمیع أنواع النعم طیلة حیاتهم. وبما أن أکثر هذه النعم قد تُردّ إلى مختلف الأسباب، فإن من الطبیعة البشریّة توجیه الشکر والإمتنان إلى تلک الأسباب بدلاً من توجیهها نحو الله تعالى. یستخدم القرآن عبارة " الشکر" لوصف هذا الشعور بالإمتنان. غیر أن على الجمیع أن یعلم أنه مهما کانت هذه الوسائل والأسباب، فإن علیهم أن یدرکوا أن الله هو وحده الذی یمدّ بالنعم وأن لا یتوکّلوا إلا علیه تعالى. إذاً، فهذه العبارة (أی الشکر)، تدلّ على إقرار نابع من قلب الشخص ولسانه، لإمتنان هذا الشخص لله والإعتراف بفضله علیه.

فالشکر والإمتنان لله هما دلیل على العبودیة الصادقة:

یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُلُوا مِنْ طَیِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاکُمْ وَاشْکُرُوا لِلَّهِ إِنْ کُنتُمْ إِیَّاهُ تَعْبُدُونَ (سورة البقرة:172)

فَکُلُوا مِمَّا رَزَقَکُمْ اللَّهُ حَلالاً طَیِّباً وَاشْکُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ کُنْتُمْ إِیَّاهُ تَعْبُدُونَ (سورة النحل:114)

کما تظهر لنا هذه الآیات، فإن التوجّه بالشکر لله هو شرط أساسی وبرهان على صدق الإنسان فی عبادته لله تعالى. فهذا التصرّف یدلّ على أن ذلک الشخص مدرک تماماً أن الله هو وحده الرزّاق وأنه على کل شیء وکیل. إن فهم ذلک یعنی أن الشخص یعلم تماماً أن القوة، القدرة، والسلطان لله وحده. إذاً، فإن إیمان هذا الأنسان سلیم، وهذا الشخص یجسّد مثال الإنسان المؤمن والشکور الذی وُصفه الله فی القرآن وأثنى علیه، وهو قد نجح فی تحقیق شرط مهم من شروط الإیمان الصحیح.

أما المشرکون، فهم ینسبون النعم التی یتمتّعون بها إلى الأسباب والآلهة التی إبتدعوها، وضعوا أمالهم فیها، و وجّهوا إمتنانهم إلیها. بإتّخاذهم هذه الآلهة العاجزة، فإنهم یتعامون عن حقیقة أن الله هو خالق هذه الإسباب والجهات التی یألـّهونها، وجعلها تبدو وکأنّها جهات مستقلّة بجعل إعمالها تحدث. فمن الشرک وعدم الإمتنان نسیان الله، التوجه إلى عباده بإعتبارهم یملکون القوة والتأثیر، ثم التوجّه إلیهم بالشکر.

إن ذلک لا یعنی أنّه من الخطأ أن یشکر الناس بعضهم بعضاً، طالما أنهم یذکرون أن الله هو الذی ییسّر لهم هذه الأرزاق، النعم والحاجات، ویتصرّفون وفق هذه القناعة. أما المشرکون فهم یقومون بالتسویات والتنازلات لصالح آلهتهم على حساب الإیمان ورضوان الله تعالى:

إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْکاً إِنَّ الَّذِینَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا یَمْلِکُونَ لَکُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْکُرُوا لَهُ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ (العنکبوت: 17)

بخلاف المشرکین، فإن المؤمنین یشکرون الله وحده ویشعرون بالإمتنان له وحده. فهم یتوجّهون إلیه عندما یحصلون على النعم، یشکروه، ویُدرکون أن ما یحصلون علیه هو من منّ الله علیهم. ولنأخذ کمثل على ذلک عندما جعل تعالى زکریّا کفیلاً على مریم :

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَکَفَّلَهَا زَکَرِیَّا کُلَّمَا دَخَلَ عَلَیْهَا زَکَرِیَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ یَا مَرْیَمُ أَنَّى لَکِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یَرْزُقُ مَنْ یَشَاءُ بِغَیْرِ حِسَابٍ ( آل عمران: 37)

من الواضح أن مریم (ر) کانت مدرکة أن کل النعم الممنوحة لها کانت من الله. ومثل آخر هو توجّه النبی سلیمان (ع) إلى الله تعالى :

قَالَ یَا أَیُّهَا المَلأ أَیُّکُمْ یَأْتِینِی بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ یَأْتُونِی مُسْلِمِینَ ( النمل: 38-40)

حتّى بعد حصوله على مبتغاه بشکل سریع، فقد توجّه سلیمان فوراً إلى الله وقام شکره أوّلاً بدلاً من الذی أحضر له العرش. وهکذا یجب أن یکون تصرف المؤمنین ، فالّذین ینسون الله یضعون آمالهم فی الوسائل والأسباب معتقدین أن النعم والإرزاق تأتی منها. فإی شخص یفکّر بهذه الطریقة یکون قد جعل الشرکاء لله تعالى.

أن الشرک بالله وتقدیم الشکر له هما عملان متناقضان . یقول الله تعالى عن إبراهیم (ع):

إِنَّ إِبْرَاهِیمَ کَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِیفاً وَلَمْ یَکُنْ مِنَ الْمُشْرِکِینَ (120) شَاکِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ (121) ( النحل:121-120)

کما رأینا، فإن الإمتنان یصحبه الإیمان والإخلاص عندما یوجّه نحو الله تعالى، ویصحبه الشرک فی حال وُجّه نحو غیره. إن الشکر على النعم مهم جداً، ولذا، فإن من أهمّ أهداف الشیطان جعل الناس غیر شکورین. یخبرنا القرآن عن ذلک على لسان الشیطان نفسه :

قَالَ فَبِمَا أَغْوَیْتَنِی لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَکَ الْمُسْتَقِیمَ (16) ثُمَّ لآتِیَنَّهُمْ مِنْ بَیْنِ أَیْدِیهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَیْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَکْثَرَهُمْ شَاکِرِینَ (17) ( الأعراف:17-16)

لقد نظرنا حتى الآن إلى بعض المشاعر التی تسوق الناس إلى الشرک. بینما تشکّل تلک أهم المشاعر، فهناک بعض المشاعر الأخرى مثل الحزن، الطیبة، والکراهیة.

فمثلاً، لنتخیّل شخص ما یحزن جداً ویتألم کثیراً بسبب موت إبنه الصغیر أو حیوانه الألیف.هذا الحرن المصحوب بالألم قد یقود هذا الشخص إلى الثمرّد على الله والشرک به.ولکن لو لجأ هذا الشخص إلى المنطق وفکّر بتجرّد من الحزن الشدید والعاطفة، فسیرى الحقیقة بطریقة واضحة وشفّافة. فمن وجهة النظر الإیمانیّة، الموت یشکّل خلاصاً بالنسبة إلى الأطفال، المؤمنین، والحیوانات البریئة، وأنتقال إلى دار الخلود وحیاة رائعة. وهو باب یعبر منه الناس إلى حضرة الله تعالى. أما من وجهة نظر الشیطان وأتباعه، فالموت هو الوقت الذی تنتهی فیه الرغبات والشهوات، والوقت الذی یُفتح فیه باب العذاب الأبدی الموعود. إذاً، فالشیطان یرى الموت على أنّه شیء فظیع ویسعى إلى جعل الآخرین یرونه بنفس الطریقة. وهذا التحلیل صحیح من موقعه، ولکنّه لا ینطبق على المؤمنین الصادقین. فالنسبة لهم فإن الموت یأتی معه الجنّة والسعادة.

متى إستخدم الشخص المنطق وارتقى فوق مشاعره وأحاسیسه، فسیرى الحقائق بوضوح ویتصرّف وِفقاً لها. فالأمور التی تبدو للأشخاص العاطفیین ذوی العقل المشوّش بالغة التعقید، لا حل لها ولا تفسیر، قد تبدو سهلة، واضحة، وبسیطة للمؤمنین. إن الأشخاص الذین جرفتهم مشاعرهم وأحاسیسهم ترکوا المنطق والعقل ورائهم لیکملوا طریقهم نحو العذاب الأبدی بسبب مستنقع الشرک الذی أغرقوا أنفسهم فیه، وتسلیم إرادتهم للشیطان.


أسباب الشرک الرئیسیة

إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِیمًا ) النساء 48)




أسباب الشرک الرئیسیة

عاملان أساسیان یقودان الناس إلى الشرک: الجهل العقائدی وعدم الإخلاص. لإجتناب الشرک، فإن على الناس أن یمتلکوا الإیمان المطلوب والکافی وأن یتحاشوا کل أنواع عدم الصدق والإخلاص.

الجهل العقائدی

إن من أهم العوامل التی أطلعنا الله تعالى علیها فیما یتعلق بالقیم الأخلاقیة الدینیة هی الجهل العقائدی:

وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجَارَکَ فَأَجِرْهُ حَتَّى یَسْمَعَ کَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا یَعْلَمُونَ (التوبة 6)

فقط القرآن یحتوی على العلم الأساسی للعقیدة الصحیحة ، لأن ما من کتاب آخر یصف بدقة ماذا یعنی الإیمان بإله واحد الذی هو الله تعالى، یعرف لنا مفهوم الأوثان والآلهة المعبودة من الناس، یشرح لنا الشکل الذی یجب أن یکون علیه الإیمان الصحیح، یفصل لنا التصرف والعقلیة التی ترضی الله، یظهر ضلال الذین انحرفوا نحو الشرک، یفضح خطط الشیطان وخداعه، ویطلعنا على المواقف والتصرفات التی علینا اجتنابها.

على القارئ أن یعی أن هذا العلم ألذی نتکلم عنه هنا لیس مجرد تجمیع للوقائع، لإن " العلم "، کما یعرفه القرآن، هو الذی یؤثر على قلب الأنسان ویستحث قلبه وعقله. فإذا تعلم الناس العلوم المذکورة فی القرآن من دون أن یتفکروا فیها کما یجب، فلا یتوقعوا الحصول على أیة إفادة منها.

تخبرنا عدة آیات عن وحدانیة الله وأن أی شیء سوى الله قد یعتبره الناس إلهاً، هو فی الواقع غیر موجود. وتطلعنا على الشرک، أشکاله المتعددة، وأتباعه. لقد ذکر القرآن هذه الأمور بشکل متکرر ومفصل للتأثیر على الناس وجعلهم یدرکون مدى أهمیة فهم هذه المصطلحات. فالذین لم یقرؤوا ویتفکروا فی القرآن، هم، بحسب القرآن، جاهلین عقائدیاً.

إن موقف هؤلاء شبیه بموقف المجتمعات المشرکة ما قبل الإسلام. هذه المرحلة عُرفت بین العرب المسلمین کونها "مرحلة الجهل العقائدی". أن الذین یرفضون الإسلام، بغض النظر عن متى وأین یعیشون، یُعتبرون جاهلین عقائدیاً. فبما أن القرآن أُوحی منذ 1400 سنة، ونجده الیوم مترجماً إلى أکثر اللغات، فلا یوجد أی سبب أو تبریر لهکذا جهل أو شرک. قد یدعی الناس الإخلاص فی دینهم، ولکن إذا کان إیمانهم مرتکز على الأباطیل والخرافات المتوارثة، فإنهم یبقون على جهلهم هذا لأنهم لا یعیشون حسب قیم القرآن، ولم یفهموا بعد العقیدة بالشکل الصحیح الذی أراده الله لهم:

وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَیْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ کَانَ آبَاؤُهُمْ لا یَعْلَمُونَ شَیْئاً وَلا یَهْتَدُونَ (المائدة: 104)

لقد قام العدید من الأنبیاء بوصف المشرکین على أنهم قوم جاهلون عقائدیاً:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِی إِسْرَائِیلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ یَعْکُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا یَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً کَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّکُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (الأعراف: 138)

وَاذْکُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّی أَخَافُ عَلَیْکُمْ عَذَابَ یَوْمٍ عَظِیمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِکَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ کُنْتَ مِنْ الصَّادِقِینَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُکُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَکِنِّی أَرَاکُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) (الأحقاف: 23-21 )

إن مفهوم الجهل الذی ذکر فی الآیة له معنى هام، لأنه لا یشمل فقط عدم العلم، ولکن أیضاً العجز عن فهم الحقائق حتى عندما یراها الشخص و یتعرف إلیها. بنو إسرائیل الذین عرفوا النبی موسى (ع) والتوراة التی أنزلت علیه، والذین شهدوا معاناته مع فرعون، هم خیرمثال على ذلک، فهم اتخذوا آلهة أخرى حتى بعد أن جاءهم العلم. فکان الأمر وکأنهم لم یعلموا شیئاً. والأغرب من ذلک أنهم سألوا موسى (ع) أن یجعل لهم صنماً لیعبدوه. وهذا یظهر لنا أن النجاة من الجهل العقائدی یکمن فی التعلم وأیضاً فی فهم هذا العلم الذی یدخل قلب المرء فیؤثر فیه وینعکس فی أفکاره وتصرفاته.

وهذا هو الخطأ الذی ارتکبه بعض الناس الأوائل الذین انحرفوا إلى الشرک، وخاصة بعض الیهود (ونحن نعتذر هنا من الصادقین منهم ). فمع أنهم کان لدیهم العلم الکافی ومع أنهم درسوه وفقهوه جیداً إلا أنهم أصروا على ضلالهم. ویصف القرآن هؤلاء بالحمار الذی حُمل الأسفار:

{مَثَلُ الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوهَا کَمَثَلِ الْحِمَارِ یَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ) (الجمعة: 5 )

ویخبرنا القرآن أیضاً.

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ یُؤْمِنُوا لَکُمْ وَقَدْ کَانَ فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَسْمَعُونَ کَلامَ اللَّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ یَعْلَمُونَ (البقرة:75 ).

بکلام آخر، فإن امتلاک العلم الربانی لیس کافیاً. فالمرء یحتاج إلى قلب صادق وسلیم، قلب متجذر فیه التقوى والتوقیر لله تعالى، لفهم وتقدیر هذا العلم کما ینبغی.

عدم الصدق

یعرّف القرآن لناعدم الصدق بأنه رفض الإلتزام بالأمور التی ذکرناها سابقاً، حتى بعد تعلمها وفهمها، وذلک بهدف الحفاظ على المصالح الدنیویة. إن الذین یقرأون القرآن ویحکّمون المنطق والعقل یستطیعون أن یفهموا بسهولة أی نوع من التصرفات والفضائل ترضی الله تعالى. فبعد الإطّلاع على هذا العلم، فعلى الشخص أن یلتزم به ویبنی حیاته على أساسه وذلک حسب درجة الصدق لدیه.

أما من کان غیر صادق فإنه سیترک هذه الحقائق من دون أی تردد لتحصیل فوائد ومصالح قلیلة. فبسعیهم وراء رغبات، أطماع، وشهوات الدنیا، فإن هؤلاء یتعدّون الحدود التی وضعها الله لمصلحة الناس. وبتجاهلهم لأوامره ونواهیه، فإنهم یعیشون لهذه الدنیا فقط ویبیعون آخرتهم مقابل لا شیء فعلیاً.

کما رأینا سابقاً، فإن الذین یجعلون لله أنداداً وشرکاء لن یبرؤوا من هذا الإثم العظیم إلا إذا تخلّصوا من هذا المعتقد المنحرف وتابوا بصدقٍ إلى الله. لا یمثل إظهارهم لأکثردرجات التشکیک والتدقیق فی الأمور التی لا تتعارض مع مصالحهم الدنیویة أی فرق. فمثلاً، فإن المحافظة على بعض الواجبات الدینیة قد لا یعود علیهم بأیة فائدة بحال تعمّدوا تجاهل أمر واحد من أوامره تعالى- إذا أهملوا إقامة الصلوات الخمس، مثلاً- فإذا استمروا بسلوک هذا الطریق، فإن ذلک قد یؤدّی إلى انحرافهم إلى الشرک. فبما أنهم ینتقون ویختارون من الدین الأوامرو النواهی التی یرغبون بالإلتزام بها، فإنهم بذلک قد حوّلوا أهوائهم إلى أله یتّبعوه.

وَلَقَدْ أُوحِیَ إِلَیْکَ وَإِلَى الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکَ لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ وَلَتَکُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِینَ (65) بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَکُنْ مِنْ الشَّاکِرِینَ (66) (الزمر: 66-65)

کما نرى، فإن عدم الصدق بهذا المعنى لیس محصوراً بهؤلاء البعیدین عن الأخلاقیة الدینیة. فبعض الأشخاص الذین یتحوّلون إلى الشرک بسبب عدم صدقهم یطبّقون المعاییر المزدوجة وفی نفس الوقت یحافظون على الظهور بمظهر الوَرَع. بکلام آخر، فهم یسعون إلى إشباع رغباتهم بإضافة دوافع دینیة إلى حیاتهم. ولکن محاولة إراحة ضمائرهم عن طریق خداع الذات لن تنجح. فهم یتقیّدون بالدین وفق أهوائهم الشخصیة، ولیس وفق أوامر ونواهی الله تعالى، وبذلک ینشأون، ویعیشون طبقاً لهذا الدین الخاص الذی أنشأوه. أما المخلصین فی دینهم، الذین یلتزمون بما أنزل الله عوضاً عن رغباتهم، دوافعهم الخاصة وآرائهم الشخصیة، فهؤلاء یسعون فقط إلى رحمة ورضوان الله. فکونهم عباد مخلصین له، لا یسعهم فعل إلا ذلک. فهم لا یتخیّرون أبداً بین أهوائهم و دینهم.

أما المشرکین، الذین یملکون عقلیّة مختلفة تماماً عن عقلیة المؤمنین، فهم من البدایة غیر مخلصین لله تعالى. مع أنه یعلم ما فی قلوبهم، نیّاتهم، أکاذیبهم، وکل أعمالهم، فإنهم یستمرون فی اتباع طریقتهم الخاصة القائمة على النفاق مع إعتقادهم المنحرف أنه تعالى سیتقبّل أعذارهم الکاذبة. فهم دوماً یقنعون أنفسهم بهذه " الحقیقة "، لأن أغلبهم یردون حین یُسألون، أنهم یستحقون الجنة.

ولکن القرآن یخبرنا شیئاً مختلفاً: إن الذین یتّجهون على علم نحو الشرک، على الرغم من معرفتهم للحقیقة، قد فقدوا القدرة على التحلیل المنطقی. فإذاً لیس هنالک جدوى من توقّع أی منطق أو عقلانیة فی معاییرهم المزدوجة الغیر مفهومة والکاذبة. ولهذا السبب فإننا نرى أن الغفلة وعدم القدرة على تقدیر الله تعالى حق قدره یکمن وراء عدم صدقهم، وبالتالى جعل الأنداد والشرکاء له سبحانه:

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِیعاً قَبْضَتُهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِیَّاتٌ بِیَمِینِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا یُشْرِکُونَ (الزمر: 67)

أن المشرکین المنافقین والغیر صادقین یشکّلون خطر على أنفسهم وعلى الآخرین، لأنهم یدعون هؤلاء إلى اتّباعهم. إن السبیل الوحید للخروج من هذه المشکلة یتمثّل فی إخلاصهم لله وإدراکهم أنه تعالى سوف یتغمّدهم برحمته فی حال تابوا إلیه توبة صادقة. وهذا یتضمّن اللجوء إلى الله بقلب صادق مع تأسیس حیاتهم على رضوانه تعالى، تعلّم الحقائق القرآنیة، وتطبیق ما تعلموا فی حیاتهم. غیر أنهم لن ینجحوا بذلک إلا بحال أسلموا لله بأسرع وقت، بشکل کامل ومن دون أیّة شروط، وحینها یأملون بنیل رحمته تعالى:

قُلْ یَا عِبَادِی الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ (53) وَأَنِیبُوا إِلَى رَبِّکُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَکُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَیْکُمْ مِنْ رَبِّکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَکُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) (الزمر: 55-53)

صفات المشرکین

إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِیمًا ) النساء 48)



صفات المشرکین

إحدى الصفات الرئیسیة فی مجتمعات المشرکین هی التعصب الدینی، الذی یعرفه القرآن بأن بحصر الشخص حیاته وینظمها حسب مبادىْ، أوامر، ونواهی من صنع الإنسان، ولا ترتکز على أی أدلة عقلانیة صحیحة أو منطقیة.فی حالة الدین، فإن هذا المصطلح یشیر إلى الذین یستبدلون تعالیم الدین الصحیحة ویستبدلونها بأحکام ومبادئ مرتکزة على الظن والتخمین. وقد یُنسب هذا التصرف فی بعض الأحیان بطریقة خاطئة إلى المسلمین الملتزمین، مع أنه فی الحقیقة یصف المشرکین الذین یتبعون قوانینهم، شروطهم الخاصة والإباحات والتحریمات التی جاءت بها أدیانهم المشوهة، و إدعاءهم بأنهم یتـبعون الدین الصحیح. فی الواقع، فإن التعصب هو العامل الأساسی الذی یشجع المشرکین على تبنی هذا الدین الذی تملأه الخرافات. فشهوات الدنیا تمیل بصاحبها نحو التعصب وصفات سلبیة أخرى.

قد یجد المشرکون أن العیش مع هذه العصبیة والدفاع عنها أکثر إغراء لهم من إلتزام الطریق القویم. فهم یستمدون متعة خاصة نتیجة اتباعهم لهذه التعالیم التی تکون أحیاناً صوفیة، غامضة وملغزة ، وهذا، فی الواقع، من الأسباب الأساسیة لضلال العدید من الیهود منذ زمن النبی موسى (ع). فبعض الیهود المحافظین یظهرون الیوم بمظهر الإخلاص والتقوى- ونحن نعتذر من الذین هم فعلاً هکذا- هم فی الواقع ملتزمون بدقة بالشرائع الدینیة التی قاموا بتأسیسها بأنفسهم. غیر أن هذا الدین لیس الدین الصحیح الذی أنزله الله، وهؤلاء لا یمارسونه لنیل رضوانه ولکن للحصول على الشهوات المستمدة من العیش وفقاً لتعصب الشخص فی المحافظة على ما هو قدیم ومتوارث.

یملأ المشرکون أدیانهم المبنیة على العصبیة بالرموز، العادات، والطقوس الغریبة. ونتیجة لذلک، یصبحون یعرفون من حولهم علىأنهم أشخاص أتقیاء وعلى درجة عالیة من التقوى والإخلاص لله تعالى، ویصبحون مع الوقت یتمتعون بمکانة مرموقة فی مجتمعهم. غیر أن هذا التعصب فی الواقع لیس سوى نظام اسسوه لإرضاء أنفسهم، لأن، ولسبب ما، فإن جوهر وحقیقة دین الله، أو، للتوضیح أکثر، محتویاته والنظام الذی یقوم علیه لیس کافیاً لهم. هم لا یتقبلون واقع أن الإسلام دین یسر یرتکز على الوضوح و المنطق. فهم یشعرون بالراحة فقط لو کان الإسلام فیه "عسر"، لأن ذلک سیتیح لهم إستعراض "تقواهم" للناس الآخرین. إن عدم ارتیاحهم لواقع أنه یکفی أن یرى الله وحده أعمالهم، یجعلهم یفضلون إتباع دین قام بتأسیسه البشر، مما یتیح للناس الآخرین أن یراقبوا ویعلقوا على "تقواهم وإلتزامهم".

ولکن بخلاف مشرکی ما قبل الإسلام الذی کانوا ینتمون إلى الأدیان المنزلة قبل الإسلام، فإن هؤلاء المشرکین المتأخرین لیس بمقدورهم تغییر ولو کلمة واحدة من القرآن، الکتاب الأخیر الذی أنزله الله تعالى. لقد أنبأنا نبینا (ص) أنه لن یُنزل أی کتاب من بعده، ولن یأتی أی دین آخر، وأن القرآن یصلح حتى یوم القیامة. لقد قام الله وسیقوم بحفظ القرآن. إذاً، فمن أراد بصدق أن یتعلم ما هو الإسلام، وما هی متطلباته، بطریقة واضحة ومفصلة، یستطیع ذلک بأن یتخذ من القرآن الکریم والسنة النبویة الشریفة قدوة له.

المشرکون، فی المقابل، یدافعون عن معتقداتهم الباطلة التی تصد الناس عن القرآن. کما تخبرنا آیة من القرآن، فإنهم یقولون الباطل مرتکزین على تخمیناتهم وظنونهم. بإضمارهم مختلف الفرضیات بما یتعلّق بالله، فإنهم دوماً فی حالة من عدم الأمان والغم. وأحیاناً، فإنهم یحاولون استرجاع ثقتهم بأنفسهم وتصمیمهم بواسطة العدوان، السخریة، الإستهزاء وعدم الإکتراث برأی الغیر.

وفی الوقت نفسه، فهم جاهلون عقائدیاً و روحیاً، فحتى لو قرؤا وحفظوا کتباً لا تحصى، فهم لن یتنوروا بالقرآن الکریم ولن یعرفوا الله کما یجب، لأنه تعالى عرف عن نفسه فقط فی القرآن الکریم. هکذا أشخاص یعبدون إلهاً مختلفاً جداً، إلهاً صنعه البشر وهو یرتکز على دینهم الباطل. فجهلهم وغیاب منطقهم ینعکس بالتالى على کل ما یفعلون. بعجزهم عن فهم القرآن فإن جهلهم العقائدی، غیاب عقلهم، ومنطقهم الناقص یسبب لهم باستمرار الإحراج أمام الأشخاص الآخرین. بما أنهم مخلصین لدین باطل ومتناقض، فهم لا یستطیعون أن یدافعوا عن دینهم بشکل منطقی.

هؤلاء لا یتوجهون مباشرة إلى الله أو یقیمون علاقة قریبة معه لأن قلوبهم قاسیة ولا یشعرون بأی قرب أو إخلاص له تعالى. الإسلام على ألسنتهم، ولکن لیس فی قلوبهم. فهم یجعلون الوسطاء للوصول إلى الله، یعتبرون إرضائهم والحصول على موافقتهم کافیین، ویظنون أن هؤلاء قادرون على مساعدتهم. غیر أن جمیع هؤلاء الوسطاء فی الواقع یبعدوهم أکثر فأکثر عن الله ویزیدون من شرکهم:

وَیَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا یَضُرُّهُمْ وَلا یَنْفَعُهُمْ وَیَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا یَعْلَمُ فِی السَّمَوَاتِ وَلا فِی الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا یُشْرِکُونَ (18) (یونس 18)

إن واقع کونهم بعیدین عن الله یعنی أنهم أیضاً بعیدین عن قیمه الأخلاقیة. بما أنهم لا یقرأون القرآن، أو أنهم یقرأونه فقط بخلفیة شرکیة تمنعهم من فهمه بالطریقة الصحیحة، فإنهم یُحرمون من البرکات، العلم، القیم الأخلاقیة الرائعة، والفضائل الروحیة التی یقدمها للمؤمنین. لا یستطیع المشرکون رؤیة مناقبه الفضیلة، لأن ما یستهویهم أکثر هو کل أنواع الفجور واللا أخلاقیة والخداع. عدا عن ذلک، فهم مستعدون لکبت ضمائرهم وتعدی الحدود التی وضعها الله للبشریة لتبریر مواقفهم عندما یجدون أنفسهم فی مواقف صعبة أو عندما تتعارض رغباتهم وشهواتهم مع الإسلام .

صفة أخرى من صفات هؤلاء هی البخل. تطلعنا آیة فی القرآن الکریم أن المؤمنین یستخدمون ما زاد عن حاجتهم من المال للإهتمام بالآخرین.أما المشرکون فی المقابل، فإنهم لاینفقون إلا القلیل- وحتى ذلک، فإنهم یفعلونه للریاء. إن تکدیس الممتلکات و الثروات یشکل واحدة من أهم نزواتهم. فی الحقیقة، فإن ذلک أحب إلیهم بکثیر من الإنفاق فی سبیل الله. بما أنهم یفتقدون الإیمان الحقیقی، وبالتالى لیس لدیهم ثقة فی الله أو خضوع له، فهم یخافون دائماً مما یخبئه المستقبل لهم.

یسثمر المشرکون باستمرار فی مستقبلهم. بالتأکید، فإن هذا العمل لا شیء فیه. غیر أنه لا یجب أن یتحول إلى شغف مستهلکاً لصاحبه، لأن هکذا موقف یبرهن عن غیاب الخضوع الحقیقی لله تعالى وأیضاً عن نقص فی إیمان الشخص وإدراکه أن الله هو الرازق الوحید.

زیادة على ذلک، یتصف المشرکون بالحسد، الطمع، الأنانیة، وعدة رذائل أخرى. بما أن لیس لدیهم حس حقیقی للجمال أو الفن، فهم یتصرفون بخشونة مع الآخرین ویحاولون إظهار ذلک على أنه دلیل على تفوّقهم وقربهم من الله. وهم أیضاً یسیطر علیهم الخوف، ولا یعلمون سبب ذلک:

بَلْ اللَّهُ مَوْلاکُمْ وَهُوَ خَیْرُ النَّاصِرِینَ (150) سَنُلْقِی فِی قُلُوبِ الَّذِینَ کَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَکُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ یُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِینَ (151) (آل عمران:151)

علاوة على ذلک، فهم متشائمین و لیسوا سعداء، فالمشاکل، الصعوبات، المصائب، والأحزان لا تترکهم. وهذا (فی الدنیا) بدایة العذاب والخزی الذی سیلاقونه فی الآخرة. وعدا عن ذلک، فهم ثائرون على الله عن غیر وعی، لأنهم یرفضون التخلی عن دینهم الباطل، الذی یدعون أنهم یمارسونه بإسمه، والذی بنوا علیه أسالیب معیشتهم، ترکیبات أسَرِهم، محیطهم، وعلاقاتهم الإجتماعیة والمهنیة. ولهذا، فهم لا یناسبهم هجرة أسالیبهم القدیمة.

إن إحدى أهم صفات المشرکین هی " إنما المشرکون نجسُ " (التوبة: 28). وهذا مؤشر على أنهم نَجسین جسدیاً وروحیاً. فإن أجسادهم، ثیابهم ومحیطهم قد تبلغ من الوساخة بحیث تصبح تعرض صحتهم للخطر. بما أن عاداتهم الغذائیة مبنیة على الخرافات والتعالیم البشریة، فإنه یظهر عندهم فی بعض الأحیان خلل جسدى أو معنوی بسبب غذائهم الغیر متوازن.

صحتهم الفکریة هی أیضاً لیست بخیر، فطریقة عیشهم السلبیة والغیر صحیة تؤثر على نموهم الذهنی وأدائهم العقلی. وهذا ینطبق على مقدرة الحکم على الأمور أیضاً، التی تجعل خطابهم وتصرفهم غیر متوازنَین، متناقضین، وبعیدین عن المنطق. کونهم عرضة لتقلب المزاج، فإنهم قد تتملکهم الإثارة فجأة، فیختبرون تقلب سریع فی المزاج من الیأس إلى العدائیة، أو یتکلمون بطریقة غیر مریحة، بصوت عال، وبنبرة غیر متوازنة.

إن کل هذه الصفات تتسبب بإبعاد الناس عی الدین. بإعتقادهم أنهم یخدمون القیم الأخلاقیة الدینیة وأنهم یحاربون الإلحاد، فإنهم فی الواقع یتسببون للدین بأذى أکبر من الأذى الذی الذی یتسبب به الملحدون. فی الحقیقة، فإنهم غیر مدرکون أن أعمالهم الکثیرة هذه تؤثر سلباً على الدین الصحیح:

وَمَنْ یَعْشُ عَنْ ذِکْرِ الرَّحْمَنِ نُقَیِّضْ لَهُ شَیْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِینٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَیَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِیلِ وَیَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) (الزخرف 37-36)

عندما یخبرهم أحد بذلک، فإنهم إما یعجزون عن، أو یرفضون فهم هذا الأمر لأنهم لیسوا صادقین فی الأمور التی تختص بالدین. حتى لو قرأوا کتب ومقالات عن هذا الموضوع، فأنهم سیبقون غیر مدرکین لواقع أنهم لا یتعاملون بالطریقة المباشرة والصحیحة مع هذا الموضوع. ولو أنهم أدرکوا ذلک، لادعوا العکس. حتى ولو کانت کل هذه الأوصاف تنطبق علیهم حرفیاً، فسیبقون على رفضهم لهذا الأمر ویبحثون عن الشرک فی مکان أخر.

أما بالنسبة إلى هؤلاء الذین هم صادقین فی دینهم ولکنهم یقعون بعض الأحیان فی سوء الفهم لقصر علمهم وجهلهم فی بعض أمور الدین، فإنهم یستطیعون دوماً أن یعتمدوا على ضمائرهم لتصحیح سوء الفهم لدیهم وتعلم الأمور بالطریقة الصحیحة. فإذ أنابوا ورجعوا إلى الطریق الصحیح، فإن الله إن شاء یقبل توبتهم إن کانوا صادقین فی ذلک. إن الأشخاص الذین ینضمون إلى المشرکین على جهلٍ بالحقائق والذین لیس لدیهم صفات الشرک الحقیقیة، فهؤلاء یرجى لهم أن یعودوا إلى الصراط المستقیم بسبب صدقهم ونیتهم الطیبة. إن هدفاً من أهداف الکتاب هو الوصول إلى هکذا أشخاص وتمکینهم من معرفة أخطائهم، لجعلهم مدرکین للظلمة التی تحیط بهم، ولحثهم على التوبة والدخول فی دین الله تعالى.

إذا لم یرفع الله الغشاء عن أعین، آذان وقلب الأنسان فإنه لا یتوقع لهذا الشخص أن یستیقظ ضمیره، وأن یصل هذا النجاة والخلاص. إن السبب وراء فشل شخص ما فی الوصول إلى الحقیقة، والإعتقاد أن هذا الأمر لا یعنیه، بالرغم من قراءته لهذا الکتاب، هو معجزة من معجزات الله. أما فی وضع طبیعی، فإن النتیجة المرجوة هی أن ینجو هذا الشخص. یجب أن لا ننسى أن القلوب بین یدی الله وهو الذی یهدی من یتقرب إلیه بإخلاص، یتوب، یدرک خطأه، ویطلب النجاة فقط منه تعالى. فعلى المرء إذاً أن یحذر من الوقوع فی الشرک، وأفضل طریقة لفعل ذلک هی أن یدرک الشخص من البدایة أن الله موجود وماذا یعنی ذلک، ثم أن یراجع معتقدات مجتمعه، وکذلک معتقداته الشخصیة، ونظرته إلى الإسلام. لیس من العیب أن یعترف المرء بأخطاءه ویقوم بتصحیحها. بل عل العکس من ذلک، فإن هذا یدل على الصدق، وهو دلیل على تقوى المرء وتوقیره لله تعالى.

کما رأینا حتى الآن، فإن الإعراض عن القرآن والسنة والإلتزام بالمذاهب الضالة والمنحرفة، الممارسات، والمعتقدات الباطلة، یقود الشخص إلى التناقض والشرک عوضاً عن الطریق القویم. لهذا السبب، فإن الحل الوحید هو التمسک بهدی السنة و هدی القرآن.

الذین یجعلون لله أنداداً بإسم الله وبإسم الدین

إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِیمًا ) النساء 48)




الذین یجعلون لله أنداداً بإسم الله وبإسم الدین

فی آخر الفصل السابق، تکلمنا عن المشرکین الذین ضلوا عن جوهر الإسلام و جعلوا لله الأنداد والشرکاء بإختلاقهم وفرضهم على الناس، بإسمه تعالى مختلف التشریعات و القوانین، بالإضافة إلى الحدود والوصایا التی لیس لها أی علاقة بالإسلام. لقد غیر هؤلاء فی الدین لجعله یتناسب مع أهوائهم ورغباتهم و مصالحهم، وحرفوه عن جوهره الحقیقی، وخلقوا بالتالی دین تملؤه الخرافات وأسموه الإسلام. غیر أن محتویات هذا الدین تختلف جداً عن الدین الحقیقی الذی أنزله الله تعالى.

وبهذه الطریقة، فإنهم لم یجروا أنفسهم فقط إلى الشرک، بل أعداداً کبیرة من الناس معهم. إن الناس الغیر مدرکون لجوهر القیم الأخلاقیة الإسلامیة و لتعالیم الإسلام الصحیحة یتبنون هذا الدین المشوه الجدید، بل والأسوأ من ذلک أنهم ینظرون إلى هؤلاء "الزعماء" على أنهم مشرعون شرعیون من دون الله. وکنتیجة لذلک، فإنهم یتبنون الشرک على علم منهم، وذلک بإنحرافهم وجعل الشرکاء له تعالى وتقدیس زعمائهم الذین ضلوا، کما فعل الّذین من قبلهم:

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِیحَ ابْنَ مَرْیَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا یُشْرِکُونَ (التوبة:31)

إن الآیات التالیة تصف طریقة تفکیر المجتمعات المشرکة ومنطقه:

وَکَذَلِکَ زَیَّنَ لِکَثِیرٍ مِنْ الْمُشْرِکِینَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَکَاؤُهُمْ لِیُرْدُوهُمْ وَلِیَلْبِسُوا عَلَیْهِمْ دِینَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا یَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا یَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا یَذْکُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَیْهَا افْتِرَاءً عَلَیْهِ سَیَجْزِیهِمْ بِمَا کَانُوا یَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِی بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُکُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ یَکُنْ مَیْتَةً فَهُمْ فِیهِ شُرَکَاءُ سَیَجْزِیهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَکِیمٌ عَلِیمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِینَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَیْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا کَانُوا مُهْتَدِینَ (140) ( الأنعام 140-137)

کما تظهر لنا هذه الآیات، فإن لدى المشرکین نزعة إلى تحریم نعم الله و ما أحل بوضعهم تشریعاتهم الخاصة بإسم الدین. إن عقلیتهم التی تقوم على التحریم مشوهة للدین. ویرکز القرآن على أباطیلهم وأکاذیبهم الموجهة ضد الله تعالى. وکما یظهر من ذلک، فإن هؤلاء الأشخاص یظهرون بإسم الله ویدعون أنهم یعملون لدینه. فتخبرنا الآیة الأولى أنهم ینشرون الإرباک فى الأمور الدینیة، وتخبرنا الآیة الثانیة أنهم ینشؤون دیناً مختلفاً تماماً، دیناً لا یأذن به الله ولا یرضاه:

أَمْ لَهُمْ شُرَکَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّینِ مَا لَمْ یَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا کَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِیَ بَیْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِینَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ (الشورى 21)

لیس مهم إلى أی مدى یظهرون متمسکین بالدین، ولیس مهم مراقبتهم وتأدیتهم للشعائر الدینیة، ولیس مهم إلى أی مدى یدعون أنهم مخلصین وورعین، فهم فی نظره تعالى لیسوا إلا مشرکین.ویطلعنا القرآن کیف أن المشرکین إلتزموا بنفس المقتقدات المنحرفة ثم قاموا بتوریثها من جیل إلى جیل:

{سَیَقُولُ الَّذِینَ أَشْرَکُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَکْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَیْءٍ کَذَلِکَ کَذَّبَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَکُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام 148)

تخبرنا هذه الآیة کیف أن المشرکین یتبعون ظنونهم وأهوائهم لتحریف الحقائق الدینیة. بعض الآیات الأخرى تصف کیف أنهم یفضلون دین أسلافهم المشوه على الإسلام:

بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَکَذَلِکَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ فِی قَرْیَةٍ مِنْ نَذِیرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُکُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَیْهِ آبَاءَکُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ کَافِرُونَ (24) (الزخرف 24-22)

بإصرارهم الأعمى على الإستمرار على دینهم السلفی، یرفض المشرکون الإستماع إلى المنطق. إن ذلک، أضف إلیه عقلیتهم المتزمتة، المنحازة والمنحرفة، مذکور فی آیات عدیدة منها:

وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَیْنَا عَلَیْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ کَانَ آبَاؤُهُمْ لا یَعْقِلُونَ شَیْئاً وَلا یَهْتَدُونَ (البقرة: 170)

وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَیْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ کَانَ آبَاؤُهُمْ لا یَعْلَمُونَ شَیْئاً وَلا یَهْتَدُونَ (المائدة 104)

حتى الآن، رأینا کیف أن المشرکین ینحرفون عن الطریق القویم بسبب عدم اتخاذهم القرآن کأساس عقائدی لهم. بدلاً من ذلک فإنهم یفضلون إتباع إرث أجدادهم، أعمالهم وعلمهم الذی ورثوه عنهم. فإذا حرم أجدادهم ما أحل الله، إتبعوهم فی ذلک. غیر أن اتباع ملل الأجداد لیس من الدین الحق فی شیء. فالذین یخافون الله تعالى ویتقوه ویسعون إلى رضوانه علیهم أن یلتزموا فقط بالتشریعات الصادرة عن القرآن وعن الرسول (ص)، وعدم اتباع تقالید الأجداد.

إذا تأملنا فی الآیات التی تتناول المشرکین نجد أن بعض هؤلاء یشکلون فرق إجتماعیة تملک من الصفات، العقائد، والترکیبات المشترکة ما یمیزها عن غیرها من فرق مشرکی الأدیان الأخرى:

إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَالَّذِینَ هَادُوا وَالصَّابِئِینَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِینَ أَشْرَکُوا إِنَّ اللَّهَ یَفْصِلُ بَیْنَهُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ شَهِیدٌ (الحج 17)

إن السمة المشترکة لبعض الفرق المذکورة هنا هی أنهم أعضاء فی نظامهم العقائدی الخاص. من الواضح أن ما یقصد هنا هو الفرق الباطلة التی تبنت نظامها العقائدی الخاص. ولکن من هم هؤلاء؟

نجد الإجابة عن هذا السؤال عند عرب ما قبل الإسلام. فقد هذه المجتمعات بتبنی نظام عقائدی وتعبدی خاص بها، ومنحرف عن الدین الّذی أتى به النبی إبراهیم (ع). فهم عبدوا الأصنام ولکنهم لم ینکروا وجود الله تعالى. ومع أنهم أدرکوا أنه تعالى موجود إلا أنهم إعتبروا آلهتهم مساوین له، وهکذا انحدروا نحو الشرک. وحتى أنهم زعموا أن آلهتهم تشفع لهم أمامه تعالى:

وَیَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا یَضُرُّهُمْ وَلا یَنْفَعُهُمْ وَیَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا یَعْلَمُ فِی السَّمَوَاتِ وَلا فِی الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا یُشْرِکُونَ (یونس 18)

یخبرنا القرآن أن هؤلاء المشرکین کانوا یذهبون إلى الحج، یستقبلون الحجاج، یزورون الکعبة، یصلون وینفقون المال فی سبیل الله تعالى. بکلام آخر، فإنهم کانوا یعتبرون أنفسهم أفراداً مخلصین وملتزمین. ولکن بما أنهم لم یفردوه تعالى بالعبادة، وبما أنهم کانوا یؤدون هذه الأعمال فی سیاق نظامهم الشرکی، فإن هذه الأعمال لم تعُد علیهم بأیة فائدة.لیس مهم إلى أی مدى إعتقدوا أنهم کانوا مخلصین، أتقیاء أو متفانین لله، وقد حرم الله علیهم دخول المسجد الحرام :

یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلا یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَیْلَةً فَسَوْفَ یُغْنِیکُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ حَکِیمٌ (28) (التوبة28)

بما أن القرآن موجه إلى الناس المعاصرین لکل زمان ومکان، فعلینا أن نتأمل کیف تنطبق حِکَمَه فی یومنا هذا. إن الآیات التی تخص المشرکین، إو تصرفات وعقلیة الذین فرقوا دینهم بإسم الإسلام، والذین اتبعوهم ودعوا غیرهم إلى فعل ذلک أیضاً، تصف بوضوح هؤلاء القوم. إذاً، فالأشخاص المعاصرین فی هذه الأیام الذین یتصرفون بنفس الطریقة ویتشابهون فی العقلیة مع من ذکرنا، والذین یتعبدون بدین إبتدعوه، هؤلاء تتطابق أوصافهم مع وصف المشرکین فی الآیات. الیوم، فی الواقع، فی زمن تنتشر فیه المعتقدات الباطلة بإسم الدین، فإن الذین یضعون القوانین والفرائض، الذین یحددون الحلال والحرام، والذین یتبعونهم، یشکلون الفرق المشرکة الثی تفتری الکذب على الله تعالى، تلتزم بدین الأجداد عوضاً عن دینه تعالى وتقول على الله ما لا تعلم.

بالإضافة الى ذلک، یزعم هؤلاء ان دینهم هو الدین الصحیح وأنهم هم المؤمنون الحقیقیون. ولهذا السبب، فقد حرفوا فی دینهم وتحولوا إلى الشرک. بغض النظر عن الوقت والمکان، فقد کان هؤلاء دائماً ما یرفضون الرسل المرسلة إلیهم لإعادتهم إلى الدین الصحیح، معتبرین أنفسهم مخلصین وثابتین على الإیمان. حتى أن بعضهم اتهم رسل الله بافتراء الأکاذیب على الله (آل عمران 78 وسبأ 8)، وهذه الإتهامات هی نفسها قُذف بها نبیّنا محمد (ص)، کما تطلعنا سورة الشورى 24.

آیات أخرى تشیر إلى هؤلاء المشرکین:

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْکَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ کَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَیْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِکُمْ إِنَّ هَذَا لَشَیْءٌ یُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِی الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَؤُنزِلَ عَلَیْهِ الذِّکْرُ مِنْ بَیْنِنَا بَلْ هُمْ فِی شَکٍّ مِنْ ذِکْرِی بَلْ لَمَّا یَذُوقُوا عَذَابِ (8) (ص 8-4)

بإقناع أنفسهم أنهم على الصراط القویم، فإن هؤلاء القوم لن یتقبلوا واقع أنهم کانوا مشرکین حتى فی یوم الحساب:

وَیَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِیعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِینَ أَشْرَکُوا أَیْنَ شُرَکَاؤُکُمْ الَّذِینَ کُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَکُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا کُنَّا مُشْرِکِینَ (23) (الأنعام 23-22)

کما تُطلعنا هذه الآیات، فإن ما یکمن فی قلوب الإشخاص " الأتقیاء " الذین یجعلون لله أنداداً هو إلتزامهم بالقوانین التی ابتدعوها بإسم الدین، عوضاً عن التی أنزلها الله تعالى. ولکن هذا لیس السبب الوحید لتحول الذین یتخذون هدیاً غیر القرآن إلى الشرک. فقبل کل ذلک، فهم یضلون بسبب فشلهم فی التعرف إلى الله تعالى وتقدیره حق قدره جاعلین بذلک آلهتهم تتساوى مع الله. وعدا عن ذلک، فإن حبهم ومفهومهم لله لا علاقة له بما ذکر فی القرآن فی هذا الشأن. فالسبیل الوحید لقدر الله حق قدره وفهم دینه بالطریقة الصحیحة یکون بأن نتخذ القرآن مرشداً وهادیاً لنا.

وَیَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً عَلَیْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِکَ شَهِیداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَاناً لِکُلِّ شَیْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِینَ (النحل 89)

أنواع المشرکین فی القرآن

إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِیمًا ) النساء 48)




أنواع المشرکین فی القرآن

یطلق القرآن صفة" أهل الکتاب " على الیهود والنصارى. بعض هؤلاء قد إبتعد عن جوهر الدین الصحیح، وباتوا یتبنون نظرة شرک إلى الألوهیة. غیر أنه لا یجب أن نطلق هذا التعمیم علیهم کلهم، لإن بعضهم لم یقع فی هذا الخطأ. إن النصارى خاصة قد ضلوا عن سواء السبیل بتألیههم النبی عیسى (ع). فحتى فی یومنا هذا، فإن المشرکین الذین یعتبرون أنفسهم نصارى یعتبرون أن عیسى (ع) هو إبن الله (تعالى الله عما یصفون)، ویجعلونه إلهاً من دون الله تعالى:

لَقَدْ کَفَرَ الَّذِینَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِیحُ ابْنُ مَرْیَمَ وَقَالَ الْمَسِیحُ یَا بَنِی إِسْرَائِیلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّی وَرَبَّکُمْ إِنَّهُ مَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَیهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِینَ مِنْ أنصَار(72) لَّقَدْ کَفَرَ الَّذِینَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ یَنتَهُواْ عَمَّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنَّ الَّذِینَ کَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ (73) ( المائدة72-73:)

بعض أحبار الیهود ورهبانهم یشرکون أیضاً بالله. وبعض الحاخامات قد إتخذ منهم أرباباً من دون الله وحولوا أوامرهم إلى تشریعات إلهیة. بإدخال هذه التشریعات والقوانین إلى التوراة، ففد إلتزم بها أکثریة الیهود لقرون عدیدة بإسم الدین. بإعطاء حق التشریع إلى الأحبار والحاخامات، وحق التحریف لأوامر الله، فقد ساوى الیهود بین رجال دینهم والله تعالى.

والحال ذاته ینطبق على النصارى الذین إتبع أکثرهم عن غیر علم ولا تبصر القدیسین والرهبان ورجال الدین الذین کانوا مسیطرین تماماً علیهم. فقد تبنى الناس فهم هؤلاء للدین ووجهات نظرهم عوضاً عن دین الله.

إن الأشخاص من الجانبین الیهودی والنصرانی قد حرفوا التوراة والإنجیل خلال القرون الماضیة بإضافتهم إلى النصوص، إقتطاعهم منها، أو القیام بتغییرات فیها. بإبتعادهم عن الدین الصحیح الذی أنزل فی هذه الکتب، فقد تحول أکثرهم إلى الشرک.

اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِیحَ ابْنَ مَرْیَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِیَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا یُشْرِکُونَ (التوبة: 31)

إن الله یدعو الّذین تحولوا إلى الشرک للعودة إلى الدین الصحیح، أی إلى الإیمان به تعالى کإلهم الوحید، دون إتباع أو عبادة غیره:

قُلْ یَا أَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى کَلَمَةٍ سَوَاء بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِکَ بِهِ شَیْئًا وَلاَ یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( آل عمران:64)

علینا أن لا ننسى أننا هنا فی صدد الکلام فقط عن المشرکین من الیهود والنصارى. بالتأکید، فإن هنالک مشرکین من کل الأدیان، حتى بین المجتمعات المسلمة. وأیضاً، فلیس کل الیهود والنصارى فی نفس الخانة. وإنطلاقاً من هنا، فإننا نسأل الله الرحمة والمغفرة لهؤلاء الیهود والنصارى الصادقین والذین یؤمنون بالله تعالى کإلهم الوحید ولا یُشرکون به أحد .ویذکر القرآن هؤلاء فی الآیات التالیة:

لَیْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْکِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ یَتْلُونَ آیَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّیْلِ وَهُمْ یَسْجُدُونَ (113) یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ وَیُسَارِعُونَ فِی الْخَیْرَاتِ وَأُوْلَئِکَ مِنَ الصَّالِحِینَ (114) وَمَا یَفْعَلُواْ مِنْ خَیْرٍ فَلَن یُکْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِیمٌ بِالْمُتَّقِینَ (115) ( آل عمران:115-113)

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْکِتَابِ لَمَن یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَیْکُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَیْهِمْ خَاشِعِینَ لِلّهِ لاَ یَشْتَرُونَ بِآیَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِیلاً أُوْلَئِکَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِیعُ الْحِسَابِ ( آل عمران:199)

یخبرنا القرآن الکریم أن المشرکین من أهل الکتاب یجب أن یُدعَوا إلى الدین الحق بالموعظة الحسنة ومع محاولة إظهار خطأ الشرک لهم:

قُلْ یَا أَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى کَلَمَةٍ سَوَاء بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِکَ بِهِ شَیْئًا وَلاَ یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( آل عمران: 64)

تألیه الأقویاء

و أوضح مثل لذلک هم قوم فرعون. بما أن قومه جعلوه فی منزلة الألوهیة، فإن النظام الذی أنشأه فرعون وقومه هو مثل عالمی لنظام الشرک الذی نراه فی کل الأزمان والمجتمعات. ففرعون إدعى الألوهیة وأطاعه قومه فی ذلک:

فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلَى (24) (سورة النازعات:24-23)

إن أتباع فرعون الأساسیین ومؤیدیه کانوا من الملأ لدیه کما نرى من کلامه (القصص 38). فقد أحکم فرعون سیطرته على هذا الملأ الذی یضم أهم الأشخاص فی مصر وأجبرهم على الإعتراف بألوهیته المزعومة. وبحصول هذا الملأ على إحترام الشعب فقد ظن هؤلاء أن هذا النظام سینفعهم ویکون لصالحهم. وهذا هو سبب قبولهم لألوهیته. ولکن تصرّفهم هذا باء بالفشل وخاب ظنهم، وکان مصیرهم النار والعذاب فی هذه الدنیا وفی الآخرة. وقد شرح لنا القرآن موقف هؤلاء ومصیرهم:

إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِیدٍ (97) یَقْدُمُ قَوْمَهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِی هَذِهِ لَعْنَةً وَیَوْمَ الْقِیَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِکَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَیْکَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِیدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَکِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِی یَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَیْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّکَ وَمَا زَادُوهُمْ غَیْرَ تَتْبِیبٍ(101) (هود:101-97)

وقد أطاع فرعون أیضاً جیش مصر وشعبها، الذی کان فقیراً، ضعیفاً ومحتاجاً:

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِی قَوْمِهِ قَالَ یَا قَوْمِ أَلَیْسَ لِی مُلْکُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِی مِنْ تَحْتِی أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَیْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِی هُوَ مَهِینٌ وَلا یَکَادُ یُبِینُ (52) فَلَوْلا أُلْقِیَ عَلَیْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِکَةُ مُقْتَرِنِینَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ کَانُوا قَوْماً فَاسِقِینَ (54) ( الزخرف:54-51 )

وقد کان فی مصر عدد کبیر من بنی إسرائیل الذین کانوا فی الأسر، وکانوا مضطهدین وفی حالة من خوف من فرعون، وقد ظنوا کما فعل شعب مصر أن فرعون یملک القوة من دون الله، فخافوه کما یخافون الله تعالى. وفضل هؤلاء الإستسلام والخضوع لفرعون على الإیمان بالدین الصحیح:

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّیَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ یَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِی الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِینَ ( یونس: 83)

لقد ألّه المصریون فرعون لعدة أسباب: الإضطهاد، الخوف، الجهل، ورغبتهم فی حمایة مصالحهم بإی ثمن. وکنتیجة لذلک، فقد تحولوا إلى الشرک بتألیههم لفرعون و بنسیانهم أن الله هو الإله الوحید وأنه وحده الجدیر بالخوف والتقدیر. فکان یجب علیهم أن یؤمنوا به ویتوکلوا علیه ویتبعوا الطریق الذی بینه لهم عن طریق الأنبیاء والرسل لیفوزوا برضوانه تعالى. فلو أنّهم تیقنوا أن الله هو وحده القوی لما کانوا خافوا من فرعون وبطشه.

لو أنهم أدرکوا أن فرعون لیس إلا مجرد إنسان عاجز تحت سیطرة الله لما کانوا رضخوا له. فبما أنهم فشلوا فی إدراک أن کل ما یملک فرعون من کنوز، مجد، وقوة عسکریة هو فی الواقع ملک لله، فقد عجزوا عن تقدیره تعالى حق قدره، وبالتالى، خدعوا بقوة فرعون الظاهرة. لو أنهم علموا أن الله قادر على أن یسلب فرعون کل ما یملک متى شاء، ما کانوا أظهروا هذا التصرف الشرکی وتحملوا کل هذه الإهانات. ولکن الله أظهر لهم عجائب قدرته حین أغرق فرعون وبین لهم بالتالی ضعفه. وهذا المثل الذی بین لنا الخزی العظیم الذی أصاب الذین ألهوا فرعون، یبقى مثل رائع لأنظمة الشرک التی کانت، وما زالت مستمرة فی مختلف المجتمعات.

ألذین یعبدون الأصنام

لقد سبق و عرفنا الأوثان على أنها أی شیء حی أو غیر حی نصب على أنه مساو ٍ لله تعالى. فی هذا القسم ، سنستخدم هذه الکلمة فی معناها التقلیدی : أصنام تنحت وتعبد من الناس. للوهلة الأولى ، قد یظن القارىء أن عبادة الأصنام هی عادة المجتمعات القدیمة أو بعض القبائل البدائیة التی لم یصل إلیها العلم الحدیث أو التقنیة. غیر أن هذا الإفتراض غیر صحیح، لأن فی صمیم هذا النوع من الشرک وهذه الأصنام یکمن الأشخاص والمبادىء التی تمثلها هذه الرموز. فإذاً، فإن الذین یعبدون هذه الأصنام یتبنون عموماً الأفکار و طریقة العیش التی تمثلها أصنامهم ولیس هذه الأصنام بحد ذاتها. أی أنهم یحاولون تخلید الکینونات والجهات التی یرونها مساویة لله (القادة، المشرعین، الحامین أوالمنقذین) بنصب التماثیل لهم.

ففی نهایة الأمر، هنالک منطق رمزی وراء هذه الممارسة. وبما أن هذه الأصنام تمثل الکینونة، الشخص، أو المبدأ الذی یعتبر مساویاً لله، فإنها تتلقى التوقیر والعبادة اللذان هو وحده تعالى یستحقهما. فما نصب على أنه مساویاً لله هو ما یمثله الصنم من معنى و عقلیة معینة.و یذکر القرآن النبی إبراهیم فی هذا السیاق:

إِذْ قَالَ لأَبِیهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِیلُ الَّتِی أَنْتُمْ لَهَا عَاکِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِینَْ(53) (الأنبیاء:53-52)

کما تظهر هذه الآیات، فإن هذا النوع من العبادة موروث عن الأجداد. وبغض النظر عن عدم منطقیتها، فإن عبادة الأصنام قد تصبح نوعاً من التصرف " الصحیح " و" العقلانی " حتى فی أکثر المجتمعات تحضرا ، ًوذلک ناشىءعن الفلسفة التی ینشأ علیها بعض الأشخاص منذ الصغر.

من صفات التماثیل المنحوتة أنها تتساوی تدریجیاَ مع الشخص أو المبدأ التی تمثله. فمثلاً، أله الناس بودا فی بادىْْ الأمر بصفته شخص فی الهند. ثم نحتت التماثیل التی تمثله لتخلید ذکراه وأقواله. وقد ألهت هذه التماثیل بحد ذاتها مع الوقت حتى أصبحت الیوم أصناماً یعبدها الناس و یوقروها، یتوجهون إلیها بالدعاء ویطلبون مساعدتها. إن الأشکال الأخرى لعبادة الأصنام هی مبنیة على نفس المنطق.

یطلعنا التاریخ والقرآن على واقع أن العرب فی زمن الرسول (ص) کان لدیهم عدد کبیر من الآلهة. إذا نظرنا إلى الوثائق التارخیة، فإننا نرى بکل وضوح أن هذه الأوثان فی الواقع تمثل أو ترمز إلى مفاهیم محددة. بکلام آخر، فإن العرب لم یعبدوا فی الواقع الأشکال والتماثیل المصنوعة من الحجارة والخشب، بل إنهم کانوا یعبدون المعانی التی تجسدها (کالقوة، المال، النساء أو الوفرة). لذا، فإن هذه الأصنام لا تختلف کثیراً عن القیم التی تُعبد فی یومنا هذا وتُفضل على دین الله من کثیر من الناس. فمن الخطأ إذاً أن نفکر فی القبائل والشعوب القدیمة حین نشیر إلى المشرکین أو عبادة الأصنام لأن نظیر هؤلاء موجود الیوم وفی أحسن حال. إن هؤلاء یؤمنون بالله و لکنهم إنحدروا إلى الشرک بسبب تألیههم لمختلف المفاهیم وجعل هذه المفاهیم أهم عندهم من الله.

عندما تحرر بنو إسرائیل من فرعون، مروا فی رحلتهم على قوم یعبدون الأصنام فسألوا موسى أن یجعل لهم صنم مثلهم:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِی إِسْرَائِیلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ یَعْکُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا یَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً کَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّکُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِیهِ وَبَاطِلٌ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ (139) (الأعراف:139-138)

إن هذا التصرف الجاهل یظهر لنا کیف أن بنو إسرائیل لم یقدروا الله حق قدره. بل أنهم أرادوا إله یستطیعون رؤیته، السجود له، وإقناعه بتلبیة رغباتهم عن طریق قیامهم ببعض الشعائر. ومع أن موسى (ص) کان قد أرشدهم إلى الحق، فإنهم سرعان ما اتخذوا لهم آلهة أخرى ما أن غادر الطور. ویشیر القرآن إلى أنهم ندموا فیما بعد بسبب عملهم هذا:

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِیِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ یَرَوْا أَنَّهُ لا یُکَلِّمُهُمْ وَلا یَهْدِیهِمْ سَبِیلاً اتَّخَذُوهُ وَکَانُوا ظَالِمِینَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِی أَیْدِیهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ یَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَیَغْفِرْ لَنَا لَنَکُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِینَ (149) (الأعراف: 149-148)

ویقول ألله تعالى:

إِنَّ الَّذِینَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَیَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَکَذَلِکَ نَجْزِی الْمُفْتَرِینَ (152) وَالَّذِینَ عَمِلُوا السَّیِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّکَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِیمٌ (153) (الأعراف: 153-152)

الذین یعبدون الجن

یعتبر بعض الناس أن الجن یتساوون مع الله. إن هذه المخلوقات من نار و لیس من طین کالبشر(الرحمان: 15). وبما أنها غیر مرئیة وهی تملک قدرات وصفات مختلفة عن البشر، فإن بعض الناس الذین یتعاملون معها یبدؤون بتعظیمها ووضع آمالهم فیها. فهم یتوهمون أن الجن وقدراته مستقلان عن الله تعالى. وباختصار فإنهم ینشدون مساعدتهم قدراتهم من دون الله تعالى:

وَأَنَّهُ کَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ یَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (الجن: 6)

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَکَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِینَ وَبَنَاتٍ بِغَیْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا یَصِفُونَ (الأنعام: 100)

ولکن فی الواقع فإن الجن لا یختلفون عن أی مخلوق آخر من جهة أنهم عباد لله تعالى ولا یملکون أیة قدرة أو علم غ ما أنعم الله تعالى به علیهم. وکما هو حال البشر فإن منهم المؤمن والکافر، وهم یمتحنون فی هذه الدنیا ومصیرهم إلى الجنة أو إلى النار. العدید من الآیات تحتوی على معلومات مهمة بهذا الخصوص:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ} (الذاریات: 56)

بما أن الجن مخلوقون لعبادة الله تعالى، فإنهم یدینون بوجودهم له ومحتاجون له. فکیف یستطیع أی إنسان بعد هذا أن یألههم و یطیعهم بسبب امتلاکهم لبعض القدرات؟ ومع ذلک فإن هذا ما یفعله الکثیر من الناس باعتبارهم مساوین لله. غیر أن هؤلاء الذین ینسبون إلى الجن قوة مستقلةعن الله، والذین یساوونهم به سوف یصابون بخیبة أمل عظیمة عندما یفشل الجن فی الإستجابة لهم. وسیدرکون فی الآخرة أنهم کانوا فی الحقیقة مشرکین:

وَجَعَلُوا بَیْنَهُ وَبَیْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا یَصِفُونَ (159) (الصافات159-158)

وَیَوْمَ یَحْشُرُهُمْ جَمِیعاً یَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَکْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِیَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِی أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاکُمْ خَالِدِینَ فِیهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّکَ حَکِیمٌ عَلِیمٌ (الأنعام 128 )

الذین یؤلهون أهوائهم

یؤلّه الناس أیضاً أهوائهم، أی شهواتهم، رغباتهم ونزواتهم. فبتقدیم أهواءهم على أوامر الله تعالى بعبادتهم للأصنام والجن والمخلوقات الأخرى، فإن هدفهم الأهم هو إرضاء نزواتهم وشهواتهم الخاصة. ویکثر أمثال هؤلاء فی المجتمع.

إن شهوات الدنیا لیس لها حدود، غیر أن هؤلاء یسعون إلى إرضاءها کلها. وکنتیجة لذلک فإنهم یجدون إنفسهم مضطرین إلى تجاوز الحدود التی وضعها الله وإلى مخالفة أوامره ونواهیه. یقول النبی یوسف (ع):

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِی إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّی إِنَّ رَبِّی غَفُورٌ رَحِیمٌ (یوسف 53)

قد تکون الشهوات الدنیا عبارة عن رغبة فی الثراء، أو ملک عظیم. لتحقیق هذه الرغبات فإن الکثیرمن الناس یلجؤون إلى وسائل غیر أخلاقیة (کالسرقة والخداع) إذا لم تتوفر الوسائل الشرعیة، مع أن الله حرم هذه التصرفات. وتشجع الشهوات الدنیا الناس على تجاهل الأعمال الصالحة کالإعتناء بالآخرین وإیتاء الزکاة لتطهیر أموالهم. أما المؤمنون حقا، فهم یلتزمون بأوامر الله تعالى ویجتنبون ما حرم. بالمقابل فإن اللذین یؤلهون شهواتهم یتبعون رغباتهم و ینتهکون أوامره ونواهیه.

تمثل الشهوة رغبة دنیویة أساسیة. فالذین یتبعون رغباتهم لا یرون أی خطأ فی الزنا وحتى أنهم یشجعون الناس على ممارسته، مع أن الله تعالى قد حرم ذلک. لذا، فإن بعض الناس الذین یعملون هذه الفاحشة مع العلم بتحریمها، والذین لا یرون فیها أی خطأ ولا یظهرون الندم على فعلتها، ولا یتوبون توبة صادقة من هذا الذنب العظیم، هؤلاء قد قاموا بتألیه أهوائهم جاعلین لله الأنداد. فهم إذاً وقعوا فی الشرک:

الزَّانِی لا یَنکِحُ إلاَّ زَانِیَةً أَوْ مُشْرِکَةً وَالزَّانِیَةُ لا یَنکِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِکٌ وَحُرِّمَ ذَلِکَ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ (النور 3)

لیس هنالک حد للشهوات الدنیا. لذا، فإن انقیاد الناس لهذه الشهوات من دون القیام بأی شیء لمحاولة التحرر منها، سیقودهم إلى تجاوز الحدود التی وضعها الله تعالى. وبکلام آخر فإنهم بعملهم هذا یؤلهون أهوائهم ویتحولون إلى الشرک، وذلک لأنهم نسوا رضوان الله تعالى. سیختفی عقلهم و بصیرتهم شیئأ فشیئأ، وسیتضاءل ضمیرهم، وسیجدون أنفسهم ینحدرون إلى منزلة البهائم:

أَرَأَیْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَکُونُ عَلَیْهِ وَکِیلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَکْثَرَهُمْ یَسْمَعُونَ أَوْ یَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ کَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً (44) (الفرقان 44-43)

إن هذا أکثر أشکال الشرک إنتشاراً فی مجتمعات الیوم. الکثیر من الناس فی هذه الأیام غافل عن الله والقیم الأخلاقیة الدینیة. وکنتیجة لذلک، وکونهم غافلین عن أی حد حین یتعلق الأمر بإشباع شهواتهم ورغباتهم، فإنهم یمضون جزءاً کبیراً من حیاتهم یتبعون ما یعتقدون أنه سیسعدهم: أی المنزلة والمکانة الإجتماعیة والثروات التی تنشأ من إکتساب المال الکثیر و الممتلکات. ومع أن امتلاک الثروات لیس سیئاً بحد ذاته، إلا أنه یجب علینا أن نعی الأمر التالی: ففی سبیل إشباع الشهوات والرغبات، فإن الناس یقومون بالتنازلات عندما یواجهون متطلبات الدین، أی أنهم یتحولون إلى الشرک لإنهم یفضلون إشباع رغباتهم على الإلتزام بـأوامر الله و نواهیه. فالأمر کما لو أن على أعینهم غشاوة تمنعهم من التفکر فی خالقهم، لماذا خلقوا أو یوم الحساب.

أَفَرَأَیْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ یَهْدِیهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَکَّرُونَ (الجاثیة 23)

بما أن المشرکین لا یستخدمون عقولهم و ضمائرهم، فإنهم عاجزون عن الحکم بطریقة سلیمة على الحقائق الأساسیة. فهم غافلین عن الله و قدرته وهم فی حالتهم تلک یشبهون صاحب الجنة الموصوف فی سورة الکهف. وهذا الوصف یشکل مثل قیم لضعف عقل المشرکین و منطقهم:

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَیْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَیْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَیْنَهُمَا زَرْعاً (32) کِلْتَا الْجَنَّتَیْنِ آتَتْ أُکُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَیْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً (33) وَکَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ یُحَاوِرُهُ أَنَا أَکْثَرُ مِنْکَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِیدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّی لأَجِدَنَّ خَیْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36) (الکهف 36-32)

إن هذا وصف دقیق للناس الذین ضلوا عن الدین، فشلوا فی تقدیر الله تعالى کما ینبغی، ولا یؤمنون بالیوم الآخر. عندما یواجهون بإمکانیة الموت والفناء، فإنهم یواسون أنفسهم بإ بالظن بإمکانیة وجود آخرة حیث یأملون أن یکونوا سعداء ومکتفین. غیر أنهم بعدم إیمانهم بالبعث بعد الممات فإنهم لا یستعدون لهذه الأخرة.

من الجید أن نذکر شیئاً مهماً هنا: جمیع الناس، سواء مؤمنین أو کافرین، لدیهم شهوات ورغبات غیر محدودة. فالله یستعمل هذه الشهوات والرغبات لیمتحن الناس بها لإظهار معدنهم الحقیقی. فمن کان ورعاً ومخلصاً لله فإنه یسیطر على هذه الشهوات ویلتزم بأوامره ونواهیه. أما من کان مخلصاً لنزواته وأهوائه، فهو یتجاهل حدود الله تعالى فی سبیل إشباع رغباته. وبما أن أفراد الفریق الثانی یفضلون شهواتهم على رضوان الله فقد حکموا على أنفسهم بالخلود فی العذاب:

وَیَوْمَ یُعْرَضُ الَّذِینَ کَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَیِّبَاتِکُمْ فِی حَیَاتِکُمْ الدُّنْیَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْیَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا کُنْتُمْ تَسْتَکْبِرُونَ فِی الأَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ وَبِمَا کُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (الأحقاف 20)

فی الآخرة، سیحصل المؤمنون على رحمة الله وجنته، حیث سیتمکنون من إشباع کل رغباتهم بطریقة شرعیة:

یُطَافُ عَلَیْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَکْوَابٍ وَفِیهَا مَا تَشْتَهِیهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْیُنُ وَأَنْتُمْ فِیهَا خَالِدُونَ (الزخرف 71)

اللذین یألّهون أنفسهم

شکل شائع آخر من أشکال الشرک هو تألیه الذات. قد یتوهم البعض للوهلة الأولى أن هذا النوع نادر الوجود. غیر أن الواقع عکس ذلک. الکثیر من الناس قد لا یشعرون أنهم یمارسون هذا النوع من الشرک، و لکن عند تفحص أنفسهم بصدق یجدون أن هذا الداء بالواقع موجود لدیهم.

فمثلاً، أکثر الناس یعتقدون أن نجاحاتهم، هیئاتهم الجمیلة، ذکائهم، جاذبیتهم، غناهم، ممتلکاتهم، مکانتهم، منزلتهم، وعدة أمور أخرى مشابهة هو نتیجة مجهودهم الشخصی. فیصیبهم الفخر نتیجة ذلک. وکلما کان لدیهم میزة إضافیة من هذه المیزات کلما ازداد فخرهم. بإقتناعهم بأن جمیع هذه الأمور مصدرها أنفسهم وأنهم هم وحدهم مصدر نجاحهم هذا، فهم یستخفون الأشخاص الآخرین ویعتبرون أنفسهم متفوقین علیهم.

هکذا أشخاص یشیرون إلى أنفسهم بغطرسة وتکبر. وهذا فی الأساس إثم عظیم لأن الله وحده هو الذی یمنح الشخص أی شیء. فمثلاً، فإن الجمال عطیة من الله. وبما أن الجمال مصدره من الله فإنه یجب أن یُثنى علیه وحده بصفته المالک له. جمیعنا یعلم أن الفنان الذی رسم اللوحة هو فقط الذی یستحق الثناء لجمالها، بما أن هذه اللوحة لم توجد نفسها.

الممتلکات والثروات یجب أن یُنظر إلیها بنفس الطریقة، لأنها کلها فی الحقیقة مملوکة لله تعالى، وفی مقدوره إسترجاعها متى شاء ذلک. فمن الخطأ الکبیر أذاً أن یغتر الناس و یتباهوا بملکهم شیئاً هو لیس لهم فی الحقیقة. بل یجب علیهم أن یعوا بأن کل ما یملکون، سواء أکان مادی أم لا، هو ملک لله، وأن یشکروه على ذلک. قال النبی سلیمان (ص) بشأن حبه للخیل وممتلکاته:

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَیْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَیْهِ بِالْعَشِیِّ الصَّافِنَاتُ الْجِیَادُ (31) فَقَالَ إِنِّی أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَیْرِ عَنْ ذِکْرِ رَبِّی حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ(32) (ص 32-30)

ذو القرنین الذی أمدّه الله بالقوة، الأسباب والنعم، أعان قوماً على یأجوج و مأجوج. ومع أنه إستطاع تحقیق إنجاز عظیم بمنعه إنتشار الفساد، فإنه لم یطلب شیئاً لنفسه، بل أنه عزى ذلک إلى الله قائلاً:

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّی فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّی جَعَلَهُ دَکَّاءَ وَکَانَ وَعْدُ رَبِّی حَقّاً (الکهف: 98)

من الواضح أن هذا الخضوع لله هو مثال حی لتصرف المؤمنین. فإنهم دائماً ما یلجؤون إلیه تعالى لعلمهم أنهم عاجزون تماماً أمامه وأن کل أمر یتوقف علیه تعالى.

إستناداً إلى ما قد قیل حتى الآن، فإن الإعتقاد بأن الشرک یمثل فقط السجود أمام أصنام منحوتة یمل منظوراً ضیقاً جداً و سطحیاً. فالمشرکین هم فقط الذین یستعملون هذا المنطق فی سبیل تبرأة أنفسهم من کل إثم. فمعظم الأشخاص یظنون أن مبدأ الشرک إختفى إلى غیر رجعة بعد أن حطم الرسول (ص) الأصنام فی الکعبة المبارکة. غیران العدید من الآیات تصف الشرک بدقة وتحذر المؤمنین منه بشدة. وبما أن منطق القرآن یصلح لکل وقت ومکان فإن هذه الآیات أوحیت لتعلیم الناس الحِکَم. یشیر القرآن إلى المشرکین الّذین فرضوا القوانین، التشریعات والفروض على قومهم، وتحولها إلى جزء من الدین الإلهی. ولکنهم کانوا کاذبین.

ما هو الشرک؟

إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِیمًا ) النساء 48)




ما هو الشرک؟

إن کلمة شرک فی اللغة العربیة من الشراکة. وهی أن یُجعل لله تعالى شرکاء. عندما یُذکر الشرک فی القرآن فهو یُذکر فی المعنى التالی: إعطاء أهمیة کبرى وأولویة لأی شیء، شخص، أو مفهوم ، وإعتباره مساویاً أو حتى متفوقاً على الله تعالى، ومن ثم التصرف والعمل وفق هذا المفهوم المشوه والخاطئ. وهذا یعنی أن صاحب هذا المعتقد یعطی صفى الألوهیة لخلق الله علماً بأن الله تعالى هو وحده الإله.

إن رسالة القرآن الأساسیة هی أن لا إله إلا الله. هذه الحقیقة تتمثل فی الشهادة وهی تتکرر باستمرار فی القرآن الکریم. ومع ذلک، فیجب على المسلمین أن یفهموا هذه الحقیقة تماماً ویتأملوا فیها بعمق. فإذا أقررنا أن القوة کلها والقدرة لله، وأن لا إله إلا هو تعالى، فهذا لا یُمکن أن یفسر ویفهم بطریقة سطحیة. ومتى نظرنا إلى القرآن أدرکنا أن أی معتقد، موقف أو تصرف آخر لا یرتکز على هذه الحقیقة هو شرک فی الواقع. وهکذا، فإننا نستطیع أن ننظر إلى الشرک فی معناه العام على أنه أی مفهوم خاطئ یقوم على أن أی شخص، شیء، أو إله یملک القوة والقدرة غیر الله تعالى.

وفقاً للقرآن، فإن الإله هو کینونة تملک الصفات والقدرات التی إنفرد بها الله.فبما أنه لیس هنالک من مخلوق یملک هذه الصفات والقدرات، فإذاً لا یوجد إله غیره تعالى. والقول بغیر ذلک یعنی أن هنالک آلهة أخرى تُعبد ویعنی أیضاً جعل الشرک بالله.

هنا، علینا أن نقوم بتمییز مهم. فمثلاً، الغنی ألذی هو إسماً من أسماء الله تعالى، یطلق إیضاً على الشخص الغنی مادیاً. إلا أن ما یؤدی إلى الشرک هو الإعتقاد بأن غنى هذا الشخص قد حصل بسبب مجهوده الشخصی. ففی هذا الحال، فستنسى الحقیقة التی تنص على أن الغنى کله فی الواقع لله. والإعتقاد الصحیح هنا أنه لحکمةٍ ما، أراد الله أن یعطی هذا الشخص کل ما یملک، ویعطیه بذلک صفة الغنی. غیر أن الناس تنسى، أو تتجاهل واقع أن الله قد ینزع ما یشاء ممن یشاء متى یشاء. إن عدم القدرة على إدراک أن أی شخص هو فی الواقع فقیر وضعیف یجعل الناس غیر قادرین على فهم حقیقة أن الله تعالى قد یظهر صفاته فی أی شخص یختاره، وکنتیجة لذلک، قد یعتبر الناس أن هذا الشخص هو المالک الحقیقی لهذه الأشیاء والممتلکات والثروات والصفات. ولکن بما أن جمیع هذه الأشیاء موهوبة من الله، ولیست محصلة بسبب المجهود الفردی لهذا الإنسان، فإن هذا الفهم الخاطئ قد یتسبب للناس بنسیان ربهم والغفلة عنه وإعطاء صفة الألوهیة لغیره. ومتى حصل ذلک من الإنسان فقد وقع فی الشرک.

فیجب إذاً علینا أن نتیقن أن الله هو المالک الحقیقی لکل الثروات، بغض النظر عن مکانها وأعدادها، وأنه قادر على نزعها من أی شخص وفی أی وقت. حین نقیم شخص غنی ما، فإن ما یهم لیس وضعه المادی، بل علینا أن ننظر إلیه على أنه مجرد عبد لله تعالى. فمثلاً، إن کان فرد فی عائلة ما ینظر إلى الأب على أنه المالک الحقیقی لثروته، فهو مرتکباً لإثم عظیم. وکمثل آخر، فإن على من یعمل فی مجال ما التیقن بأن الله هو وحده الذی یطعمه، یکسوه، ویأویه. فلیس من المنطق النظر إلى مستخدمه على أنه هو الرازق.

إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْکًا إِنَّ الَّذِینَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا یَمْلِکُونَ لَکُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْکُرُوا لَهُ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ (العنکبوت:17)

إضافة إلى ذلک، یبیّن لنا القرآن أن لا قوّة إلا بالله (الکهف 39) فکل ما یشبه القوة فی مخلوقاته لیس إلا إنعکاساً لقوته تعالى، وهو القادر على نزع هذه الصفات فی أی وقت. إن المبالغة فی تقدیر أی إنسان بسبب صفات أمده الله بها کإختبار له فی هذه الدنیا، والإعجاب الشدید به کما لو أن هذه الصفات کانت متأصلة فیه، هو فی الواقع وضع هذا الإنسان فی مرتبة الألوهیة.

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ (الحـج: 74)

والمنطق نفسه ینطبق على صفات الله الأخرى التی یمد بها أو یعکسها فی عباده وخلقه. فعلینا أن ندرک أن هذه الصفات لله تعالى وحده وما نراه فی خلقه لیس إلا إنعکاسات لهذه الصفات.

بدایة الشرک

إن الخطأ العظیم الذی یتمثل فی إعطاء ذاتیة مستقلة لمخلوقات الله وإعتبار وجودهم قائم بذاته ومستقل عن الله یؤدی إلى الشرک. فالله یعطی الثروات، الجمال، القوة والمجد ولکن الإنسان الذی یُعطى هذه الصفات لا یملکها حقاً ولیس هو الذی أوجدها، ولا هو ولا ما یملک موجود بشکل مستقل عن الله. إن من لا یدرک هذه الحقیقة غالباً ما یُظهر الإعجاب أو الخوف من هؤلاء الذین اُعطاهم الله هذه الصفات، معتقداً بأنهم بطریقة ما مستقلون عن الله. ومن هنا یبدأ الشرک.

کما سنرى فی الفصول التالیة، فإن هذا المعتقد الذی یتمثل فی نسب القدرة والصفات إلى المخلوقات هو الإساس لکل أشکال الشرک والوثنیة. على المؤمنین الحقیقیین أن یأسسوا إیمانهم على التوحید، وأن یجتنبوا الشرک بالله تعالى. على الناس أن یتذکروا دائماً أنهم مدینون لله بکل ما یملکون وأنهم خُلقوا بإرادة الله وحده. هو الذی یحییهم ویمیتهم، فهو یفعل ما یشاء، یرزق من یشاء من عباده بما یشاء من الصفات.

القوة، الذکاء، الجمال، الشهرة، والمراکز العلیا هی منح ونعم من خلق الله. وبما أنّه هو تعالى خالقها، فهو ینزعها متى یشاء. إن الله یظهر قدراته فی أشکال مختلفة، فی کل المواضع وفی کل العباد. وهذه التجلیات هی التی نراها حیثما نظرنا. یجب على المؤمنین بالله تعالى أن یرسخوا فی قلوبهم حقیقة أن لا شیء موجود مستقل عن الله. فقط عندما یبنوا إیمانهم، تأملهم، وتصرفهم على هذه الحقیقة سینتهوا من الشرک بالله تعالى.

التبریرات الباطلة للمشرکین

یمکننا تعلم المعانی الصحیحة للشرک، التوحید، والعبادة من القرآن الکریم. فقط عندما نقرأ القرآن ونفقه معانیه ونسعى لتحقیق هذه المعانی فی حیاتنا یصبح لدینا الفهم، الإیمان، والتصرف الصحیح جاعلین الله إلهنا فی جمیع الأمور ومجتنبین خطأ الشرک به تعالى. فإذاً، على من یؤمن بالقرآن ویوقن أنه الحق أن لا یتبنى أی مقیاس أو مرجع آخر عندما یتعلق الأمر بالإیمان، التفکر، الفهم الأخلاقی، طریقة العیش، وأحکام مهمة أخرى. فإن محاولة الإنسان لتبریر تفضیله للبدائل عن أوامر الله ناسیاً بذلک الحدود التی وضعها تعالى قد تؤدی به إلى الشرک.

هکذا تبریر لا یصح أبداً. فمثلاً، تفضیل نیل إستحسان شخص ما والسعی إلى إرضائه عوضاً عن إرضاء الله یعنی إتخاذ إلهٍ آخر. الخوف من شخص ما أکثر من الله وتوقیره بنفس الدرجة التی یُوقر بها الله أو حتى أکثر، مما یؤدی إلى ترک نواهیه والتصرف بما لا یرضیه یشکل أیضاً نوعاً من أنواع الشرک. أن یحب الإنسان شخص ما کحبه لله أو أکثر، ذلک أیضاً فی خانة الشرک. إذا أشار شخص مدرک لأهمیة العیش ضمن نطاق الشریعة والإیمان إلى المجتمع المحیط به، کتبریر لممارساته وإعتقاداته الخاطئة، وحتى لا یتسبب لنفسه بالنقد، فهذا دلیل واضح على الشرک. فعلى الإنسان أن یُدرک من هو الأولى بأن یُرضیه. إن عائلة شخص ما أو أقربائه قد لا یفقهون الإسلام، وفی هذه الحال، فإن أی إنحراف عن متطلبات هذا الدین وتقدیم التنازلات لإرضائهم یقع فی نفس الخانة. لیس من مسلم یقوم بتقدیم التنازلات على حساب رضوان الله. فرضوانه تعالى هو فقط ما یهم. بالتأکید ما من أحد قد یود أن یقلّل من حبه وإحترامه لعائلته. ولکن بحال أراد أفراد هذه العائلة منه أن یشرک بالله فإن الله یقول فی ذلک:

وَوَصَّیْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَیْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاکَ لِتُشْرِکَ بِی مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَیَّ مَرْجِعُکُمْ فَأُنَبِّئُکُم بِمَا کُنتُمْ تَعْمَلُونَ (العنکبوت:8)

أن أفضل مثال للتعامل مع غیر المسلمین هو الرسول (ص). فعندما کان الرسول یبلغ الرسالة التی جاء بها أدرک الکثیرون بأن هذا هو الحق الذی یجب إتباعه، ولکن القلیل منهم طبّقوا فعلیّاً أحکام الدین واتبعوا الرسول. فمثلاً، بُعید هجرة الرسول (ص)، أنزلت الآیات التی تتناول لباس المرأة الشرعی :

عن صفیة بنت شعبة : کنا مع عائشة (ر) فذکرنا نسوة قریش وفضائلهم. فقالت عائشة (ر): إن نسوة قریش فیهن الخیر، ولکنی والله لم أرَ مثل نسوة الأنصار. فعندما أنزلت ألآیة: {…وَلَا یُبْدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْیَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُیُوبِهِنَّ وَلَا یُبْدِینَ زِینَتَهُنَّ...} ذهب إلیهم رجالهم یتلون علیهم هذه الآیة، کل رجل یتلوها على زوجته، إبنته، أخته أو أقرباءه ، نهضت کل إمرأة، فأخذت بإزرها وإختمرت به إیماناً بما أنزل الله تعالى.(تفسیر إبن کثیر، سورة النور).

أثناء بعثة الرسول(ص)، کانت النساء المؤمنات سریعات الإمتثال لإوامر الله، وکانت طاعتهن نابعة عن شوق ورغبة. وکذلک فعلت المؤمنات التی أتین من بعدهن، بطاعتهن للفرائض بکل رغبة وتصمیم.

أما البعض الآخر، فقد خشی ردة فعل المجتمعات التی یعیش فیها، فخضع لتهدیداتها، وخاف من فقدان موقعه ومنزلته، وحسب أنه سیخسر الکثیر فی حال إستجاب للرسول (ص) ووقف مع المسلمین للجهاد فی سبیل الدین. وبسبب صعوبة الأحوال فی هذا المحیط، فقد خاف البعض مما قد یصیبهم، واعتبر البعض الآخر إن الجهاد مع الرسول (ص) فی حر الصحراء عمل شاق واستحبوا شهواتهم الدنیا.

وکخلاصة، فقد حاول هؤلاء الإتیان بکل أنواع التبریرات والذرائع للتهرب من متطلبات الإیمان. ولکن وفقاّ للقرآن الکریم نستطیع أن ندرک أنهم بعملهم هذا کانوا یجعلون لله الأنداد ویشرکون به. فمع أنهم عرفوا الحق فی إنفسهم إلا أنهم فضلوا أشخاصاً آخرین، أو حتى مجتمع بأکمله، أو مال، أو منزلة إجتماعیة، أو شهواتهم على رضوان الله تعالى. فهم سعوا لإرضاء غیر الله، وأملوا بالخلاص بالإستعانة بوسائل غیره تعالى. فخاف أکثرهم من نقد المجتمع لهم، وترددوا فی وجه التهدیدات، وخافوا على مناصبهم، ورأوا إن إتباع الرسول سیؤثر على مصالحهم، وأنهم سوف یخسرون الکثیر فی حال إسلامهم، وفضل البعض الآخر الراحة والرفاهیة على الهجرة إلى المدینة مع النبی (ص).

لقد قام الکثیر من هؤلاء بالتنازلات بسبب شهواتهم الدنیا أو إشباعاً لرغباتهم، أو تهرباً من أیة تضحیات:

وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ یَا أَهْلَ یَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَکُمْ فَارْجِعُوا وَیَسْتَأْذِنُ فَرِیقٌ مِّنْهُمُ النَّبِیَّ یَقُولُونَ إِنَّ بُیُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِیَ بِعَوْرَةٍ إِن یُرِیدُونَ إِلَّا فِرَارًا (الأحزاب: 13)

کما رأینا، فقد جاء هؤلاء بمختلف الأعذار لکی لا یرافقوا النبی (ص) والمؤمنین، ولکی لا یجعلوا للإسلام حیزاً فی قلوبهم. وربما حاولوا تبریر مواقفهم للآخرین وإقناعهم بمنطقهم، ولکن هذه الأعذار باطلة عند الله تعالى وما کانوا یخدعون إلا أنفسهم. فبإتباعهم لشهواتهم وتفضیلها على رضوان الله، فقد کانوا بفعلهم هذا یجعلون الأنداد لله تعالى.

إن الذین کانوا على عهد الرسول (ص) إمتُحنوا وِفق هذا الزمان. والناس الیوم أیضاً یُمتحنون بنفس الطریقة. فالله وحده یعلم مدى صدقهم حین یختارون بین رغباتهم الخاصة ورضوانه تعالى، ویعلم أیضاً حین یتذرعون کما فعل الذین من قبلهم. وکل شخص سیثاب فی الآخرة بما یتلائم مع أعماله فی هذه الدنیا:

فَیَوْمَئِذٍ لَّا یَنفَعُ الَّذِینَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ یُسْتَعْتَبُونَ (الروم: 57)

فإذاً على الناس الیوم أن لا یهجروا القرآن الکریم وأن لا یختلقوا الأعذار لینصرفوا عن الإسلام .

أساساً، إن من یشرک بالله فقد إتخذ کمشرع شخص أو أی شیء آخر غیر الله تعالى. هذا الند المساوی لله قد یکون هو نفسه، أفراد عائلته أو أسلافه، أصدقاءه، مستخدمیه، مجتمعه، أو مؤسسی وأتباع مختلف الأدیان والفلسفات. فإذا نظرنا إلى الأمر من هذه الناحیة، فإن من یبتغی غیر سبیل الإسلام، فقد إختار سواء عن علم أم لا، الشرک. بغض النظر عن ما یدعون أنفسهم (ملحدین، غنّوصیین، نصارى، یهود، أو مسلمین)، فهم مشرکون. حتى ولو کانوا یقیمون الصلوات الخمس، یصومون، ویؤدون الحج وطقوس إسلامیة أخرى، مسیبقون على شرکهم فی حال کانت واحدة فقط من معتقداتهم تتعارض مع القرآن، فی حال ترکوا أوامر الله، أو سعوا إلى إرضاء غیره على حسابه تعالى.

أن من یشرک بالله قد لا یعلم أو یشعر بذلک وهو لن یقول " لقد جعلت من هذا أو ذلک إلهاً أعبده من دون الله "، فالشرک أولاً فی القلب ثم ینعکس على الأعمال. وکما یوضح لنا القرآن فإن تفضیل الناس لأی أحد أو شیء على الله یجعل من الشخص مشرک. غیر أن هؤلاء عادة لا ینکرون وجود الله وهم لا یُقرون بشرکهم. وبطمسهم ضمائرهم وخداع أنفسهم، فسینکرون شرکهم حتى فی الآخرة:

وَیَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِیعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِینَ أَشْرَکُواْ أَیْنَ شُرَکَآؤُکُمُ الَّذِینَ کُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَکُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا کُنَّا مُشْرِکِینَ(23)انظُرْ کَیْفَ کَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا کَانُواْ یَفْتَرُونَ(24) ) الأنعام :22-24)   

المقدّمة

إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِیمًا ) النساء 48)



المقدّمة        

یعلم معظم الناس أن الشرک إثم عظیم، ولکنهم لا یعتقدون بتبتاً أن له أیّة علاقة بهم. فهم یظنّون أنّ المشرکین، الموصوفون بأنّهم یجعلون لله الشرکاء، هم فقط أشخاصاً یعبدون الأصنام المنحوتة من الصخر والخشب، کما کان یفعل العرب الأوائل قبل الإسلام، الذین کانوا یعبدون الأصنام فی الکعبة. غیر أن الشرک فی الواقع قد یکون أخفى بکثیر من ذلک، وهو فی الحقیقة منتشر الیوم بکثرة فی العدید من المجتمعات.

یشمل الشرک کل هدف یضعه الإنسان لا یقصد به وجه الله تعالى، أو أن یضع رجاءه فی شخص ما أو سبب من الأسباب معتمداً على هذه الجهات فی تحقیق آماله ورغباته، وهو مؤمن بأن هذه الأشخاص أو الجهات تملک القوّة والقدرة المستقلة عن الله. فمتى فهمنا حقیقة الشرک والطریقة التی یتخفى بها، فإن علینا أن ننظر إلیه کظاهرة قریبة جداً منا.

إن الشرک بالله أعظم إثم على الإطلاق. فهو إثم لا یغتفر وبالتالی یقود صاحبه إلى جهنم. فإذاً، على من یخشى الله ویعترف بربوبیته ویطمع بجنته أن یظل متیقظاً حیال هذا الأمر الخطیر. غیر أن الناس لیس باستطاعتهم تجنب هذا الإثم العظیم ما لم یعلموا تماماً ماهیة الشرک وما هی الأمور التی تنضوی تحته وتؤدی إلیه.

لقد ألف هذا الکتاب بهدف إظهار أن الشرک المذکور فی القرآن منتشر بکثرة فی مجتمعنا المعاصر. فنأمل أن یحقق هدفه المنشود وأن یساعد الناس بالتبرأ من أوثانهم والعودة إلى الله تعالى وحده بکل إخلاص، خالق کل شیء.

بالإضافة إلى ذلک، فإن الشرک على رأس قائمة الآثام التی یجب إجتنابها، لأن الذین یجعلون مع الله شرکاء مذنبون بإرتکابهم إثم کبیر بحقه. وقد ذکر الله فی القرآن الکریم انه تعالى یغفر الذنوب کلها إلا أن یشرک به. فالشرک ذنب کبیر وافتراء عظیم:

إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِیدًا ( النساء:116)

هنا تکمن أهمیّة إجتناب الشرک. فبما أنالله لا یغفر هذا الذنب العظیم، فإنه یدعو الناس إلى إجتنابه بکل الوسائل والأثمان وذلک بالإمتناع عن الشرک به تعالى. فمثلاً، فإن النبی لقمان (ع) کان یقول لإبنه وهو یعظه:

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ یَعِظُهُ یَا بُنَیَّ لَا تُشْرِکْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْکَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ (لقمان:13)

سبب آخر لإحجتناب الشرک هو أنه یذهب بکل أعمال الإنسان هباءً ویجعلها حسرات علیه بسبب ضلال سعیه:

وَلَقَدْ أُوحِیَ إِلَیْکَ وَإِلَى الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکَ لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ وَلَتَکُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِینَ (الزمر:65)

من الواضح أن الشرک بالله ذنب خطیر یودی بالإنسان إلى جهنم. فإذاً، على من یخشى الله ویعترف بربوبیته ویطمع بجنته أن یظل متیقظاً حیال هذا الأمر الخطیر. غیر أن الناس لیس باستطاعتهم تجنب هذا الإثم العظیم ما لم یعلموا تماماً ماهیة الشرک وما هی الأمور التی تنضوی تحته وتؤدی إلیه.

لقد ألف هذا الکتاب بهدف إظهار أن الشرک المذکور فی القرآن منتشر بکثرة فی مجتمعنا المعاصر. فنأمل أن یحقق هدفه المنشود وأن یعین الناس على التبرأ من أوثانهم والعودة إلى الله تعالى وحده بکل إخلاص، خالق کل شیء.

على القارئ أن یدرک أیضاً أن الشرک لیس مقتصراً على الأزمنة الغابرة أو المجتمعات البدائیة، بل هو أقرب إلیهم ممّا یظنون. ولهذا، فإنه یجب أن یشکل إهتماماً کبیراً بالنسبة إلیهم. إن الذین یشعرون بعدم حاجتهم للتفکر فی هذا الأمر لن یتمکنوا من الإستفادة من المعلومات المذکورة فی هذا الکتاب. بمعنى آخر، إذا کان هؤلاء یمارسون الشرک فإنهم سیبقون على هذه الحال وسیلقون الله تعالى بهذا الذنب العظیم.

فإذاً، علیک بقراءة هذا الکتاب بتمعن وإخلاص وکأنه کتب خصیصاً لک. تفکر فیه یصدقٍ وتأمل بالأمثلة القرآنیة، ثم قرر ما إذا کانت معتقداتک وأعمالک تمت إلى الشرک بأیة صلة. بما أننا جمیعاً ضعفاء وقابلین للوقوع فی الخطأ، فإن ما یهم هو معرفة أخطائنا وتصحیحها فوراً.