الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

تضحیة الکائنات الحیة داخل العائلة الواحدة

تضحیة الکائنات الحیة داخل العائلة الواحدة

إنّ قسما من الکائنات الحیة یقضی حیاته أو جزءا کبیرا من حیاته مع باقی أفراد ما یسمى "بالعائلة", فنجد على سبیل المثال البطریق والبجع, إذ یعیش هذان الحیوانان مع زوجیهما طیلة فترة حیاتهما، أمّا إناث الأسود والفیلة فتعیش مع أمهاتها أو أمهات أمهاتها24. وعموما یتصف ذکور اللبائن بإنشاء عائلات خاصة بهم فتتألف هذه العائلات من الذکور والإناث والصغار. وإنشاء هذه العائلات یلقی مسؤولیة على عاتق البالغین لأن الذکور فی هذه الحالة ینبغی علیها الذهاب للصید أکثر من ذکور الأنواع التی تعیش وحیدة، وینبغی علیها الدفاع لیس فقط عن نفسها بل عن أفراد العائلة أیضا، ثم إنّ الدّفاع عن الصغار یتطلب تضحیة کبیرة .

وعملیة إنشاء عائلات والدفاع عنها یتطلب جهدا کبیرا وتحمّل مخاطر جسیمة و ترک الخلود إلى الراحة. وهذه العملیة تثیر تساؤلا مهمّا مفاده : لماذا تختار الحیوانات هذا الطریق الصعب. ؟

واختیار الحیوانات لهذا الطریق المحفوف بالمخاطر یبطل نظریة داروین والتی تقول بأن البقاء للأقوى، والموت والفناء للأضعف, فنحن سنرى فی الصفحات القادمة من خلال أمثلة عدیدة کیف تصمد, بل سنکتشف کیف أن الحیوانات الأقوى تعمل على المحافظة على حیاة هذه الحیوانات الضعیفة و بأنبل صورة للإیثار والتضحیة .

غریزة الحفاظ على النسل

غریزة الحفاظ على النسل

مثلما اتضح فی الصفحات السابقة فإن صفة التضحیة فی سلوک بعض الحیوانات لم یکن بإمکان دعاة التطور تفسیرها. وهناک أمثلة عدیدة للتضحیة فی الطبیعة تهدم الأساس الفکری لنظریة التطور حتى إن ستیفن جی جولد Stephen Jay Gouli یتحدث عن التضحیة فی الطبیعة کمشکلة عویصة تواجه نظریة التطور (21).

من جانب آخر یتحدث عنها جوردن تایلر Gorden Taylor باعتبارها مانعا أو سدا کبیرا أمام نظریة التطور لیعبرعن عمق المأزق الفکری الذی یواجه هؤلاء فی دفاعهم عن هذه النظریة. وهذه التضحیة والرأفة التی یمکن مشاهدتها فی الطبیعة تحمل مفاهیم کبیرة وتعتبر طعنة قاتلة فی جسد نظریة أولئک الذین ینظرون الى الطبیعة نظرة مادیة بحتة ویعتبرونها نتاج مصادفات لا غیر.

وهناک البعض من غلاة المؤمنین بنظریة التطور فسر هذه الظواهر تفسیرا آخر مختلفا سماه بقانون الجین الأنانی, ورائد هذه الفکرة أحد الغلاة فی وقتنا الحاضر ویدعى richard dawkins و هو یرى أن التضحیة التی تعبر عنها بعض الکائنات الحیة هی إلاّ نتاج أنانیتها، وحسب قوله فإن الحیوان عندما یبدی تضحیة ما فإنه لا یفعل ذلک دفاعا عن الباقین بل حفاظا على جیناته أی أنّ الأم عندما تذود عن صغیرها فهی فی الحقیقة تدافع عن الجینات التی تولدت منها لأنّ صغیرها عندما یتمّ إنقاذه فإنه یستطیع أن ینقل هذه الجینات إلى أجیال لاحقة، وعلى هذا الأساس تصبح الکائنات الحیة بما فیها الإنسان شبیهة بآلات لتولید الجینات ومسؤولة عن نقلها إلى أجیال لاحقة.

ویدعی هؤلاء بأن الکائنات الحیة مبرمجة على الحفاظ على النسل ونقل الجینات إلى أجیال لاحقة ولهذا تسلک سلوکا یلائم هذا البرنامج. ونورد مثالا على طریقة تفکیر هؤلاء وتفسیرهم لسلوک الحیوانات من خلال الاطّلاع على نصّ مأخوذ من کتاب فی علم الأحیاء یتبنى هذه النظریة و عنوانه: Essentails of Biology أو مبادئ علم الأحیاء والنص کما یلی:کیف یمکن تفسیر السّلوک الذی یقود صاحبه إلى الخطر من أجل إنقاذ غیره؟ بعض السّلوکیات المستندة إلى التضحیة مصدرها الجینات الأنانیة، والاحتمال الأکبر أن تکون الکائنات الحیة وهی تعرّض نفسها للخطر فی سبیل جلب الغذاء اللاّزم لصغارها تسلک هذا السلوک وفق برنامج جینی محدّد, وسلوکها هذا یهدف إلى سلامة انتقال الجینات من الأبوین إلى الأبناء ومنهم إلى أجیال لاحقة، ویبدوا ردّ الفعل هذا من الکائنات الحیة تجاه أعداءها نوعا من السلوک لتحقیق هدف معین, ویتجلى هذا البرنامج المعین للسلوک الحیوانی فی الرّائحة والصوت والمظهر الخارجی و أشکال أخرى (22).

ولو تأملنا فی النص السّابق لاتّضح لنا أن الکاتب یقصد بأن الکائنات الحیة فی سلوکها تبدو وکأنها تسعى إلى شیء معین لا عن درایة وفهم بل لأنها مبرمجة على أن تسلک مثل هذا السلوک، وهنا یطرح السؤال التالی نفسه: ما مصدر هذا البرنامج؟ والجین الذی نتحدث عنه هو شبیه بمجموعة من الشّفرات المعلوماتیة، ولکن هذه المجموعة من الشفرات لا تستطیع التفکیر، والجین یفتقد الذکاء والعقل والتقدیر. لهذا السبب إذا وجد جین خاص یدفع الکائن الحی إلى التضحیة فلا یمکن أن یکون هذا الجین هو الآمر بالتضحیة. لقد صمّم الحاسوب من قبل مصمم عاقل وذو درایة على أن یتوقف عن العمل عند الضغط على زر الإیقاف, إذن فالحاسوب لا یغلق من تلقاء نفسه و زر الإیقاف لا یعمل بالصدفة دون مصمّم. إنّ حدا قد برمج هذا الزر على أن یوقف الجهاز عن العمل عند الضغط علیه .

إذن فجینات الکائن الحی مبرمجة على دفع هذا الکائن الحی نحو التضحیة بنفسه, وهناک قوة ذات عقل ودرایة صممت وبرمجت هذه الجینات بهذه الصّورة، وهذه القوة تلهم الکائنات کل لحظة وتراقبها و تهدیها إلى اتّباع سلوک معین, وهذه القوة هی الله جلت قدرته، وهذه الحقیقة یذکرها القرآن کما یلی :" ولله یسجد ما فی السماوات وما فی الأرض من دابة والملائکة وهم لا یستکبرون# یخافون ربهم من فوقهم ویفعلون ما یؤمرون" الآیة 49 .سورة النحل .

" الله الذی خلق سبع سماوات و من الأرض مثلهن یتنزل الأمر بینهن لتعتموا أن الله على کل شیء قدیر و أن الله قد أحاط بکل شیء علما " الآیة 12 سورة الطلاق .

الکائنات الحیة لا تبدی تعاونا نحو أقربائها من حملة جیناتها فقط بل نحو الکائنات الحیة الأخرى أیضا کما سنرى أمثلة مفصلة عدیدة فی الباب الثالث من هذا الکتاب, فإن الکائنات الحیة لا تساعد صغارها فقط بل تمد ید العون نحو الکائنات الحیة الأخرى، وهذه الظاهرة شکلت مشکلة عسیرة الحل بالنسبة إلى نظریة التطور لأن هذه الظاهرة لا توحی برغبة فی الحفاظ على انتقال الجینات من نسل إلى آخر. وتحلل مجلةCientific American التی تتبنى هذه النظریة ظاهرة التعاون بین الحیوانات کما یلی: هناک مثال حی لتعاون حیوانین غیر قریبین من بعضهماالبعض جینیّا وهو تعاون ذکری حیوان البابون، فإذا حدث تنافس أو صراع بین ذکرین من هذا الحیوان یطلب أحدهما مساعدة من ثالث, ویبدأ الذی طلب المساعدة بهز رأسه إلى الأمام والخلف أی بین الذی جاء لنجدته وبین خصمه، ویفسر البعض هذا السلوک بأن الذی طلب المساعدة یعد الذی قدم لنجدته بالمساعدة مستقبلا إذا حدث و أن تعرض لأی مکروه. إلا أن نظریة التطور تعجز عن تفسیر کیفیة منع الخدیعة فی الصراع بین الذکور وتعجز أیضا عن تفسیر طلب الذکر للمساعدة مرة أخرى و الداّفع الذی یجعله یسلک مثل هذا السلوک, والحقیقة الحقیقة التی لا لبس فیها تتمثل فی أن الله سبحانه وتعالى یلهم المخلوقات ویدفعهاإلى أن تضحی بنفسها وهی تسلک هذا السلوک.

و سنذکر فی الصفحات القادمة أمثلة على التضحیة والرأفة والشفقة التی تبدیها الکائنات الحیة المختلفة، ویجب أن لا ینسى القارئ أن الّذی ألهم هذه الکائنات الحیة هذه التضحیة والرأفة والشفقة هو الله الذی خلقها فتبارک الله أحسن الخالقین .

والنتیجة: أنّ کل الکائنات الحیة تتحرک بواسطة إلهام إلهی.

والنتیجة: أنّ کل الکائنات الحیة تتحرک بواسطة إلهام إلهی.

کما ذکرنا فی الصفحات السابقة واجه دعاة نظریة التطور إشکالیات کبیرة تتعلق بتفسیر سلوک الحیوانات فی حین أنّ الحقیقة واضحة جلیة وهی عدم استطاعة الکائن الحی غیر العاقل أن یقوم بتمییز الفروق الواضحة أو أن یقوم بالربط بین الوقائع أو اتخاذ قرار صحیح, فضلا عن عدم قدرته على التخطیط لعدة مراحل مقبلة إلى جانب أشیاء أخرى تتطلب عقلا وتفکیرا و إدراکا. ویقول دعاة التطور إنّ هذه الکائنات الحیة مبرمجة على أداء هذه الأعمال، إذن من هو الذی وضع هذا البرنامج ؟ و ما هی القوة التی تجعل نحل العسل یفرز الشمع الخاص لبناء الخلیة ؟ والجواب واضح ودقیق، والإنسان الذی لدیه علم بطریقة معیشة الأحیاء ولوعلم بسیط یستطیع أن یتوصل إلى عدم إمکانیة تولد هذه الأنماط السلوکیة من تلقاء نفسها أو محض الصدفة بل الواضح أن هناک قوة تحکم هذه الطبیعة وتدیرها ولها تأثیر مباشر على سلوک الکائنات الحیة. وصاحب هذه القوة بلا شک هو الله الخلاق العلیم. و نظریة تعجز أن تفسر کیفیة خلق الکائن الحی لابد لها أن تقف عاجزة أمام تفسیر سلوک ذلک الکائن الحی ومصدره. لذا فإجراء الأبحاث حول سلوک الکائنات الحیة له أهمیة قصوى بلا شک لأن هذه الأبحاث تثبت أنه لا یوجد کائن حیّ یعیش جزافا أو دون ضابط، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذی یقوم بخلق الکائن الحی من العدم ویدبر أموره ویراقبه فی کل حین وینظم له سلوکه بقدرته, ربّ السماوات والأرض وما بینهما، وهذه الحقیقة وردت فی القرآن الحکیم . یقول الله تعالى فی کتابه الکریم:" إنی توکلت على الله ربی وربکم ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصیتها إنّ ربی على صراط مستقیم ". سورة هود الآیة 56.

روح التضحیة لدى الکائنات الحیة تفنّد ادعاء داروین بأن البقاء للأقوى

مثلما أسلفنا القول فی الصفحات السابقة فإن الأمر حسب ادعاء داروین یعتمد على قانون الانتخاب الطبیعی, أی أنّ الکائنات الحیة التی تستطیع أن تتکیف مع شروط الوسط الذی تعیش فیه تستطیع مواصلة حیاتها والحفاظ على نسلها, و أمّا الکائنات الضعیفة التی لا تستطیع التکیف مع تلک الشروط فهی معرضة للهلاک والفناء، و بناء على هذا یکون التعریف المنطقی للطبیعة وفقا لقانون الانتخاب الطبیعی لـداروین هو المکان الذی تقوم فیه الکائنات الحیة بکفاح مریر فیما بینها من أجل البقاء فیبقى القوی و یفنى الضعیف.

واستنادا إلى هذا التعریف ینبغی على کل کائن حی أن یکون قویا ومتمیزا بالقوة عن الآخرین فی سبیل الکفاح والبقاء. و فی وسط مثل هذا لا یمکن الحدیث عن بعض المیزات مثل الإیثار والتضحیة والتکافل, فهذه المیزات قد تصبح ذات آثار سلبیة على الکائن الحی نفسه. ویتمیز الکائن الحی وفقا لهذا المنطق بمنتهى الأنانیة ولا همّ له سوى البحث عن الغذاء وإنشاء البیت الذی یؤویه وأن یحمی نفسه من خطر الأعداء.

و لکن هل صحیح أن الطبیعة هی المکان الذی یضمّ کائنات حیة تخوض فما بینها صراعا مریرا للقضاء على بعضها البعض بمنتهى الوحشیة والأنانیة ؟. إن الأبحاث الجاریة بهذا الشأن حتى یومنا هذا قد أبطلت ادّعاءات دعاة التطور. فالطبیعة لیست کما زعم هؤلاء من أنها تمثل ساحة للحرب بین الأحیاء، إنّ الطبیعة على خلاف ذلک تحوی بین جیناتها أمثلة حیة للتضحیة بالنفس فی سبیل الآخرین. وهناک أمثلة لا یمکن حصرها تکشف صورا غایة فی التضحیة من أجل الغیر تملأ أرکان الطبیعة ویذکر جمال یلدرم فی کتابه "التطرف وقانون التطور ".

إن الأسباب التی جعلت داروین وغیره من رجالات العلم فی عصره یصورون الطبیعة على أنها تمثل مسرحا للحرب بین الأحیاء یمکن إجمالها فی النقاط التالیة: کان رجال العلم فی القرن التاسع عشر یقبعون فی مختبراتهم أو أماکن عملهم لمدة طویلة ولا یدرسون الطبیعة میدانیا و لهذا ذهب خیالهم ببساطة إلى الاستسلام لفکرة کون الکائنات الحیة فی حالة حرب صامتة فیما بینها، وعالم فذ مثل هالی Haley لم یستطع إنقاذ نفسه من براثن هذا الوهم (16).

أما العالم بتر کروبوتکین Peter Kropotkin الذی یؤمن أیضا بنظریة التطور فیذکر فی کتابه Mutual Aid:A Factor in Evolution أو " الهدف المشترک : العامل المؤثر فی التطور " الخطأ الذی وقع فیه داروین و مؤیدوه قائلا : داروین و مؤیدوه عرّفوا الطبیعة على أنها مکان تخوض فیه الکائنات الحیة حروبا مستمرة بین بعضها البعض. و یصور هاکسلی Haxley عالم الحیوان باعتباره حلبة مصارعة تقوم فیه الحیوانات بصراع مریر فیما بینها و تکون الغلبة من بینها للذکی والسریع وهو الذی یستطیع العیش لیبدأ فی الیوم التالی صراعا جدیدا وهکذا. و یتبین لنا منذ الوهلة الأولى أن وجهة نظر هکسلی بشأن الطبیعة لیست علمیة ….(17).

وهذا الوضع یعتبر شاهدا على عدم استناد نظریة التطور إلى ملاحظات علمیة، ویغلب على العلماء من دعاة هذه النظریة التزمت الفکری فی دعمهم للنظریة التی یؤمنون بها من خلال تحلیل بعض الظواهر الموجودة فی الطبیعة وفقا لهواهم. والحقیقة أن الحرب التی یدعی داروین أنّها تنتشر فی أرجاء الطبیعة تبین أنها خطأ کبیر لأننا لا نجد فی الطبیعة الأحیاء التی تکافح من أجل البقاء فقط بل نجد أیضا کائنات حیة تبذل تعاونا ملحوظا نحو الکائنات الحیة الأخرى, والأعجب من هذا أنها تؤثرها أحیانا على نفسها. ولهذا السبب یعجز دعاة التطور عن تفسیر ظواهر الإیثار لدى بعض الکائنات الحیة. و ورد فی مقال صادرة فی إحدى المجلات العلمیة النص التالی الذی یصور عجز هؤلاء: " المشکلة تکمن فی السبب الذی من أجله تتعاون الکائنات الحیة، وبالنسبة إلى نظریة داروین فهی تقول إنه ینبغی على کل کائن حی أن یکافح من أجل البقاء والتکاثر، ومعاونة باقی الکائنات الحیة یقلل من فرص نجاح ذلک الکائن الحی فی البقاء وعلى هذا الأساس ینبغی أن یزال هذا النمط السلوکی عبر التطور، ولکن الملاحظ أن الإیثار لا یزال موجودا فی سلوک الکائنات الحیة (18).

وأبسط مثال على الإیثار هو سلوک عاملات النحل فإنها تقوم بلسع أی حیوان یدخل إلى خلیتها وهی تعلم یقینا أنها ستموت، فإبرتها اللاسعة تبقى مغروزة فی الجسم الذی تلسعه و نظرا لارتباط هذه الإبرة الوثیق بالأعضاء الداخلیة للحشرة فإنها تسحب معها هذه الأعضاء خارجا متسببة فی موت النحلة. ویتضح من ذلک أنّ النحلة العاملة تضحی بحیاتها من أجل سلامة باقی أفراد الخلیة .

أمّا ذکر البطریق و أنثاه فیقومان بحراسة عشهما حتى الموت، فالذکر یسهر على رعایة الفرخ الجدید بین ساقیه طیلة أربعة أشهر متصلة دون انقطاع، ولا یستطیع طیلة هذه الفترة أن یتناول شیئا من الغذاء أماّ الأنثى فتذهب إلى البحر لتجلب الغذاء و هی تجمعه فی بلعومها وتأتی به إلى فرخها ویبدیان تفانیا ملحوظا من أجل فرخهما .

و یعرف عن التمساح کنه من الحیوانات المتوحشة إلا أنّ الرعایة التی یولیها لأبنائه تثیر الحیرة الشدیدة, فعندما تخرج التماسیح الصغیرة بعد فقس البیض تقوم الأم بجمعها فی فمها حتى تصل بها إلى الماء ثم تعکف على رعایتها وتحملها فی فمها أو على ظهرها حتى تکبر و یشتد عودها و تصبح قادرة على مواجهة المصاعب بنفسها، وعندما تشعر التماسیح الصغیرة بأی خطر سرعان ما تلوذ بالفرار ملتجئة إلى فم أمّها و هو الملجأ الأمین بالنسبة ألیها. إن هذا السلوک یثیر الاستغراب خاصة إذا علمنا أن التماسیح حیوانات متوحشة والمنتظر منها أن تأکل أبناءها و تلتهمهم لا أن ترعاهم و تحمیهم..

وهناک بعض الأمهات من الحیوانات تترک القطیع الذی تعیش فیه لترضع أولادها, فتتخلف الأم مع ولدها و تضل ترضعه حتى یشبع عن معرّضة حیاتها لخطر جسیم. والمعروف عن الحیوانات أنها تهتم بأولادها الذین ولدوا حدیثا أو الذین خرجوا من البیض لمدد طویلة تصل إلى أیام أو أشهر أوحتّى بضع سنین فتوفر هذه الحیوانات لصغارها الغذاء والمسکن والدفء و تقوم بالدفاع عنهم من خطر الأعداء المفترسین. وأغلب أنواع الطیور یقوم بتغذیة صغاره من 4-20 مرة فی الساعة خلال الیوم الواحد, أماّ إناث اللبان فأمرها مختلف إذ یتحتم علیها أن تتغذى جیدا عندما ترضع صغارها حتى توفر لهم اللبن الکافی, وطیلة هذه الفترة یزداد الرضیع وزنا بینما تفقد الأم من وزنها بشکل ملحوظ.

أما الطبیعی و المتوقع فی هذه الحالات فهو أن تهمل هذه الحیوانات غیر العاقلة صغارها و تترکها و شأنها لأن هذه الحیوانات غیر العاقلة لا تفهم معنى الأمومة أو العطف و لکنها بالعکس من ذلک تتحمل مسؤولیة رعایتها و الدفاع عنها بشکل عجیب.

و لا تقوم الأحیاء باتخاذ مثل هذا السلوک مع صغارها فقط وإنما قد تبدی العطف نفسه والحنان نفسه إزاء الحیوانات الأخرى أو الأفراد الأخرى التی تعیش معها فی المجموعات نفسها، و یمکن ملاحظة ذلک عندما تشح مصادر الغذاء, فالمتوقع فی مثل هذه الحالات العصیبة أن ینطلق القوی منها لیبید الضعیف ویستحوذ على ما یوجد من الغذاء، غیر أنّ الذی یحدث هو عکس ما یتوقعه دعاة التطور. و یورد کروبوتکین و هو معروف بتأییده لهذه النظریة أمثلة عدیدة تتعلق بهذا الموضوع منها مثلا: یبدأ النمل بتناول ما ادخره عندما تشحّ مصادر الغذاء بینما تبدأ الطیور بالهجرة بشکل جماعی إلى مکان آخر, کما تتوجه القنادس الشابة إلى الشمال والکبیرة فی السن إلى جنوب الأنهار حیث تعیش هناک مزدحمة (19).

والذی یفهم من هذه الأمثلة أنه لا وجود لمنافسة أو مزاحمة بین الحیوانات من أجل الغذاء بل بالعکس یمکن مشاهدة أمثلة عدیدة للتعاون والتضحیة بین الحیوانات حتى فی أقسى الظروف. و هی تعمل فی أحیان کثیرة على التخفیف من وطأة الظروف و قسوتها. و مع هذا فهناک مسألة یجب أخذها بعین الإعتبار وهی أن أیّا من هذه الحیوانات لا تملک عقلا أو فکرا یجعلها تتخذ هذه القرارات وتنشئ هذا النظام. إذن فکیف یمکن تفسیر تجمع هذه الحیوانات فی مجموعات ذات هدف واحد وتعمل مجتمعة لتحقیق هذا الهدف المشترک؟.

بلا شک إن الذی خلق هذه الأحیاء وألهمها اتباع ما ینفعها والذی یحافظ علیها هو الله رب العالمین جلّت قرته . و یقول الله سبحانه وتعالى فی کتابه المبین عن کیفیة رعایته الإلهیة للکائنات "و ما من دابة فی الأرض إلاّ على الله رزقها و یعلم مستقرها و مستودعها کلّ فی کتاب مبین ". سورة هود الآیة 6

أمام هذه الحقائق فی الطبیعة تسقط ادعاءات دعاة التطور عن کون الطبیعة مسرحا للحرب لا ینتصر فیها إلا من کان أنانیا و من لا یرى سوى مصالحه فقط ویوجهJohn Maynard Smith أحد دعاة التطور المشهورین سؤالا لأقرانه فی الفکر یتعلق بهذا النوع من السلوک لدى الحیوانات: إذا کان الانتخاب الطبیعی یعنی اختیار الصفات الصالحة للکائن الحی والتی تضمن له بقاءه وتکاثره فکیف یمکن لنا أن نفسر صفة التضحیة لدى بعض الحیوانات ؟ (20)

3-سقوط فکرة تطور الغرائز بتطور الأحیاء

3-سقوط فکرة تطور الغرائز بتطور الأحیاء

تدعی نظریة التطور بأن الکائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور. ووفقا لهذه النظریة تکون الزواحف قد نشأت من الأسماک والطیور من الزواحف... ولکن یجب أن لا ننسى أن النوع الواحد یختلف تماما من حیث السلوک حیث تختلف السمکة عن الزواحف من حیث السلوک اختلافا کلیا. ویدور السؤال التالی: هل تعرض سلوک الکائن الحی إلى تطور کما تعرض بناؤه الحیوی البیولوجی الى تطور؟

وهذا التساؤل یعتبر أحد التناقضات والمآزق الفکریة التی وقع فیها دعاة نظریة التطور وقد وضع داروین إصبعه على هذا التناقض وتوصل الى استحالة اکتساب الغرائز بالانتخاب الطبیعی وتغیرها بالتطور حیث تساءل قائلا: هل من الممکن اکتساب الغرائز بالانتخاب الطبیعی وتطویرها وتغییرها فیما بعد ؟ ماذا یمکننا القول أمام بناء نحل العسل لخلیته بهذا الشکل الهندسی الذی سبق أخصّائیّی الریاضیات بزمن سحیق ماذا یمکننا القول أمام هذه الغریزة (14). وهذا التناقض یمکن إیراد الأمثلة المختلفة علیه من کافة أنواع الحیوانات کالأسماک والزواحف والطیور. فالأسماک لها صفات خاصة بها من حیث التکاثر والصید والدفاع عن النفس فضلا عن إنشاء منازلها بطریقتها الخاصة، وهذه الصفات الخاصة فی حالة تلائم تماما الوسط المائی الذی تعیش فیه. وهناک بعض الأنواع من الأسماک تقوم بلصق بیضها تحت الأحجار الموجودة فی قاع البحر وبعد لصقها لبیضها تقوم برفرفة زعانفها فوقها لتتیح أکبر کمیة من الأکسیجین اللازمة لتنفس الأجنة الموجودة داخل البیض.أمّا الطیور فتضع بیضها فی أعشاش ذات بناء خاص تبنیها لهذا الغرض وترقد على بیضها مدة زمنیة محددة لازمة لفقس البیض .

أما التماسیح والتی تعتبر حیوانات بریة فتملک سلوکا معاکسا تماما فتقوم بدفن بیضها تحت الرمال مدة شهرین کاملین لازمة لفقسها، وهناک بعض الأسماک تقوم بوضع بیضها داخل الأحجار الموجودة فی قاع البحر ومن جانب آخر هناک بعض الحیوانات البریة تقوم ببناء مساکنها على أطراف الأشجار العلیا باستخدام الأغصان وقشور الأشجار، أما الطیور فتنشأ أعشاشها باستخدام الأعشاب والنباتات البریة أما اللبان التی یدعون أنها نشأت من الزواحف فتختلف من حیث التکاثر اختلافا کلیّا عن باقی الکائنات الحیة . فبینما تکون باقی الحیوانات تتکاثر بالبیض تتکاثر اللبان بأن تحمل أجنتها داخل بطونها أشهرا عدیدة وبعد أن تضع جنینها تقوم بتغذیته باللبن الذی یفرزه جسمها.

وهناک أسلوب للصید مختلف لکلّ نوع من أنواع الأحیاء, فبینما یبقى بعضها کامنا للصید فترة طویلة یکون البعض منها متخفیا بلون المکان الموجود فیه والبعض الآخر یعتمد على السرعة والمباغتة. وکما یتضح هناک اختلاف کبیر وشاسع بین الحیوانات البریة والحیوانات المائیة وکلّ نوع یتمیز باختلاف واضح حسب الوسط الذی یعیش فیه.

من هذا العرض نستنتج أن التغییر فی الغرائز ینبغی أن یکون مصاحبا للتطور الحاصل فی الأحیاء. على سبیل المثال أن تصبح السمکة التی تضع بیضها تحت أحجار قاع البحر وترفرف بزعانفها رعایة لها حیوانا بریّا تقوده غریزته المتطورة إلى بناء أعشاش خاصة على أطراف الأشجار و یرقد على البیض مدة معینة لأجل تفقیسها. وهذا الأمر محال طبعا، والاستحالة الأخرى فی هذا الموضوع یمکن توضیحها بفرض عدم استطاعة الکائن الحی العیش نتیجة عدم ملاءمة سلوکه غیر المتطور لبنیته المتطورة نتیجة تغیر الوسط الذی یعیش فیه حیث لا تستطیع السمکة التی تتقن التّخفی فی البحر العیش إلا بعد إیجادها وسیلة جدیدة للدفاع, بالإضافة إلى ضیق الوقت لتحقیق ذلک لأنه یجب أن تقوم بتغییر سلوکها وطریقة حیاتها وبناء جسمها بصورة مستمرة وإلاّ فإنها معرضة للهلاک وانقراض نسلها.

ومن الواضح أنه لا یوجد حیوان غیر عاقل یمتلک القابلیة لاتخاذ مثل هذا القرار السریع والإستراتیجی الّذی یتطلب قوى عقلیة . إذا فکیف یتم تفسیر سلوک الحیوانات الملائم لبناء أجسامها وشروط الوسط الذی تعیش فیه ؟ وأدلى داروین بدلوه فی هذا الخصوص فی معرض رده على النـقد الموجه لکتابه "أصل الأنواع " قائلا : کان هناک اعتراض على فکرة أصل الأنواع مفاده أنه ینبغی أن یکون التغییر الحاصل فی بناء الکائن الحی متزامنا مع التغییر فی غرائزه فضلا عن کونهما متلائمین مع بعضهما لأن أی تباین یحدث بینهما یعنی الموت المحتم "(15).

یتضح مما تقدم أنه لا یمکن تفسیر سلوک الحیوان بواسطة التطور عبر الزمن أو بالصدفة أو بتأثیر الطبیعة الأم. إذن فکیف اکتسبت الکائنات الحیة تلک الصفات والخصائص التی تتیح لها مواصلة حیاتها؟ والجواب على السؤال فی غایة الدقة والوضوح . فالإنسان المطلع على طریقة معیشة الأحیاء یستطیع أن یرى استحالة تشکل هذه الأنماط السلوکیة من تلقاء ذاتها أو بواسطة سلسلة من المصادفات. ومصدر هذه الأنماط السلوکیة لا یوجد فی أجسامها ولا فی المحیط الذی تعیش فیه. إذن فهناک عقل وقوة لا یمکن رؤیتهما بالعین المجردة یقومان بإدارة سلوک هذه الکائنات الحیة. ولا شک أن صاحب هذا العقل وهذه القوة هو الله سبحانه وتعالى والذی وسعت رحمته کل شیء.

الغرائز لا یمکن أن تتطور

الغرائز لا یمکن أن تتطور

إنّ دعاة نظریة التطور یجادلون بکون أغلب سلوک الحیوانات نتیجة للغریزة، ولکن کما أسلفنا القول فی الصفحات السابقة لا یستطیعون إیراد تفسیر مقبول عن کیفیة نشوء الغرائز و لا عن کیفیة ظهور الغریزة لأول مرة و لا عن کیفیة اکتساب الحیوانات لهذه الغرائز، ولو حوصر أحدهم بالأسئلة لتعلق بالإدعاء التالی: "تکتسب الحیوانات أنماطا سلوکیة عن طریق التجربة ویتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبیعی. وفی مرحلة لاحقة یتم توارث هذه الأنماط السلوکیة الناجحة عبر الأجیال المتعاقبة".

وهناک أخطاء منطقیة ولا یمکن أن یقبلها العقل فی هذا الإدعاء، ودعونانتفحص هذه الأخطاء بالتسلسل:

1-الأخطاء الکامنة فی المقولة : اختیار السلوکیات المفیدة عبر الانتخاب الطبیعی:

إنّ الانتخاب الطبیعی یعتبر الحجر الأساس لنظریة "تشارلس دروین" الخاصة بـالتطور. والانتخاب الطبیعی یعنی اختیار أی تغییر مفید وصالح للکائن الحی (قد یکون هذا التغییر هیکلیا أو سلوکیا ) واختیار ذلک الکائن الحی لتوریث ذلک التغییر للأجیال اللاحقة .

وهناک نقطة مهمة فی هذا الإدعاء یجب أن لا نغفل عنها وهی: کون الطبیعة حسب ادعاء داروین تعتبر المحک لتمییز المفید من الضار وهی القوة المؤثرة والعاقلة فی الوجود ولکن لا یوجد فی الطبیعة ما یمیز بین الضار والمفید کقوة مؤثرة حیث لا یوجد بین الحیوانات أو غیر الحیوانات ما یملک قرار ذلک أو القابلیة على اتخاذ هذا القرار، فقط من خلق الطبیعة وما تحتویه وخلق کل شیء یملک العقل والمنطق والقدرة على تمییز الضار من المفید.

فی الحقیقة داروین یعترف بنفسه باستحالة اکتساب السلوکیات المفیدة عن طریق الانتخاب الطبیعی إلا أنه یعود و یدافع عن وجهة نظره التی هی محض خیال واستمر فی الدفاع عن رأیه بالرغم من کونها هرطقة وغیر منطقیة حیث یقول: فی النهایة یمکن اعتبار الغرائز التی تجعل زغلول الحمام یطرد إخوانه غیر الأشقّاء من العش، وتجعل مملکة النحل مقسمة إلى خدم وملکة لیست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصیل حیة وصغیرة لدستور عام لعالم الأحیاء وهذه التفاصیل الصغیرة تتولى مهمة التکثیر و التغییر عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولکن هذا الاعتبار لا یبدو لی منطقیا ولکنه قریب إلى الأفکار التی تدور فی مخیلتی (8).

ویعترف داعیة آخر لنظریة التطور وهذه المرة فی ترکیا وهو البروفیسور جمال یلدرم بأن عاطفة الأمومة لدى الأم لا یمکن تفسیرها بواسطة الانتخاب الطبیعی ویقول بهذا الصدد :

"هل توجد إمکانیة لتفسیر عاطفة الأمومة تجاه الأبناء بواسطة نظام أعمى یفتقد إلى مشاعر روحیة مثل نظام الانتخاب الطبیعی ؟ وبلا شک فشل علماء الأحیاء ومنهم مؤیدو داروین فی إیراد جواب مقنع لهذا السؤال. وهنالک صفات معنویة لدى الکائنات الحیة غیر عاقلة و بما أنها لا تستطیع أن تکتسب هذه الصفات بإرادتها فإذن یجب أن یکون هناک من منحها هذه الصفات، وحیث أن الطبیعة و قانون الانتخاب الطبیعی عاجزان عن إکساب الأحیاء هذه الطبیعة المعنویة بسبب کونهما یفتقدان للصفات المعنویة، والحقیقة الساطعة کالشمس تتمثل وجود کافة الأحیاء تحت العنایة الإلهیة و تدبیره المحکم، ولهذه الأسباب المتقدمة نستطیع أن نشاهد فی الطبیعة أنماطا سلوکیة لبعض الحیوانات تثیر الحیرة والاستغراب وتجعلنا نتساءل: کیف تسنى لهذا الحیوان الاهتداء إلى هذا السلوک ؟ وکیف یستطیع هذا الحیوان أو ذلک التفکیر بهذه الطریقة؟

2-الأخطاء الخاصة بتوارث السلوکیات المفیدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبیعی:

الخطوة الثانیة لمؤیدی داروین هی ادعاؤهم بأن السلوکیات المفیدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبیعی یتم توارثها عبر الأجیال وهذا الإدعاء ضعیف وهش للغایة من مختلف الوجوه. قبل کلّ شیء فإن أی سلوک جدید یکتسبه الحیوان عن طریق التجربة لا یمکن توریثه لجیل لاحق بأی حال من الأحوال لأن التجربة المکتسبة تخص ذاک الجیل وحده ولا یمکن إدخال هذه التجربة السلوکیة الجدیدة المکتسبة فی البناء الجینی للحیوان إطلاقا .

ویقول Gordon R.Taylor مبدیا رأیه المناهض لرأی أولئک الذین یدعون توارث الأنماط السلوکیة عبر الأجیال المتعاقبة بما یلی :" یدعی علماء الأحیاء بأن هناک إمکانیة لتوارث الأنماط السلوکیة عبر الأجیال المتعاقبة ویمکن مشاهدة هذه الظاهرة فی الطبیعة مثلا العالم :Dobzhansky یدعی بأن جمیع وظائف جسم الکائن الحی ما هی إلاّ نتاج التوارث النّاتج بتأثیر العناصر والعوامل المتوفرة فی المحیط الخارجی، وفی هذه الحالة یکون الأمر مقبولا بصورته النهائیة بالنسبة لجمیع أنواع الأنماط السلوکیة، ولکن هذا غیر صحیح بالمرة ویعتبر أمرا محزنا أن یکون هذا رأی عالم له مکانته مثل Dobzhansky . ویمکن القول أن هنالک بعض الأنماط السلوکیة لبعض الأحیاء یتم توارثها عبر الأجیال اللاحقة ولکن لا یمکن تعمیم الأمر على جمیع الأنماط السلوکیة" .

والحقیقة الظاهرة للعیان عدم وجود أی دلیل علمی یمکن بواسطته إثبات توارث بعض الأنماط السلوکیة بواسطة الخریطة الجینیة للکائن الحی والمعروف أن الجینات مسؤولة فقط عن بناء البروتینات حیث یتمّ بناؤها أکثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السیطرة على سلوک الکائن الحی (بصورة عامة) وعلى سبیل المثال أن یکون الحیوان نشیطا أو بالعکس خاملا أو أن یکون الولید أکثر ارتباطه بأمه، ولکن لا یوجد أی دلیل یثبت توارث السلوک الخاص الذی یجعل الحیوان یبنی عشه بالترتیب والتزامن والانتظام المعروف0

ولو کان الأمر کذلک فإذن ما هی الوحدات الوراثیة المسؤولة عن عملیة التوریث ؟ لأن هناک فرضیات تثبت وجودها، ولم یستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال (10).

وکما أفاد به Gordon R.Taylor فإن الادعاء بکون الأنماط قابلة للتوارث أمر غیر مقبول علمیا، فبناء الطیور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع یقتضی وجود نوع من الأنماط السلوکیة المعقدة کالتصمیم والتخطیط للمستقبل و هذه لا یمکن توارثها عبر الأجیال وهناک مثل آخر یفرض نفسه بشدة وهو المتعلق بسلوک العاملات القاصرات فی مملکة النمل .

فهذه العاملات لها سلوک خاص تتمیز به یقتضی منها أن تکون على درایة تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، ولکن هذه الأنماط السلوکیة لعاملات النمل لا یمکن أن تکتسب بالتوارث لسبب وحید کونها قاصرات ولا یمکن لها التکاثر لذا فلا تستطیع توریث هذه الأنماط السلوکیة لأجیال لاحقة، ومادام الأمر کذلک ینبغی توجیه السؤال الآتی لدعاة نظریة التطور : کیف تسنى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السلوکیة لأجیال لاحقة من العاملات القاصرات وهی بالتأکید لا تستطیع التکاثر ؟ وما تزال هذه العاملات سواء کانت نملا أو نحلا أو أی حیوان آخر تعمل منذ ملایین السنین بهذا السلوک الذی یعکس مدى العقلانیة والقابلیة والتکافل و الانتظام وتوزیع الأدوار بدقة إضافة إلى روح التضحیة إلا أن هذه المخلوقات لم تستطع البتة أن تورث هذه الأنماط السلوکیة منذ خلقت لأول مرة .

ولا یمکننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهدا فی اکتساب هذه الأنماط السلوکیة لأنها تبدأ فی اتباع هذا السلوک منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأکمل صورة. ولا تصادف فی أی طور من أطوار حیاتها أیة مرحلة للتعلیم و جمیع سلوکها مکتسب بالفطرة, وهذا الأمر جائز مع جمیع الکائنات الحیة. إذن فمن الذی علم الکائنات الحیة تلک الأنماط السلوکیة ؟ وهو السؤال نفسه الذی طرحه داروین قبل 150سنة ولم یستطع دعاة نظریة التطور الإجابة عنه، و هناک تناقض عبر عنه داروین نفسه قائلا :

"إنه لخطأ کبیر أن نتحدث عن فرضیة اکتساب الأنماط السلوکیة الغریزیة بالتطبع وتوریثها إلى أجیال لاحقة، لأننا کما نعلم هناک غرائز محیرة للغایة کتلک التی عند النمل أو النحل ولا یمکن البتة اکتسابها بالتطبع" (11).

فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أیة حشرة أخرى قد اکتسبت جمیع صفاتها المتمیزة عبر الانتخاب الطبیعی وبالتدرج, أی افترضنا أنها عملیة انتخاب للصفات الصالحة ثم یتمّ توریثها بعد ذلک إلى أجیال لاحقة وبصورة متعاقبة وفی کل مرة یتم انتخاب صفات مفیدة وتورث إلى جیل لاحق وهکذا, لو افترضنا ذلک لأصبحت فرضیتنا مستحیلة لسبب وحید و هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبویها إلى حد کبیر إضافة إلى کونها عقیمة, و لهذا فهی لا تستطیع توریث الصفات والأنماط السلوکیة الجدیدة المکتسبة إلى الأجیال اللاحقة. وهنا یطرح السؤال نفسه: کیف یمکن تفسیر هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبیعی (1).

ویعبر جمال یلدرم أحد المؤمنین بنظریة التطور عن التناقض الذی وقع فیه المتبنّون لهذه النظریة: ولنأخذ على سبیل المثال الحشرات التی تعیش على شکل مجتمعات مثل النمل أو النحل, فهذه الحشرات عقیمة ولیست لدیها أیة إمکانیة لتوریث أیة صفات حیویة جدیدة تنقلها إلى أجیال لاحقة إلا أنها تبدی تکیفا مدهشا مع ظروف المحیط الذی توجد فیه وعلى أعلى المستویات. (13)

ویتضح مما تقدم من اعترافات العلماء و أقوالهم استحالة تفسیر الأنماط السلوکیة المحیرة لهذه الکائنات الحیة بواسطة نظریة التطور لأن هذه الأنماط السلوکیة لم تکتسب عبر الانتخاب الطبیعی ولا یمکن توریثها إلى أجیال لاحقة.

ما الغریزة ؟

ما الغریزة ؟

کلمة الغریزة تستخدم من قبل دعاة نظریة التطور لتفسیر قابلیة الحیوان القیام بسلوک معین منذ الولادة. وکانت هناک تساؤلات عدیدة تدور حول کیفیة اکتساب الحیوانات لهذه الغریزة وعن کیفیة ظهور أول سلوک غریزی لدى الحیوانات وکذلک عن کیفیة انتقال هذه الغریزة کابرا عن کابر. کل هذه التساؤلات باقیة بدون رد أو جواب.

هناک أخصائی فی علم الجینات وأحد دعاة نظریة التطور ویدعى Gordon Taylor rottary

فقد ذکر فی کتابه "The great evolution Myster"أو "سر التطور العظیم " اعترافا بعجز النظریة عن الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغریزة کما یلی :

لو تسائلنا عن کیفیة ظهور أول سلوک غریزی وعن کیفیة توارث هذا السلوک الغریزی لما وجدنا أیة إجابة (4).

"وهناک آخرون على شاکلة "Gordon Taylor" یؤمنون بنظریة التطور لا یودون الاعتراف بهذه الحقیقة وبدلا من ذلک یحاولون التمسک بإجابة غامضة ولا تحمل أیة معانی حقیقیة. وبالنسبة لرأی هؤلاء فإن الغرائز تعتبر جینات موجودة لدى الحیوانات تظهر على شکل أنماط سلوکیة، واستنادا إلى هذا التعریف یقوم نحل العسل ببناء الخلیة على الشکل المنتظم المعروف بوحدات بنائیة هندسیة مسدسة وفق الغریزة الحیوانیة و بمعنى آخر یوجد جین خاص فی أجسام کل أنواع نحل العسل یجعل هذه الأنواع تبنی خلایاها غریزیا وفق الشکل المعروف.

وفی هذه الحالة یطرح الإنسان العاقل المفکر سؤاله المنطقی: لو کانت الکائنات الحیة مبرمجة على أن تسلک هذا السلوک المعین فمن الذی برمج هذا السلوک؟ إذ لا یوجد أی برنامج مبرمج من تلقاء نفسه ولابد من مبرمج .

ودعاة نظریة التطور لم یجدوا إجابة محددة لهذا السؤال واستخدموا أسلوبا آخر للمناورة حیث یؤکدون على اکتساب الکائنات الحیة لهذه الغریزة عن طریق الطبیعة الأم وکما نعلم فإن الطبیعة الأم تتألف من الحجر و التراب و الأشجار والنباتات ..الخ . ومن من هذه العناصر لها القدرة على إکساب الکائنات الحیة هذا السلوک المبرمج؟ أیّ جزء من الطبیعة لدیه القدرة والعقل على فعل ذلک ؟کل ما نراه فی الطبیعة مخلوق و لا یمکن له أن یکون خالقا، ولا یمکن للإنسان العاقل أن یقول وهو یرى لوحة زیتیة جمیلة ما أحلى الأصباغ التی رسمت هذه اللوحة بلا شک یکون هذا الکلام غیر منطقی. إذن فإن ادعاء کون المخلوق خالقا للأشیاء هو بلا شک ادعاء غیر منطقی. وهنا تظهر لنا حقیقة واضحة وهی عدم اکتساب هذه الکائنات الحیة غیر العاقلة لهذه المیزات السلوکیة المنطقیة من تلقاء نفسها, فهذه المیزات مکتسبة بالولادة إذن فإن هناک من خلقها بهذه الکیفیة ویتمیز صاحب هذا الإبداع بالعلم والعقل اللامتناهیین الذین نراهما فی الطبیعة.

و بلا شک فإن صاحب هذا العلم والعقل هو الله سبحانه وتعالى. وذکر الله سبحانه وتعالى فی الذکر الحکیم نحل العسل کمثال على إلهامه الکائنات الحیة لاتباع سلوک معین، أی أن الغریزة التی یرددها دعاة نظریة التطور أو کما یقولون: " إن الحیوانات مبرمجة على آداء سلوک معین" ما هی إلا إلهام إلاهی لهذه الکائنات الحیة, وهذه الحقیقة مذکورة فی القرآن الکریم:" وأوحى ربک إلى النحل أن اتخذی من الجبال بیوتا ومن الشجر ومما یعرشون ثم کلی من کل الثمرات فاسلکی سبل ربک ذللا یخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فیه شفاء للناس إن فی ذلک لأیة لقوم یتفکرون" سورة النحل الآیة 68-69 "

ودعاة نظریة التطور یغمضون أعینهم أمام هذه الحقیقة لإنکار الوجود الإلهی، وهم بالتأکید قد رأوا ومازالوا یرون الأنماط السلوکیة للحیوانات ومازالوا یبحثون عن تفسیر لها ویعلمون یقینا عدم قدرة نظریة التطور على تفسیر هذه السلوکیات تفسیرا منطقیا. وکثیرا ما نجد عبارات وجملا مألوفة عند قراءتنا لمؤلفین من دعاة هذه النظریة ومن هذه العبارات:"..لإنجاز هذا العمل لابد من وجود عقل ذو مستوى عال ولکون الحیوانات لاتملک مثل هذا العقل فإن العلم یعجز عن الإجابة عن هذا السؤال ". ونورد المثال الآتی المتعلق بسلوک دودة القز على لسان أحد دعاة نظریة التطور المعروفین و یدعى Haimar Von Dithfurth هیرمان فون دیثفورت حیث یقول : إن فکرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة کوسیلة للتمویه فکرة باهرة, ترى من یکون صاحب هذه الفکرة؟ من صاحب هذه الفکرة الذکیة التی تقلل من احتمال عثور الطیر على الفریسة التی یبحث عنها؟ ولابد للدودة أن تکون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفکرة الذکیة …کل هذه الظواهر لابد أن تتوفر لدى إنسان ذکی للغایة یحاول أن یظل على قید الحیاة ولابد لنا أن نقبل بهذه الحقیقة، علما أن لدودة القز جهازا عصبیا بسیطا للغایة فضلا عن بدائیة سلوکها الحیاتی, وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابلیّة تحدید هدف معین والتحرک باتجاه هذا الهدف.

ولکن کیف یتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسیلة للدفاع عن نفسها وهی بهذا الضعف من التکوین ؟ .وعندما جابه علماء الطبیعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم یجدوا لها تفسیرا إلاّ بـالمعجزة أی تبنوا فکرة وجود قوة غیر طبیعیة خلاقة أی آمنوا بوجود الله الذی یعطی مخلوقاته آلیات معینة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إلیّ هذه الطریقة فی التفکیر تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث فی الطبیعة ومن جانب آخر یقوم العلم الحدیث بتفسیر هذه الظواهر تفسیرا خالیا من أی معنى عبر التمسک بمفهوم الغریزة، لأنه على عکس ما یعتقده أغلبنا فإن تفسیر السلوک بالغریزة یعنی اکتساب الحیوان لهذه الأنماط السلوکیة بالولادة، وهذا التفسیر لا یقدم ولا یؤخر فی تساؤلنا بل یعیق بحثنا عن إجابة محددة وواضحة، ولا یمکن الحدیث عن السلوک العقلانی لدودة القز التی تفتقد وجود مثل هذا العقل.

ومرة أخرى نعود إلى الحدیث حول السلوک المعین للحیوانات فإن هناک ما یفرض نفسه أمام أعیننا وهو الترتیب العقلانی لهذه الأنماط السلوکیة، ولو لم یکن هذا السلوک المعین مثل تحدید الهدف أو التحسب للمستقبل أو توقع ما یمکن أن یقدم علیه أی حیوان آخر وحساب رد الفعل اللازم إبداءه تجاهه کعلامة على وجود عقل مدبر ومفکر، فإذن ما هو تفسیر هذا السلوک ؟" (5).

هذا الکلام یقوله هذا المتبنی لنظریة التطور وهو یحلل أو یحاول أن یصل إلى تحلیل منطقی لسلوک دودة القز, هذا السلوک العقلانی والمدروس، ولا یمکن أن نجد فی مثل هذه الکتب والإصدارات إلا أسئلة بدون ردود واضحة أو تناقضات فکریة لا تؤدی إلاّ إلى طریق مسدود. حتى صاحب النظریة تشارلس دروین نفسه قد اعترف بهذه الحقیقة فذکر أن سلوک الحیوانات وغرائزها تشکل تهدیدا واضحا لصحّة نظریته وذکر ذلک فی کتابه "أصل الأنواع" عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فیها : "أغلب الغرائز تمتاز بتأثیر بالغ وتثیر درجة کبیرة من الحیرة، وکیفیة نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظریتی کافیة لهدم نظریتی من الأساس" (6).

أما نجل تشالس داروین المدعو فرانسیس داروین فقد قام بتحلیل وشرح رسائل أبیه فی کتاب أسماه "الحیاة ورسائل تشارلس داروین" "the life and letters of darwin" وذکر مدى الصعوبات التی واجهها داروین فی تفسیره للغرائز قائلا :فی الکتاب (یعنی أصل الأنواع ) وفی الباب الثالث منه یتحدث فی القسم الأول عن العادات الحیوانیة والغرائز والاختلاف الحاصل فیها ..والسبب فی إدخال هذا الموضوع فی بدایة الباب تشرید فکر القراء عن إمکانیة رفضهم لفکرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبیعی، ویعتبر باب الغرائز من أصعب المواضیع التی احتواها کتاب "أصل الأنواع" (7).

دودة الإمبراطور التی تعمل وفق مخطط متعدد المراحل

دودة الإمبراطور التی تعمل وفق مخطط متعدد المراحل

من المؤکد أن القندس لیس الحیوان الوحید فی الطبیعة الذی یبدی سلوکا مخططا مدروسا, فهناک العدید من الأمثلة الحیة فی الطبیعة والّتی لا یمکن حصرها, والمثال الآتی یعتبر أصغر بکثیر من القندس ولا ینتظر منه أی دلیل على سلوک عقلی أو ما یؤکد وجود عقل أو ذکاء فی بنیته، وهذا الحیوان یدعى بـدودة القز ویرقة هذه الدودة تقوم بإفراز خیوط الحریر . و کباقی أنواع الیرقات فإن هذه الیرقة تقضی فترة من فترات حیاتها داخل شرنقة وعند خروجها من الشرنقة تقوم بإخفاء نفسها داخل ورقة نباتیة, و عملیة الإختفاء تتم بمنتهى الإحکام وفق مخطط مدروس مسبقا وعبر مراحل تتطلب مهارة فائقة لأن الورقة النباتیة وهی خضراء لا یمکن طیّها بسهولة و بالتالی لا یمکن لها أن تخفی جسم الحیوان الصغیر بسهولة لذا فوجب إیجاد حل لهذه المشکلة.

و هذا الحیوان قد وجد حلا بمنتهى البساطة ولکنه یفی بالغرض إلى أبعد حد حیث یقوم الحیوان بقرض جزء الورقة المتصل بالنبات لقطعها ولمنع سقوطها یقوم بربطها بشکل محکم عبر إفراز خیوط الحریر ثم تبدأ الورقة بالتیبس و تنکمش الورقة الیابسة حول نفسها, وبعد ساعات تأخذ الورقة شکلها النّهائی کأنبوب یصلح أن یکون مخبأ أمینا للحیوان و سرعان ما یلجه متخذا إیاه مسکنا له.

للوهلة الأولى یمکن أن یفکّر المرء بأنّ الحیوان قد خطى هذه الخطوة المنطقیة لتوفیر مخبئ أمین لنفسه وهذا صحیح و لکن بدخول الحیوان داخل الورقة المتیبسة قد یصبح صیدا سهلا للباقین لأنّ اللون المختلف لهذه الورقة یجلب انتباه الطیور وهذا یعنی نهایة الحیوان المختبئ داخلها. وفی هذه الخطوة بالذات تقدم الدودة على اختراع جدید بواسطته تنقذ نفسها من مخالب الطیور إذ تقوم الدودة بإجراء حسابی دقیق کالذی یقوم به أخصائیو الریاضیات أی استنادا إلى مبدأ الاحتمالات لأن الدودة تقوم بنفس العمل فی أوراق نباتیة أخرى وتقوم بربط هذه الأوراق حول الورقة التی تختبئ داخلها کنوع من أنواع التمویه ضد الأعداء وهکذا یصبح على غصن واحد أکثر من ورقة (6-7) واحدة منها فقط تحوی داخلها الدودة المختبئة والباقیة خالیة تماما، وإذا حدث و تناول أحد الطیور هذه الأوراق فیصبح احتمال وقوع الدودة کفریسة 1/6. (3)

کل هذه الظواهر السلوکیة تعتمد على منطق معین بلا شک ولکن هل یمکن لهذه الدودة التی تحتوی على مخ مجهری وجهاز عصبی بسیط أن تقوم بهذه الأعمال العقلانیة والمنطقیة والمخطط لها مسبقا من تلقاء نفسهاا؟ وکما هو معلوم فلاحظ لهذه الدودة من التفکیر. و من الاستحالة أن تکون قد تعلمت من دودة أخرى، وفی الحقیقة فإن هذه الدودة لا تعلم بالخطر الذی یتهددها فی المستقبل، إذن فکیف اهتدت إلى فکرة التمویه ؟

ولو وجهتم هذا السؤال إلى أحد أصحاب نظریة التطور فلا یستطیع أن یجیب إجابة مقنعة ومحددة، و فی غالب الأحیان یلجؤون إلى مفهوم واحد وهو الغریزة حیث یفسر هؤلاء طریقة سلوک الحیوانات بالغریزة، وفی هذه الحالة أول سؤال یتبادر إلى ذهننا هو تعریف الغریزة، حیث نستطیع أن نعرفها على أساس آلیة معینة تجعل الدودة مثلا تخفی نفسها داخل ورقة نباتیة أو تجعل القندس یبنی عشه وسده بهذه الکیفیة و هذه الآلیة أو القوة الدافعة ینبغی أن توجد فی مکان ما داخل جسم الحیوان .

القندس مهندس السّدود

القندس مهندس السّدود

یعتبر هذا الحیوان مهندسا بارعا وبناّء ماهرا فی نفس الوقت حیث ینشئ عشه بمهارة فائقة وبنفس المهارة ینشئ سدّا منیعا أمام عشّه لیحمیه من تأثیر الماء الجاری، وهو یبذل جهدا خارقا وعلى مدى عدة مراحل لإنجاز هذا العمل المرهق. وفی المرحلة الأولى یقوم بتجمیع کمّ هائل من أغصان الأشجار حیث یستخدمها فی التغذیة وبناء عشه والسد الذی أمامه، ولهذا یقوم هذا الحیوان بقرض الأشجار المتوفرة بأسنانه لقطعها وأثبتت الأبحاث العلمیة أنه یقوم بحسابات دقیقة عند عملیة القطع. ویفضل هذا الحیوان العمل على ضفة المیاه التی تهب علیها الریاح وهکذا تقوم المیاه بمساعدة هذا الحیوان فی سحبه الأغصان التی یقطعها باتجاهه عشه .

ویتمیز عش هذا الحیوان بتخطیط بارع إذ یحتوی على مدخلین سفلیین تحت سطح الماء ومکان خاص فوق سطح الماء للتغذیة وفوق هذا المکان یوجد مکان خاص للنوم إضافة إلى قناة خاصة لتهوئة هذا المکان . ویقوم القندس بتجمیع الأغصان واحدا فوق الآخر لتشکیل الهیکل الخارجی للعش بعنایة کبیرة فلا یترک فیه أیة فجوة أو ثقب ویستخدم فی هذا العمل الأغصان الصغیرة مع کمیة من الطین .

والمواد التی یستخدمها القندس فی بناء عشه تساعد على تماسکه من جهة والحفاظ على درجة الحرارة داخله من جهة أخرى, فبالرغم من انخفاض درجة الحرارة فی الشتاء إلى 35 درجة تحت الصفر فإن الحرارة داخل العش تبقى فوق الصفر باستمرار ویقوم القندس أیضا بإنشاء مخزن للأغذیة تحت العش یتغذى منه طیلة فصل الشتاء. وفی تلک الأثناء یقوم القندس بإنشاء قنوات تحتیة على شکل شبکة, و یبلغ عرض هذه القنوات متران یستطیع هذا الحیوان بواسطتها أن یصل إلى الیابسة حیث توجد الأشجار التی یتغذى علیها.

والسدود التی یبنیها القندس تتألف من النباتات والأحجار التی یرکمها فوق بعضها البعض بنفس الطریقة یبنی بها العش. ویبذل هذا الحیوان جهده فی رص الأغصان على شکل مثلث طویل یربط بین ضفتی المیاه إضافة إلى عمله الدؤوب فی رتق الفجوات الموجودة فی السد عبر ملئها بالمواد اللازمة, وکلّ هذا یحدث وهو یسبح ضد تیار الماء ویمتطی کومة عشه فی الوقت نفسه. وعند حدوث أیة فجوة أو خلل فی بناء السد یقوم القندس باستخدام الطین أو أغصان الأشجار لملئه ثانیة، وهکذا یتحول السد إلى نوع من الحوض العمیق یستطیع من خلاله القندس أن یجعل من عشه مخبأ کبیرا للأغذیة والمؤونة تساعده على الحیاة طیلة فصل الشتاء، ویستطیع القندس أن یوسع من المساحة المائیة داخل العش لنقل أکبر کمیة ممکنة من الغذاء والمواد اللازمة لبناء العش وترمیمه حتى أن هذا الأسلوب یجعل العش فی مأمن من الأعداء, وفی هذا یشبه عش القندس قلعة محاطة بخنادق الدفاع یصعب الهجوم علیها.

وفی ما تقدم لخصنا سلوک القندس کمثال على العقلانیة والتخطیط والحساب الدقیق فی کل مرحلة من المراحل ولکن لا یمکن لی أن أرجع هذه الصفات إلى القندس وحده بسبب افتقاده للعقل أو أی شیء یمت بصلة إلى العقل، إذن فما مصدر سلوک الحیوان؟ ولابد من وجود إجابة عن هذا السؤال، وإذا کان هذا السلوک لیس من اکتساب القندس فما مصدر هذا السلوک ؟

لا شک أن مصدر سلوک القندس أو الأمثلة الأخرى التی سنراها فی الصفحات القادمة من سلوک الحیوانات المختلفة على هذا الشکل المتمیز وفق تخطیط مدروس هو الله القادر على کلّ شیء الّذی لا حدّ لقدرته و علمه فهو الذی یلهم هذه الکائنات الحیة ویأمرها فتبارک الله أحسن الخالقین.

المـــــدخل

المـــــدخل

إن نظریة التطور لتشارلس داروین قد فقدت مصداقیتها بشکل شبه کلّی عند اقتراب القرن الحادی والعشرین، وهذه النظریة قد تبنّاها بعض المؤمنین بالفکر المادّی عند بدایات القرن العشرین و حاولوا تلقینها للناس وعملوا على إثبات صحّتها وفرضها على کونها حقیقة علمیة ثابتة ولکن هذه المحاولات باءت بالفشل وثبت إفلاس أصحابها فکریّا، والعامل الرئیسی لفشل هذه النظریة هو التطور الکبیر الّذی طرأ على بعض فروع العلم والتی لها صلة مباشرة بهذه النظریة مثل علم الأحیاء المجهریة و الکمیاء الحیویة و علم المتحجرات. وثبت بعد هذا التطور فی هذه العلوم أنّ الحیاة لم تنشأ بالصدفة ولم تتطورخطوة خطوة کما تدّعی هذه النظریة وثبت استحالة تبنّی هذه الفکرة أصلا ،(للمزید من التفاصیل یرجى الإطلاع على فصل"خطأ نظریة التطور"). وعجزت هذه النظریة المفلسة فی إیراد الأدلة العلمیة المقنعة بشأن أصل الأنواع الحیة, وعجزت أیضا عن الإجابة على التساؤلات الواردة بشأن الخصائص المتمیزة لبعض الکائنات الحیة وأصلها.

وهذا العجز بالذات جعل المؤمنین بهذه النظریة فی مأزق حقیقی، ویقوم هذا الکتاب بشرح وتحلیل "التضحیة لدى الکائنات الحیة" کأحد الخصائص المتمیّزة لبعض الکائنات الحیة.

ویمکن مشاهدة هذه التضحیة فی الطبیعة باستمرار، کذلک یمکن ملاحظة التکافل والتعاون بین الکائنات الحیة بجلاء إضافة إلى الرأفة فی العلاقات الرابطة بینها. کل هذه الظواهر الطبیعیة شکلت تساؤلات أمام نظریة "التطور" ولم تستطع الإجابة عنها، یاترى ما سبب ذلک؟

کان داروین وهو یدعی نظریته هذه یعتمد على آلیة فکریة یکمن جوهرها فی مفهوم الإنتخاب الطبیعی وهی آلیة لا تعتمد أساسا على نقد أو تحیل موضوعی، وحسب تفکیر داروین فإن أصل الأنواع الحیة کلها یرجع إلى جد واحد ووجودهم فی ظروف طبیعیة مختلفة أدّى إلى إختلافهم فیما بعد عن بعضهم البعض کتکیف مع الظروف الموجودة، وإن الأنواع التی أبدت تکیّفا ناجحا وفقا للظروف الطبیعیة التی وجدوا فیها قد أکتسبت صفات جدیدة أورثتها للسلالات التی جاءت بعدها، لهذا السبب فإن الأنواع التی أبدت تکیفا هی الأقوى بالنسبة للتجاوب مع قوة الظروف المحیطة بها ونجحت فی البقاء والإستمرار، وإن فرضیة داروین هذه یعبّر عنها بالبقاء للأقوى أی الأفراد الأقویاء یصلحون للبقاء أحیاء والضعفاء معرّضون للفناء .

والطبیعة على ضوء هذه الفرضیة یمکن تعریفها استنادا لما جاء فی مقولة جولیان هکسلی الذی یعتبر أحد الأصدقاء المقرّبین من داروین و المدافعین بشدّة عن نظریته کما یلی : "هی حلبة یتمّ انتقاء الأقوى والأصلح فیها من الأضعف والفاشل، ولا مناص من هذا الإنتقاء" .

والسؤال الذی یطرح نفسه: هل صحیح أنّ الطبیعة کما یدّعی أصحاب نظریة التطوّر هی حلبة یتمّ فیها النصر للأقوى والأصلح ویسحق فیها الأضعف ویعرض للفناء بمنتهى الأنانیة والقوة کشکل من أشکال الحیاة ؟ .

ویمکن الإجابة عن هذا السؤال عبر ملاحظة أشکال الحیاة فی الطبیعة ، ومن الطبیعی أن تقوم الکائنات الحیة فی الطبیعة ببذل جهد کافٍ للعیش والدّفاع عن النفس، حیث ان کل کائن حیّ یجب أن یقوم بالصید للحفاظ على حیاته أو الدفاع عن نفسه، ولکن المسرح الطبیعی للأحیاء لا یتألف من هذین المشهدین فقط بل یمکن ملاحظة مشاهد فی الطبیعة تنطق بأنبل أنواع التضحیة تقوم بها الحیوانات لصالح أفراخها وجماعاتها أو حتى تجاه حیوانات أو أنواع أخرى. و إضافة إلى التضحیة فان التکافل والتعاون أو الأخذ بید حیوان آخر والعمل على إنقاذه یعتبر من الممیزات السلوکیة التی یمکن مشاهدتها بکثرة فی عالم الطبیعة .

وهذه الممیزات السلوکیة فی عالم الطبیعة عجزت نظریة التطور عن شرحها بیان أسباب حدوثها, وثبت أن الطبیعة لیست مسرحا للحرب کما یدّعى وأنّ الحیاة فی الطبیعة قد أثبتت إفلاس نظریة التطور وعجزها کلیا، ومثال على ذلک : لماذا یعود الحمار الوحشی (زیبرا) هاربا من مفترسیه لیلفت انتباههم إلى ناحیته بدلا من القطیع الذی قدم منه مستهدفا إنقاذه و مضحیا بحیاته فی سبیل ذلک، هذا التساؤل تعجز نظریة التطور عن الإجابة عنه، وکذلک السلوک الغریب لسمکة " أتارینا " کما سنرى فی الفصول القادمة فهی تعرّض حیاتها للخطر خارجة من الماء إلى السواحل الرملیّة للتبییض ومع ذلک فإن قانون الإنتخاب الطبیعی لم یستطع إزالتها من مسرح الطبیعة. وفی الصفحات القادمة ستجدون ما یجعلکم تشعرون بالحیرة والدهشة إزاء کائنات حیوانیّة غیر عاقلة وغیر منطقیة, والإنسان اللّبیب والمنصف وحده هو الذی یستطیع أن یرجع أصل هذه السلوکیات المتمیزة إلى الله الخلاّق العلیم والمتصرّف وحده فی خلقه لأن الحق سبحانه وتعالى یقول فی کتابه المبین : "واختلاف اللیل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحیا به الأرض بعد موتها وتصریف الریاح آیات لقوم یعقلون ". "سورة الجاثیة ، الآیة 4"

إحدى المعضلات التی واجهتها نظریة التطور: المنطقیة فی سلوک الحیوانات.

فمن المعروف أن الإنسان هو الکائن الحی الوحید الذی تحکمه العقلانیة والمنطقیة فی السلوک, فبالإضافة إلى ممیزاته البدنیة فإن المیزة الفریدة التی جعلته على صعید مختلف عن باقی الکائنات الحیة هی العقل والمنطق، وعلى ضوء ذلک فإن الإنسان یتمیز بمحاسبة النفس والتفکیر والتخطیط واستشراف المستقبل فضلا عن رد الفعل تجاه الأحداث الحاصلة والتدبّر وکذلک السیر نحو هدف معیّن کلّ هذه الصفات السلوکیة خاصة بـالإنسان. أما الکائنات الحیة الأخرى الموجودة فی الطبیعة فلا تملک هذه الصفات، لهذا السبب فلا یمکن لنا أن ننتظر من الحیوانات أنماطا سلوکیة مشابهة للإنسان کالتخطیط والتقدیر أو القیام ببعض الحسابات کالتی یقوم بها بعض المهندسین .

إذن، فکیف لنا أن نجیب عن بعض الظواهر السلوکیة المنطقیة فی الطبیعة ؟

حتى إنّ بعض الحیوانات التی تتصف بهذه السلوکیات المنطقیة لا تملک مخّا أصلا، وقبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من الإطلاع عن کثب عن بعض هذه السلوکیات لمعرفة کنه هذه السلوکیات ومنشئه.

نبذة عن المؤلف

نبذة عن المؤلف

إنّ هارون یحیى سم مستعار لمؤلف دأب على الکتابة فی مجال السّیاسة وله مؤلفات عدیدة فی هذا المجال، و عدد کبیر من هذه المؤلفات یدور حول الماسونیة و الیهودیة وتأثیرهما على تاریخ السیاسة والعالم، واختیار المؤلف لهذا الإسم المستعار یعود إلى تبنّیه فکرة النّضال ضدّ الیهود الجاحدین عبرتذکیرهم بمدى تبجیله لنبیّین من أنبیائهم وهما النبی یحیى والنبی هارون علیهما السلام.

ومن بین مؤلفات الکاتب نذکر: "الیهودیة والماسونیة" و "الماسونیة والرأسمالیة" و "الماسونیة عبادة الشّیطان" و "الماسونیة وأبناء یهوه" و "النّظام الماسونی الجدید" و "الید الخفیة فی البوسنة" و "کذبة التطهیر العرقی" و "الوجه الخفیّ للإرهاب" و "الأکراد: الورقة الرّابحة لدى إسرائیل ومسألة استراتیجیة لترکیا" و قد کتب المؤلّف هذه المؤلّفات تحت اسم مستعار بالطبع. وهناک کتیبات أخرى ألّفها تحت اسم مستعار منها :"فریة نظریة التّطور" و "معجزة الخلیّة" و "معجزة العین" و "معجزة العنکبوت" و "معجزة البعوض و "معجزة نظام الحمایة لدى الأحیاء" و "معجزة النمل" و "الله سبحانه وتعالى یعرف بالعقل" و "حقیقة الحیاة الدنیا" و "أسرار الذّرة" و "سقوط نظریة التطور" و "حقیقة الخلق" و "سقوط المادّیة" و "نهایة المادّیة" و "أخطاء المتبنّین لنظریة التطور " و "السقوط المیکروبیولوجی لنظریة التّطور" و "سقوط نظریّة التّطور فی 20سؤالا" .

وللکاتب اسم مستعار آخر وهو "جاوید یالجین", وتحت هذا الإسم ألف کتیبات عدیدة منها: "دین الإنسانیة"، "الحیاة فی سبیل الله"، "أسماء الله"، "نبذ المجتمع الجاهلی"، "الجنة" ، "نظریة التّطور"، "هل فکّرتم فی الحقیقة"، "الأحکام المنسیة للقرآن" "الهجرة فی القرآن"، "خلق القرآن"، "فهرس القرآن"، "الدعاء فی القرآن"، "صفاة المنافقین فی القرآن"، "شخصیة المنافق"، "الحوار والدّعوة فی القرآن"، "المبادئ الأساسیّة فی القرآن"، "ردود من القرآن"، "الموت والقیامة وجهنم"، "حذار أن تنسى"، "الوجدان فی القرآن" ،"کفاح الرّسل"، "الشیطان"، "أنانیة الشیطان"، "الشرک"، "یوم القیامة" إضافة إلى "هلاک

الأمم" و "المتفکّرون" .

اعتاد المؤلف استخدام صورة لخاتم النبی صلى الله علیه وسلم على أغلفة مؤلفاته کإشارة إلى محتواها الدینی، وإشارة إلى اختتام رسالة السّماء بـمحمد صلى الله علیه وسلم وإلى کون القرآن الکریم آخر الکتب المنزّلة من الله سبحانه وتعالى على عباده، واعتمد الکاتب فی معرض تفنیده لآراء الکفار والملحدین ومبادئ الکفر على هذه الحقیقة لإسکات هذه الأصوات الآبقةعبر جدل عقلی ومنطقی. واستخدامه لخاتم الرّسول صلى الله علیه وسلم یعتبر رمزا لمصدر إلهام له حیث ینهل من حکمته النبویة ویجعل منها فیضا ودعاء له فی تألیفه لهذه الکتب. والهدف المشترک و الرّئیسی من تألیف هذه الکتب والکتیبات دعوة البعیدین عن الدّین إلى القرآن وإثبات وجود الله سبحانه وتعالى و وحدانیته إضافة إلى حتمیّة انتهاء الدنیا بالآخرة کمفاهیم إیمانیة رئیسیة ودعوة هؤلاء إلى التفکیر فی هذه المفاهیم, ومن جانب آخر تذکرة المسلمین بهذه المعانی و المفاهیم والتأکید علیها.