الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الأدیان المزیفة التی صنعتها المادیة

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَیَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَکُمُ الْوَیْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)

(سورة الأنبیاء: 18)



الأدیان المزیفة التی صنعتها المادیة

مثلما ذکرنا من قبل، فالمادیة حرکة فکریة خطیرة تعمل على تحطیم القیم الروحیّة وإبعاد الشّعوب عن الدّین. ولا زالت غالبیة کبیرة من مجتمعاتنا الیوم تحت تأثیر التفکیر المادی، سواء کان ذلک عن وعی ودرایة أم عن غفلة وجهل. غیر أن هناک مسألة أخرى تستحق الذّکر، وهی أن التمسک بالنظرة المادیة لا تعنی بالضرورة أنها تحمل فی طیها الرّفض للوجود الإلهی. فهناک عدد کبیر من الناس یؤمنون بالوجود الإلهی ولکنهم لازالوا متمسکین بالنظرة المادیة. ولقد وردت فی القرآن العدید من الآیات تحدثنا عن مثل هؤلاء الناس:
(قُلْ مَن یَرْزُقُکُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن یَمْلِکُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ وَیُخْرِجُ الْمَیَّتَ مِنَ الْحَیِّ وَمَن یُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَیَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِکُمُ اللّهُ رَبُّکُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) (سورة یونس: 31-32).
(قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِیهَا إِن کُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَیَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَکَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِیمِ  سَیَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِیَدِهِ مَلَکُوتُ کُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ یُجِیرُ وَلَا یُجَارُ عَلَیْهِ إِن کُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَیَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَیْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَکَاذِبُونَ) (سورة المؤمنون: 84-90).

(وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَیْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِیَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ کَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِی بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِکَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِیَ اللَّهُ عَلَیْهِ یَتَوَکَّلُ الْمُتَوَکِّلُونَ) (سورة الزمر: 38)
وکما هو وارد فی الآیات السابقة، فهؤلاء الناس یدّعون أنهم یؤمنون بالله وبدینه، غیر أنهم فشلوا فی إظهار التعظیم الذی یستحقه الله عز وجل لما له من نعم، بل وجعلوا له أندادًا. وهؤلاء هم أتباع الأدیان الباطلة التی تکونت بسبب التمسک بآراء بعیدة کل البعد عن الدین الحقّ. وکما کان الأمر فی الماضی، فهناک الیوم العدید ممن یتمسکون بالدّیانات الموضوعة ویبتعدون عن الدّین الحق الذی أساسه الوحی الإلهی.
وبعیداً عن هذه الفئة، فهناک أیضاً بعض الناس الذین ینکرون بصراحة الوجود الإلهی ویرفضون الاعتراف بالآخرة. وهم یبذلون قصارى جهدهم للتأثیر على الآخرین وضمّهم إلى صفوفهم. وهذه الوسائل التی وظّفها المادیون فی المجتمعات التی یعترف فیها الناس بالوجود الإلهی ولکنّهم یقصّرون فی تقدیر الله حق قدره، تتضمن مفهوماً تقلیدیاً للدّین یختلف عن تلک الوسائل التی یوظّفونها فی المجتمعات التی هی أکثر میلاً للإلحاد. فالمادیون یجرّون النّاس بعیداً عن الدّین الموحى به لرسل الله تعالى عن طریق ابتداع أدیان أخرى، وهی أدیان تُکیّف وفقًا لکلّ مجتمع وتُمزج بالإیحاءات المنبثقة من الاعتقاد بأنّ المادة هی الحقیقه المجردة.
وبالطبع فلیس من المتوقع أن یناضلَ هؤلاء الذین یتمسکون بالدّین، بعیداً عن تعالیمه الأصلیة، ضدّ مذاهب الإنکار، ولن یکون بوسعهم وصفها بأنها باطلة وغیر مجدیة، فالاعتقاد الدّینی الخاطئ، سواء کان عن قصد عن غیر قصد، سوف یوفّر المزید من الدّعم لمذاهب الإنکار والإلحاد. ولهذا السّبب، إذا أراد أحد ما الدّخول فی مناظرة جدّیة مع اللادینیین فیجب علیه التزود بالمعرفة الدقیقة عن دین الله عز وجلّ والفهم الصحیح لجمیع جوانب الأدیان الباطلة المقامة على أسس مادّیة حتى یستطیع تقویضها عن علم.
وفی الصّفحات القادمة سوف نتوقف عند بعض خصائص دینین من الأدیان الکافرة، ونعنی بهما المادیة والداروینیة، کما سوف ندرس الفوارق الموجودة بین هذین الدینین وبین العقائد الوثنیة التی تحدث عنها القرآن الکریم.

أصنام القرن العشرین
یخبرنا الله عز وجل فی القرآن الکریم عن هؤلاء النّاس الذین یعبدون غیر الله عزّ وجل ویتخذون من الأوثان آلهة، ویبین لنا الله عزّ وجل بالتفصیل جهاد رسله مع هؤلاء الناس. وهناک العدید من الناس یظنون أن المجتمعات فی الماضی کانت تعبد الأوثان نظراً إلى بدائیة أسلوبها فی الحیاة، ومن هنا کانت لدیهم هذه النظرة الدّینیة. بل هم یفسرون عکوف بعض القبائل الإفریقیة على عبادة الطواطم على أنه دلیل على بدائیّتها.
غیر أنه عند التأمل فی عقائد المجتمعات التی تعبد الأصنام والتی ذکرها القرآن الکریم، وعند النظر فی تفکیرها یتضح أ ثمة تشابها کبیرا بین هذه المجتمعات وبین قسم کبیر من المجتمعات الموجودة الیوم. فمثلما اتخذت هذه المجتمعات لنفسها آلهة من الجماد تعبدها مثل الخشب أو الحجر أو غیر ذلک، فهناک فی عصرنا الیوم أیضا أناس جعلوا لأنفسهم آلهة من الجمادات یعبدونها. وقبل أن نمر إلى عقد مقارنة بین عبادة الأصنام فی الماضی وبین عدد من المفاهیم الموجودة الیوم نعرض بعض المعلومات التی ذکرها القرآن الکریم عن مجتمعات عبادة الأوثان.
ومن بین المجتمعات الوثنیة التی تحدث عنها القرآن الکریم نجد قوم النبی إبراهیم علیه السلام:
(إِذْ قَالَ لِأَبِیهِ یَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ یَسْمَعُ وَلاَ یُبْصِرُ وَلاَ یُغْنِی عَنکَ شَیْئاً) (سورة مریم: 42)
(إِذْ قَالَ لأَِبِیهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِیلُ الَّتِی أَنتُمْ لَهَا عَاکِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِینَ قَالَ لَقَدْ کُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُکُمْ فِی ضَلَالٍ مُّبِینٍ) (سورة الأنبیاء: 52-54)
مثلما بینت الآیة الکریم، فقد عکف والد نبی الله إبراهیم وقومه على عبادة تماثیل صنعوها بأیدیهم، لا تنفع ولا تضر ولا قدرة لها على فعل شیء. فاعتبار شیء ما إلها یعنی أنه قادر على الخلق والرزق والشفاء وقادر على إنزال العقاب وقادر على إیجاد ما لم یکن موجودا، فهذه هی خصائص الإله المعبود. وقد کان عبدة الأوثان فی عهد سیدنا إبراهیم علیه السلام یعتقدون أن التماثیل التی صنعوها بأیدیهم تمتلک مثل هذه الخصائص، ولذلک کانوا یقدمون لها القرابین ویعبدونها. وفی الأسطر اللاحقة سوف نبین التشابه الغریب الذی یوجد بین تماثیل هذه الأقوام وبین بعض أنظمة التفکیر فی عصرنا الحاضر. 

العقائد الوثنیة المسیطرة على المجتمعات المعاصرة
لقد ادعى الوثنیون فی الماضی أن التماثیل الخرساء المنحوتة من الحجر أو الشجر والعاجزة عن فعل أی شیء تمتلک قوة خاصة. بل إنهم زعموا أن هذه التماثیل هی التی خلقت الکون کله، وأن حرکة الکون تتم وفقا لإرادتها. ولهذا السبب قدموا لها القرابین والتمسوا منها أن تمدهم بالصحة والرزق.
وفی ضوء هذه الحقائق، فمن الواضح أن بعض الناس فی أیامنا هذه یمتلکون خصائص هذا التفکیر الوثنی نفسه. فالمادیون والتطوریّون شأنهم شأن عبدة الأوثان فی الماضی، فإذا کان عبدة التماثیل یرون أن هذه المعبودات قادرة على خلق الکون وخلق الموجودات، فإن المادیین والوثنیین یعتقدون أن المواد غیر الحیة المتکونة من ذرات غیر عاقلة تمتلک إرادة وقدرة على الفعل. وهم یدّعون أن هذه المواد غیر الحیة اجتمعت عن طریق المصادفة ونظمت نفسها بنفسها، وفی النهایة استطاعت أن توجد هذه الکائنات الحیة التی هی غایة فی التعقید والکمال.
وبالإضافة إلى ذلک، هم یرون أن جمیع الحوادث فی الکون مرجعها إلى "الطبیعة" المتکونة من ذرات غیر حیة وغیر واعیة. وکمثال على ذلک، فالمادیون أو التطوریون یرون أن الأعاصیر والزلازل تحدث بقرار تتخذه "الطبیعة". وعند تفسیرهم لهذه الظواهر یستخدمون مفاهیم مثل "غضب الطبیعة" أو " معجزة الطبیعة". غیر أنهم لم یستطیعوا أن یبیّنوا ما هی هذه القوة التی یطلقون علیها اسم "الطبیعة" ولم یستطیعوا أیضا أن یبینوا مصدر هذه القوة التی یتحدثون عنها. فالعناصر التی یسمّونها " الطبیعة الأم" أو"الطبیعة" فی حقیقة الأمر لا تختلف عن آلهة المجتمعات الوثنیة فی الماضی والتی کانت تسمى "الأرض الأم" أو"آلهة الخصب". فلم تتغیر سوى الرموز، وقد اتخذوا المواد غیر الحیة التی لا ترى بالعین المجردة والمصادفات إلها وظنوا أنها قادرة على الخلق. 
ویشرح بییر بول جراسییه (Pierre Paul Grasse )، وهو فرنسی الأصل متخصص فی علم الحیوان ومؤید حمیم لنظریة التطور، الآلهة الخفیة للمادّیین ومعتقدی نظریة التطور کالآتی:
"... لقد أصبحت المصادفة إلها یعبد سرًّا تحت غطاء الإلحاد".
إنّ إسناد القدرة على الخلق لمواد غیرحیة وذرات غیر واعیه هو بالتأکید قصور خطیر فی المنطق. ومثلما اعتقد عبدة الأوثان أنّ الأوثان غیر الحیة أوجدت جمیع الکائنات الحیة، فإنّ المادیین ومعتنقی نظریة التطور الیوم یعتقدون بأنّ ا لمادة غیر الحیة نشأت عنها بشکل تصادفی کائنات حیة. وذلک یعنی أنّ المواد غیر الحیة هی کائنات لها عقل وإدراک وأنه یمکنها اتخاذ القرار والعمل وفقًا  لهذا القرار. ومن هذا المنطلق، اعتبروا أنّ کل شئ إله.
وعلى سبیل المثال، یعتبر أنصار نظریة التطور أنّ الوردة التی تزهر بلونها الأحمر بعد أن کانت فی تربه طینیة إله، فهم یرون أنّ الوردة جاءت إلى الحیاه بإرادتها أو أنّ العناصر غیر الحیة التی تُکوّن الوردة قامت عفویّا بشکل عفوی بتصمیم الوردة. وقس على ذلک جمیع الکائنات الحیة الأخرى والنباتات مثل البرتقال والتفاح والفراولة والموز وشجرة العنب والورد والبطیخ والبقدونس والغزلان والأسود والفیلة والنمل والنحل والذباب والحیوانات المائیة إلى غیر ذلک...  وباختصار، جمیع الکائنات لها القدرة على خلق أنفسها بأنفسها. فهم یدعون أنّ جمیع هذه الکائنات وملایین الکائنات الأخرى قد تطورت إلى ما هی علیه فی الوقت الحاضر بإرادتها الخاصة ومن تلقاء نفسها.
وفی مثال آخر یدّعی أنصار التطور أنّ نحلة العسل، التی کانت من قبل کائنا حیّا آخر، قررت أن تصبح نحلة عسل فی وقت ما من الزمن، ومن هنا بدأت فی تشکیل تقنیات خاصة فی جسمها قادرة على إنتاج العسل. کما أدّعوا أنّ الذباب کان فی البدایة لا یستطیع الطیران، ولکنّه بعد ذلک کوّن أجنحته بقدراته الذاتیة ثم بدأ بعد ذلک فی الطیران. کما أن هذا الذباب جهز نفسه بتقنیات الطیران الدّقیقة التی تعتبر أدق من التکنولوجیا الحدیثة الموجودة فی الطائرات وطائرات الهیلوکبتر الیوم.
ویمکن لأنصار نظریة التطور أن یقصّوا علینا عددا لا نهایة له من القصص المشابهة عن بلایین الکائنات الحیة التی تعیش على الأرض، وکلها تشترک فی نقطة واحدة مثیرة: وهی أنّ الذرات غیر الحیة التی تکّون الکائنات الحیة أو "الطبیعة" لدیها وعی وحکمة. فالمصطلحات مثل "الانتخاب الطبیعی" و"التزاوج العشوائی" و "العزلة الجغرافیة" التی تضفی شیئا من المسحة العلمیة  تجمل العقیدة التی وضعها أنصار نظریّة التطور. فهم یزعمون أنّ المادة غیر الحیّة فی الطبیعة یمکن أن تشکّل بشکل عفویّ کائنات حیة متقنة مثل: الموز والبرتقال والذباب والبقدونس والقطط والقرنفل والحوت والزرافات والنعامة والفراشة والعنکبوت والصبار والیوسفی والنملة والفیل ووردة البنفسج وغیر ذلک من الکائنات الحیة.
ووفقاً لعقیدة هؤلاء التطوریین فإنّ الذّرات غیر الواعیة قامت بتصنیع عناصر متعددة أدّت إلى تصمیم وتنظیم وعمل المجال الجوی المتقن. ولذا فإن المجال الجوی أصبح قادراً على أن یکون سقفاً حامیاً للعالم، وقام بتکوین کلّ ما هو ضروری للعیش على سطح الأرض. فیمکن القول بأنّ هؤلاء الذین یعبدون المادة ینسبون إلیها قدرات خاصة. فالکربون والهیدروجین والنیتروجین والحدید تعتبر کلها آلهة بالنسبة إلى هؤلاء الوثنیین.
وکذلک، ووفقاً لهذا الاعتقاد السخیف، فإنّ الذرات العمیاء تتقابل أولاً سویاً ثم بصوره أو بأخرى تنظم نفسها لتکون العین التی ترى. ویعتبر النظام السلوکی لهم محسوباً ومدرکاً تماماً حتى یکفل النظام للذرات الأخرى، والتی ستقوم بتکوین قاع العین وتنتظر صابرة حتى تحدث المصادفة التی ستشکل قاع العین قبل تکوین العین ذاتها. ویرى معتنقو نظریة التطور أنّ هذه الذّرات التی تکوّن العین هی آلهة على افتراض أنها "قادرة" على خلق مثل هذا العضو المتکامل. فمثلما  اتخذت الشعوب فی الماضی آلهه الأمطار، فإنّ أنصار نظریة التطور اتخذوا الذّرات التی تقوم بصناعة العین آلهة أیضا.
ومن هنا یمکن أن نستنتج أنّ دین المادیین وأتباع نظریة التطور لدیه أکثر من بلیون من الألهة التى تعظّم. فالادعاء بأنّ کلّ کائن حی فی العالم جاء إلى الوجود تلقائیا عن طریق المصادفة یعنی اعتبار کلّ واحد من هذه الکائنات والقوى إلها قائما بذاته. فهذا لا یختلف عن الفشل المنطقی الذی جعل الإنسان یسجد أمام الطوطم أو یدعو التماثیل الخشبیة أن تمنحه الصحة والرخاء، غیر أن هناک اختلافا واحدا فقط، وهو العصر الذی عاش فیه عبدة الأوثان عن عصرنا الحاضر.

 

الآلهة المزیفة عند التطوریین: الذرات غیر الواعیة
کل شیء نقف علیه سواء کان صخرة، أو تربة أو کرسیّا ، الهواء الذی نتنفسه، الطعام الذی نأکله لنحیا، المیاه التی تُکوّن ثلثی أجسامنا، وکذا جمیع الأشیاء داخل و خارج أجسامنا، حیة کانت أو میتة، کل ذلک مکوّن من ذرات. کذلک المجرات فی الفضاء والنجوم والشموس والأرض التی نعیش علیها، کلها مکونة من ذرات، وحتى أجسامنا کذلک. فالذرات فی کل مکان نوجد فیه، حتى الهواء الذی نتنفسه ملیء بالذرات.
الکائنات الحیة ومن ضمنها الإنسان مکونة من ذرات من عناصر مختلفة مثل الکربون والهیدروجین والأوکسیجین والکالسیوم والمغنسیوم والحدید. وتؤکد الداروینیة أن تلک الذرات تجتمع معاً نتیجة المصادفات غیر الواعیة. فمنطق أصحاب نظریة التطور یقبلون بأن مجموعات حاشدة من الذرات غیر المدرکة تمارس میکانیکیة اتخاذ القرار وتکوّن، على سبیل المثال، مهندسا نوویا متخصصا فی علم الذّرات.

ویأخذنا البحث الدقیق لهذا المنطق الذی لا معنى له إلى النتیجة الآتیة: تجتمع الذّرات المختلفة تحت تأثیر قویّ لشیء غیر معلوم بالمصادفة مع بعضها البعض لتُکوّن النجوم والکواکب... وباختصار، جمیع الأجرام السّماویة. ثم عن طریق التجمع غیر الواعی من قبل تلک الذرات، ینتج عنه خلیة حیة ذات هیکل فائق الترکیب. ثم تمر هذه الخلیة الحیة بمرحلة التطور وتقوم بتشکیل العدید من الکائنات الحیة التی بها أنظمة فائقه الترکیب، وفی النهایة تستوی إنسانا له وعی وإدراک. بهذا المعنى، فالإنسان یدین بوجوده فقط للمصادفات، ویقوم أیضاَ باکتشاف الذّرات التی کانت السّبب فی صنع جسمه وذلک عن طریق الآلات، مثل المیکروسکوب الذی اکتشف أیضاَ عن طریق المصادفة. وهذا بالضبط ما تأکده الداروینیة کنظریة علمیة، وبالتالی فالواضح أن هذه النظریة تعتبر کل ذرة "إلها" قائما بذاته.
فالذرات التی تصنع الإنسان الذی یتمیز بالحکمة والذکاء لیس لها وعی أو إرادة فی ذاتها. غیرأن معتقدی نظریة التطور بطریقة ما یؤکدون أن هذه الذرات غیر الحیة تلتقی ببعضها البعض لتُکوّن الإنسان، ثم تقرر هذه "التجمعات الذریة" أن تذهب إلى المدرسة أو تتخرج من الجامعة. ووفقاَ لنفس المنطق، تمتلک أیضاً تلک الذرات مهارات مثیرة للغایة؛ فتلک الذرات تأکل الطعام الذی هو مُکوّن أیضاَ من ذرات وتتذوقه، وهی تشم رائحة الورود المکونة من الذرات وتتمتع برائحتها الزکیة، ونفس الذرة أیضاَ یمکن لها أن تشعر بدفئ الهواء المحیط بها. وفی ذات الوقت، تستمع الذرات لموجات الصوت المرسلة من شریط صوتی وتتفاعل مع الترانیم الموسیقیة. ووفقاَ لمعتقدی نظریة التطور، فإن الکثیر من الذرات تتقابل عشوائیاًّ مع بعضها البعض ویمکنها التفکیر والإحساس بفقدان شخص ما، والشعور بالسعادة أو الحزن، والضحک عند مشاهدة فیلم کومیدی. فلقد إدعى عبدة الأصنام فی الماضی أن قطع الخشب تمتلک قدرات خاصة بها، وهو المنطق نفسه الذی یستخدمه أصحاب نظریة التطور الیوم عندما ینسبون القدرة لذرات غیر واعیة.
ومهما یکن من أمر، فمن الواضح أنه لا یوجد شیء فی العالم کله یمکن نسبته إلى المصادفات، إنّ هناک إرادة ووعیا لخالق عظیم هو المتصرف فی هذه لحیاة على الأرض وفی الکون کلّه. والطبیعة وجمیع تفاصیل جسم تحتوی على آثار صنعة عظیمة لإله حکیم، إنه الله عز وجل مالک هذه الحکمة، مالک السّموات والأرض .
ویخبرنا الله عز وجل أنه سوف یرد أفعال مثل هؤلاء الکفار العاکفین على عبادة الأصنام ویبطل أعمالهم الملوثة بالشرک:
"وَجَاوَزْنَا بِبَنِی إِسْرَائِیلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ یَعْکُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ یَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً کَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّکُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِیهِ وَبَاطِلٌ مَّا کَانُواْ یَعْمَلُونَ قَالَ أَغَیْرَ اللّهِ أَبْغِیکُمْ إِلَـهاً وَهُوَ فَضَّلَکُمْ عَلَى الْعَالَمِینَ" (الأعراف: 138-140).

عبادة الشمس
یوجد کذلک تشابه بین المذهب الذی یقوم على أساس عبادة الشمس، والذی وُجد منذ قدیم الزمان، وبین معتقدات المادیین من أصحاب نظریة التطور الیوم. فالشمس باعتبارها مصدر الضوء والطاقة غالباَ ما یفترض الناس أنهم یدینون لوجودهم للشمس وبالتالی یتخذونها إلها یعبد. ولقد حجب هذا الاعتقاد الفاسد، عبر التاریخ، العدید من  المجتمعات عن دین الله الحق. ویشیر القرآن الکریم إلى هذا الأمر ویحدثنا عن أهل سبأ الذین کانوا یعبدون الشمس فی عهد رسولنا سلیمان:
"وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا یَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِیلِ فَهُمْ لاَ یَهْتَدُونَ أَلاَّ یَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِی یُخْرِجُ الْخَبْءَ فِی السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَیَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ" (النمل: 24-25).
وکما نرى فإن عبادة الشمس هی نتیجة الجهل وعدم التفکر. فصحیح أن الشمس ترسل الحرارة و الضوء للأرض، ولکن یجب على الإنسان أن یشکر الله الذی خلقها لا أن یعبدها هی. فالشمس لیست سوى عبارة عن کتلة کبیرة من المادة لا تملک أیّ وعی خلقها الله عز وجل من العدم. وسوف یأتی الیوم التی تستنزف فیه طاقتها وتنتهی. فبما أن الله عزوجل هو الذی خلق الشمس وخلق جمیع الأجرام السماویة من العدم فهو سبحانه المستحق للشکر لأنه سخر لنا هذه الکائنات. وهذا ما تذکرنا به الآیات التالیة:
"وَمِنْ آیَاتِهِ اللَّیْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَهُنَّ إِن کُنتُمْ إِیَّاهُ تَعْبُدُونَ" (فصلت: 37)
والجدیر بالذّکر، أن معتنقی نظریة التطور الیوم یؤمنون بنفس الأفکار التی کانت موجودة لدى عبدة الشمس القدماء بادعائهم أننا ندین بوجودنا للشمس. فطبقاً لمصادر أصحاب نظریة التطور، فإن أصل الحیاة على الأرض ترجع إلى الشمس وأن الأشعة الصادرة من الشمس تبعث الحیاة للأرض. کما ادعوا أیضاً أن الطاقة الشمسیة مسئولة عن توالد فصائل حیة أخرى وکذلک الأشعة الشمسیة مسئولة عن الاختلاف فی الکائنات الحیة. وهذا ما جاء فی کتاب لـ"کارل ساجان"  وهو عالم فلکی أمریکی ملحد، فقد ورد فی کتابه "النظام الکونی " ما یلی:
"عبد أجدادنا الشمس، وکانوا بعیدین کل البعد عن الحماقة ...  فإذا کان من الضروری عبادة قوة أکبر من أنفسنا، ألیس من المنطقی أن نرجع إلى الشمس والنجوم ؟"
هارلو شابلی وهو عالم فلکی یؤمن بنظریة التطور، وکان على منهج کارل سیجان ویوضح موقفه على النحو التالی: "یرى بعض المتدینین "أن البدایة هو الله"، ولکنی أقول "إنّ الهیدروجین هو الذی یأتی فی البدایة". وهکذا کان اعتقاد شابلی فی الوقت الذی یتطور فیه غاز الهیدروجین إلى الحیوانات، الأشجار والإنسان. وکما هو ملاحظ فإنّ عبودیة المادة والطبیعة تتضمن جمیع الآراء غیر المنطقیة التی وضعها أصحاب نظریة التطور. فإن "دین" معتنقی نظریة التطور یعتمد على عبادة المادة والطبیعة.
وعلى الصعید الآخر، یدرک الإنسان ذو الحکمة أن العالم والطبیعة لا یمکن أن یکونا نتاج أعمال مواد غیر حیة وغیر مدرکة. فعلى النقیض، ذو الحکمة ینبغی له أن یرى الإدراک المبدع، والتخطیط المتقن، والفن فی کل التفاصیل ویدرک عظمة الله عز وجل فی خلقه. ولکن لازال العدید من الناس فی یومنا هذا عمیان عن هذه الحقیقة ویستمرون فی عبادة الأشیاء. وهؤلاء مثل قوم سبأ: "وَزَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِیلِ فَهُمْ لاَ یَهْتَدُونَ" (النمل: 24).
مرض المادیین وأصحاب المذهب الطبیعی
ناضل بدیع الزمان سعید النورسی طوال حیاته بشراسه ضد أدیان الکفر، وفی مواضع کثیرة من تفسیره للقرآن الکریم والمسمى "رسائل النور" تحدث عن مرض (طاعون) المادیین والطبیعیین. وذکر أنه یمکننا تعریف المذهب الطبیعی على النحو التالی: " المذهب الطبیعی، بمعنى مذهب عبادة الطبیعة والمذهب المادی بمعنى الفکر الذی لا یؤمن سوى بالمادة هما عبارة عن مرض لا غیر". وبالإضافة إلى ذلک ینبه بدیع الزمان إلى مذهبی المادیة والداروینیة القائمین على إنکار الإیمان والغیب، ویقدم تحلیلا مفصلاً بطریقة منطقیة لقصور منطقیة هاتین الحرکتین اللتین تنکران الدین:
"یحسب المادیون المتفرعنون (نسبة إلى فرعون) "أنهم أوجدوا أنفسهم وجدوا فی هذه الحیاة من تلقاء أنفسهم، وأنهم یخلقون کل شیء یحتاجونه"، ولذلک فهم لا یعترفون بالإیمان ولا بالعبودیة. وهذا یعنی افتراضهم بأنهم هم من خلقوا أنفسهم، والحال أن خالق شیء واحد ینبغی أن یکون هو خالق کل شیء. فکبریاؤهم وخداعهم لأنفسهم أوقعهم فی الحمق لأنهم اعتقدوا أن قدرة الواحد منهم تکفیه کل شیء بینما هو لا یستطیع أن یدفع عن نفسه شر ذبابة أو میکروب صغیر.
إن المادیّین الذین قصروا استخدامهم للمنطق على ماهو ظاهر أمامهم فی التو واللحظة یعتقدون وفقاً لفلسفاتهم غیر المنطقیة والتی أساسها العبث أن المصادفة هی التی تتحکم فی الذرات، والمصادفة تقوم علیها جمیع الأسس الرئیسیة المکونة لمبادئهم واعتقاداتهم، بل وأکدوا أن الأعمال الإلهیة کانت نتیجة لتلک التحوّلات. فهذا الکون الذی تملأ الروعة جمیع أرکانه جعلوه معتمدا على العبث والفوضى واللامعنى. وحتى من له ذرة من إیمان یدرک مدى مخالفة هذا الکلام للعقل".
ینبه بدیع الزمان فی کلامه السابق إلى حقیقة أنه لیس من المنطق إطلاقاً أن ینسب الشخص الأولوهیة لذاته. کما یؤکد أن الإنسان کائن مخلوق ضعیف لاحول له ولاقوة، وهو عندما ینسب وجوده وکمال الکون "للمصادفات" وینکر خالقه إنما یلقی بنفسه فی الجحیم. کما حذر من أن تیارات الإنکار والإلحاد سوف تکتسح العالم فی وقتنا الراهن وأنه یجب إنقاذ الشعوب من تلک المذاهب الإلحادیة:
"فإن الظهور الکبیر لتیارات الفلسفة المادیة والطبیعیة سوف یقوى شیئاً فشیئاً وینتشر ویعم فی نهایة الزمان ... لیبلغ الدرجة التی یتم فیها إنکار الوجود الإلهی... وإنه لمن الواضح مدى التهریج الأحمق لدى الإنسان الضعیف، الذی یمکن أن تقضی علیه ذبابة بینما هو غیر قادر حتى على خلق جناحها، فکی یدعی الألوهیة بعد ذلک؟
وکما أکد بدیع الزمان فمن غیر المعقول ولا المنطقی الاعتقاد بأنّ المادة غیر الحیة هی التی خلقت الکون والحیاة بذاتها. فهذا الإنسان الذی یحمل مثل هذا الاعتقاد من المستحیل أن نقول أن لدیه قدرًا من الحکمة والعقل. ولقد ذکر لنا نبینا إبراهیم علیه السلام ما کان یفعله قومه من حمق عندما کانوا ینحنون أمام أصنامهم المنحوتة من الخشب:
"قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ یَنفَعُکُمْ شَیْئاً وَلاَ یَضُرُّکُمْ أُفٍّ لَّکُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (الأنبیاء: 65-66)
الأدیان الباطلة التی نشأت نتیجة النظرة المادیة
ونظریة التطور عن الحیاة
لعل العرض القادم یعطی صورة واضحة عن حرص المادیین على زیادة أعداد الناس الذین ینکرون الوجود الإلهی ودین الله ویعملون على کسب فئة من الناس لا یکونون مسؤولین إلا أمام أنفسهم فحسب. وتحتوی الفلسفة المادیة على إفکار تسعى إلى إیجاد مجتمع یرفض لیس فقط الوجود الإلهی بل والقیم الروحانیة والأخلاقیة على حد سواء، ولذا کان یتعین على أصحاب هذه الفلسفة زرع الفکر الملحد فی عقول الناس ونشره داخل المجتمع. وبینما یرفضون دین الله عزوجل، لازالوا یقبلون صورًا بدیلة للدین تتفق مع نظرتهم المادیة. جورج کایلور سیمبسون George Gaylord Simpson أحد الأسماء الرائدة فی الحرکة الداروینیة الحدیثة، وهو یصف طبیعة الدین المقبول لدى أصحاب نظریة التطور قائلاً:
"بالطبع فإن هناک بعض المعتقدات التی مازالت موجودة، وهی مرتبطة بالدین وبالمشاعر الدینیة التی لا تتلاءم ظاهریا مع نظریة التطور، وبالتالی لا یمکن الاحتفاظ بها فکریاً رغم جوانبها العاطفیة. غیر أن ما أجده الآن واضحاً ولا یتطلب المزید من المناقشات الخاصة، هو الانسجام بین نظریة التطور والدین الحق".
یذکر سیمبسون Simpson أحد أنصار نظریة التطور أن الدین یمکن أن یتصالح مع آراء المادیین فی الحیاه طالما ینسجم مع مفاهیمهم. غیر أنه جدیر بالذکر أن ما یشار إلیه "بالدین الحق" بالتأکید لیس الدین الذی أساسه الوحی الإلهی وإنما هو شیء بعید کل البعد عن الحق المنزل من السماء. إنه دین آخر أساسه الفکر المادی وإشباع الناس عاطفیاً. فغالبیة الناس الذین یدعون الإیمان فی عصرنا هذا، هم فی واقع الأمر یعتنقون الدین الباطل الذی زعم المادیّون أنّه "الدین الحق".
وفی الجزء التالی سیتم بإیجاز عرض بعض خصائص الأدیان الباطلة، وسوف یتضح أنها جامعة لمعتقدات مشوهة تمارس باسم الدین. وباعتبار أنّ الإنسان غیر معتاد على التفکر العمیق فغالباً ما یفشل فی ملاحظة الأخطاء الموروثة الحاصلة فی تلک المعتقدات. وکشف هذه الأمور من المسؤولیات المهمة الملقاة على عاتق المؤمنین المخلصین للإسلام، ومن واجبهم أیضا تحذیرالشعوب ضدّ الأدیان الباطلة التی صنعها الإنسان وإیصال رسالة القرآن إلى کل مکان، فالقرآن الکریم هو مصدر الحکمة ومصدر النور الذی جاء من عند الله تعالى لعباده من أجل هدایتهم.


1. الدین الباطل یظن أن الله موجود فی السماء
رغم الاعتقاد بوجود الله عزوجل، غیر أن الکثیرین یحملون معتقدات خاطئة عن مکان وجود الله تعالى. وترجع تلک المعتقدات أساساً إلى النظرة المادیة للحیاة، فالمادیون یرون أنه لا یوجد شیء فی الواقع غیر المادة، فهم یفترضون بصورة حتمیة أن الله عز وجل لابد وأن یکون داخل هذا الکون المادی ولکنهم فشلوا فی تخیل نوع المجال الذی یجوز أن یسکنه.
ویذکر لنا القرآن الکریم بعض الشعوب التی کانت تملک مثل هذه النظرة وهذا الفهم فی الماضی. ففرعون أمر ببناء برج یصل إلى السماء حتى یصعد ویرى الله عزوجل. وکان اعتقاده الخاطئ هذا نتیجة فشل فی فهم صفات الله عزوجل وافتراضه أن المادة هی الحقیقة:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ یَا أَیُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَکُم مِّنْ إِلَهٍ غَیْرِی فَأَوْقِدْ لِی یَا هَامَانُ عَلَى الطِّینِ فَاجْعَل لِّی صَرْحاً لَّعَلِّی أَطَّلِعُ إِلَى
إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّی لأَظُنُّهُ مِنَ الْکَاذِبِینَ" (القصص: 38)
ولکن الله هو خالق الفضاء وهو غیر محکوم به. الله عزوجل خالق الکائنات المحدودة بالفضاء، أما هو فهو منزه فوق کل المخلوقات فهو عالم بکل شیء.
ویفشل هؤلاء الناس تحت تأثیر النظرة المادیة للحیاة فی فهم هذه الحقیقة الواضحة مفترضین أن الله یسکن السّماوات. فهناک بعض الناس ینظرون إلى السماء أثناء صلواتهم، ولکن الإنسان الذی یعلم أن الله عزوجل موجود فی کل مکان یستشعر وجوده حیثما یکون. ویخبرنا الله سبحانه وتعالى عن هذه الحقیقة:
" وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَیْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِیمٌ" (البقرة: 115)
"لاَّ تُدْرِکُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ یُدْرِکُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ" (الأنعام: 103)


2. الدین الباطل یرى أن الله خلق الکون والإنسان ثم ترکهما
یرى الدین الباطل أن الله عزَّ وجل خلق الکون بأکمله فی البدایة بجمیع الکائنات الحیة ثم ترکه وشأنه، وهو یکتفی بملاحظته من بعید ولا یتدخل فیه. وطبقاً لهذا المفهوم، فإن الإنسان هو وحده الذی یحدد مصیره بنفسه. ولکن الله سبحانه وتعالى لیس محددا لا بمکان ولا بزمان، ولذلک فهو عندما خلق الکون والإنسان خلقهما معاً بماضیهما وبمستقبلهما، کأنهما لحظة واحدة. فیمکن القول بأن الله عزَّ وجل خلق کل شیء وقدر لکل شیء مصیره الخاص به. ولایمکن للإنسان معرفة مستقبله حتى یخوضه بنفسه. والله یعلم مستقبل کل إنسان ویعلم کل لحظة سوف یمر بها فی حیاته. فالله خلق کل لحظة سنعیشها، وکل کلمة سنتلفظ بها، وکل حرکة نقوم بها. فبالتأکید لم یخلق الله الکون بأکمله ثم ترکه لقوانینه المجردة بل خلق کل لحظة فی حیاة جمیع الکائنات الحیة منذ البدایة وحتى النهایة. کل شیء، سواء سقوط ورقة الشجر أو حدث من الأحداث التی یمر بها الإنسان خلال حیاته، والتی تحدث وفقاً للقدر الذی حدده الله مسبقاَ. و یذکر الله سبحانه وتعالى هذه الحقیقة للإنسان فی العدید من الآیات:
" وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَیْبِ لاَ یَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَیَعْلَمُ مَا فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ یَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِی ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ یَابِسٍ إِلاَّ فِی کِتَابٍ مُّبِینٍ" (الأنعام: 59)  
"وَاللَّهُ خَلَقَکُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ" (الصافات: 96)

3. الدین الباطل لا یؤمن بالجنة والنّار

هناک بعض الناس تأثروا بالفکر المادی فأصبحوا لا یؤمنون بوجود الجنة والنار رغم إیمانهم بالله تعالى، والسبب الأساسی لذلک هو زعمهم أنهم لا یستطیعون التأکد من وجود شیء دون رؤیته بأعینهم أو تحسسه بأیدیهم. والحقیقة أنّ هناک دلائل لا حصر لها لذوی العقل والحکمة، تشیر إلى وجود الله والدار الآخرة، مثل السموات والأرض اللتین خلقتا بتصمیمٍ دقیقٍ وإنسجامٍ مدهش. ومن ذلک أیضا خلق الخلیة، وهی الوحدة البنائیة لجمیع الکائنات الحیة وهی فی غایة التعقید، ومن ذلک الألوان والروائح والکائنات الحیة المختلفة التی تعیش بیننا. فالله تعالى الذی خلق جمیع هذه الکائنات ولم تکن شیئا مذکورا قادر، بلا أدنى شک، على إحیائها وبعثها من جدید. بید أنه بالرغم من کل ذلک، فالإنسان یصر على الجحود والإنکار. وهؤلاء الذین رفضوا تفهم هذه الحقیقة وصفهم القرآن فقال:
"وَقَالُواْ أَئِذَا کُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِیداً قُل کُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِیداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا یَکْبُرُ فِی صُدُورِکُمْ فَسَیَقُولُونَ مَن یُعِیدُنَا قُلِ الَّذِی فَطَرَکُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَیُنْغِضُونَ إِلَیْکَ رُؤُوسَهُمْ وَیَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن یَکُونَ قَرِیباً یَوْمَ یَدْعُوکُمْ فَتَسْتَجِیبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِیلاً" ( الإسراء: 49-52)
إن فشل غیر المنکرین لله تعالى فی إدراک البعث بعد الموت والشکوک التى یکنوها فی أنفسهم حول هذه الحقیقة هی أیضاً نتیجة لمعتقداتهم المادیة. فالمادی یرى أن التکوین الممیز للإنسان الحی هو نتیجة تفاعل بین العناصر. ویؤکد أن جوانب الإنسان الغیبیه (عقله وعواطفه) یتم خلقها أیضاَ عن طریق مثل هذه التفاعلات. وبالتالی، یفسر هؤلاء الناس البعث بأنه إعادة البناء الذاتیة للمادة، ولذا لا یمکن تخیل إمکانیة حدوث هذه العملیة. ومن هنا یمکن القول إنهم لا یستطیعون تقبل أن المادة التی تفنى یمکن أن تظهر مرة أخرى ویعاد ترکیبها.
ولکن، إذا کانوا لم یستطیعوا فهم کیفیة إعادة الجسم المتحلل بعد موته، فمن المفروض أن یکون إیجاد الجسم الحی من العدم أول مرة أکثر صعوبة وأشد تعقیدا. وهنا تکمن القضیة الکبرى، فلو تأملوا بتفکر لأزاحوا عن  أنفسهم هذه الشکوک ولعلموا أن الذی خلق من العدم قادر على البعث من جدید. یقول تعالى مذکرا بالخلق الأول:
"أَفَعَیِینَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِی لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِیدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ" (ق: 15-16)

إن ما یصنع الإنسان حقاً هی الروح ولیس الجسد، فالإنسان لیس عبارة عن لحم وعظم وشحم فقط، إنما الإنسان بالروح إنسان. والموت یضع نهایة للجسد، بینما الروح تستمر فی الحیاة إلى الأبد، فالموت هو مرحلة انتقال بالروح من الحیاة الدنیا إلى الحیاة الآخرة. یقول الله سبحانه وتعالى:
"ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِیهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَکُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِیلاً مَّا تَشْکُرُونَ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِی الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِی خَلْقٍ جَدِیدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ کَافِرُونَ قُلْ یَتَوَفَّاکُم مَّلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ"  (السجدة: 9-11)
الکِبر یمنع المنکرین من فهم حتى أکثر الحقائق وضوحاً، فهناک العدید من الآیات التی یذکر الله لنا فیها أن هؤلاء الذین ینکرون الحیاة الآخرة ویفترضون الموت نهایة لهم لم یستخدموا عقولهم التی منحها الله لهم:
"أَفَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن یَهْدِیهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَکَّرُونَ وَقَالُوا مَا هِیَ إِلاَّ حَیَاتُنَا الدُّنْیَا نَمُوتُ وَنَحْیَا وَمَا یُهْلِکُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِکَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ یَظُنُّونَ" (الجاثیة: 23-24)
وعلى النقیض من ذلک،  فإنه عزَّ وجل یصف المؤمنین کما یلی:
"الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاَةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ یُوقِنُونَ أُوْلَئِکَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" ( لقمان: 4-5)

"الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ وَیُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ یُنفِقُونَ والَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَیْکَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِکَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ یُوقِنُونَ" (البقرة: 3-4)
وفی مجال النضال ضد أدیان الکفر، هناک أمران مهمان یجب تناولهما؛ أحداهما إبطال نظریة التطور على أسس منطقیة وعلمیة حتى یعلم الناس أن وجودهم لم یکن نتیجة للمصادفة بل هو خلق الله عزَّ وجل. والأمر الآخر هو إفهام الناس ماهیة المادة وحقیقتها، وبالتالی مساعدتهم لإدراک الدین الحق. فالشخص الذی یستوعب أنه أکبر من مجرد مادة یستطیع کذلک فهم قدرة لله الخالق، سبحانه وتعالى.
إن الله خالق کل شیء، وهو لیس مرتبطا بمکان أو زمان محددین. وجمیع المخلوقات خلقها الله بأقدارها، والجنة والنار موجودان بالفعل ، وأعمال الإنسان مخلوقة من قبل الله عزَّ وجل، فهذه حقائق لا شک فیها ومن السهل فهمها. غیر أن هناک بعض الناس لا یرغبون فی قبول تلک الحقائق ویصفوها بأنها أمور صعبة. وهذا الفهم نابع من حقیقة أنه واقع تحت تأثیر النظرة المادیة للحیاة سواء بعلم أو بغیر علم. ومن الضروری لمن تأثروا بهذه النظرة أن یتحرروا من کبریائهم لکی یعرفوا الحقائق السلیمة عن المادة. و فی الأجزاء الأخیرة من هذا الکتاب نقرأ "الحقیقة التی هزمت دین الکفر" و "الفهم الخاطئ لنظریة التطور"، وهما یوضحان حقیقة المادة، کما یوضحان أن ما ظن سابقاً أنها أسرار معقدة هی فی واقع الأمر حقائق بسیطة وواضحة.

نظرات 0 + ارسال نظر
برای نمایش آواتار خود در این وبلاگ در سایت Gravatar.com ثبت نام کنید. (راهنما)
ایمیل شما بعد از ثبت نمایش داده نخواهد شد