الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

ماذا یحدث إذا لم یَخف الإنسان من الله؟

ماذا یحدث إذا لم یَخف الإنسان من الله؟

"کَلَّا بَل لَّا تُکْرِمُونَ الْیَتِیمَ. وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْکِینِ. وَتَأْکُلُونَ التُّرَاثَ أَکْلًا لَّمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا." (سورة الفجر: 17-20)

فکر فی رجلین، أحدهما یعرف أنه سیقابل الله جل جلاله ویعی أنه سیجازى عن کل فعل یقوم به؛ والآخر، على العکس من ذلک، یفترض أنه لن یُحاسب على الإطلاق. هناک فرق کبیر بالتأکید بین تصرفات هذین الرجلین. إذ یرجح أن یقوم الشخص الذی لا یخاف الله بارتکاب أی إثم وتجاهل جمیع الأخلاقیات عندما یشعر أن مصالحه فی خطر. ومن ثم، فإن الشخص الذی یسهل علیه قتل إنسان آخر، على سبیل المثال، دون أی سبب واضح أو لمصلحة دنیویة، یفعل هذا لأنه لا یخاف الله. ولو کان إیمانه بالله والیوم الآخر راسخا، لما تجرَّأ على فعل أی شیء لا یستطیع أن یبرره فی الآخرة.

وفی القرآن الکریم، ضرب الله مثلا قصة ابنَی نبی الله آدم، علیه السلام، لیلفت انتباهنا إلى الاختلاف الحاد بین الشخص الذی یخاف الله والشخص الذی لا یخافه:

"وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ ابْنَیْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ یُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّکَ قَالَ إِنَّمَا یَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِینَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَیَّ یَدَکَ لِتَقْتُلَنِی مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ یَدِیَ إِلَیْکَ لَأَقْتُلَکَ إِنِّی أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِینَ." (سورة المائدة: 27-28)

فقد تجرأ الأخ الذی لا یخاف الله على قتل أخیه دون أن تطرف له عین، علما بأن الأخ القتیل لم یرتکب ذنبا. فی حین أن الأخ الضحیة، على الرغم من أنه مهدد بالقتل، قال إنه لن یحاول أن یقتل أخاه، وهذا نتیجة خوفه من الله. ومن ثم، بمجرد أن یشعر أفراد مجتمع ما بالخوف من الله، سوف ینتهی القتل، والاضطهاد، والظلم، والجور الذی لا یرضى عنه الله.

إن اشتهاء الدنیا هو سبب أیضا فی الأعمال الوحشیة وغیر الأخلاقیة التی یرتکبها الناس. إذ إن الشغل الشاغل لکثیر من الناس هو خوفهم من أن یصبحوا فقراء أو من عدم قدرتهم على تأمین مستقبلهم. وتفسر هذه المخاوف بالضرورة السبب الذی جعل من الرشوة، والفساد، والسرقة، وشهادة الزور، والبغاء أسلوب معیشة بالنسبة لکثیر من الناس. ومع ذلک، فبالنسبة لشخص مؤمن بالله، یتقدم رضا الله عنه على کل ما عداه. لذا، یتجنب هذا الشخص أی شیء من شأنه أن یفقده رضا الله. ولا یملأ قلبه غیر الخوف من الله جل جلاله؛ فلا الموت، ولا الجوع، ولا أی نوع آخر من المصاعب یمکن أن یحید به عن طریق الحق.

ونتیجة لذلک، لا یمکن أبدا أن یحید الشخص الذی یخاف الله عما جاء فی القرآن، مهما کانت الظروف. وبشکل مساو، ستجد أن هذا الشخص جدیر بالثقة ویتصرف دائما بضمیر حی. وبما أن لدیه شعورا عمیقا بأن الله یرى ویسمع کل شیء، فلن یحاول التصرف ضد ما یملیه علیه ضمیره حتى عندما یکون بمفرده.


إن الافتقار إلى الضمیر الحی هو من أخطر الأضرار التی تنشأ عن انعدام الخوف من الله سبحانه وتعالى. ذلک أن من یفتقرون إلى الضمیر الحی لا یحاولون حتى مساعدة المکروبین.

إن قلة التدین تحرض على فقدان الضمیر. ولتوضیح هذه النقطة، فکر فی شخص لا یتردد فی الهرب بعد أن یصدم شخصا آخر بسیارته فی الشارع. هذا مجرد مؤشر على بعده عن الدین. ولا شک فی أن انعدام الضمیر لدى هذا الشخص - الذی یترک إنسانا یتألم بمفرده فی وسط الشارع، وقد کان من الممکن فی أحوال أخرى أن تتوفر له فرصة للنجاة - یدعوه للاعتقاد بأنه یستطیع أن یتفادى الناس بالهروب منهم. ومع ذلک، فهو لا یعتقد مطلقا أن الله یحیط به، ویراه، ویسمعه فی کل ثانیة. ولا یمکن لأی إنسان قط أن یهرب من حساب الله فی یوم الحساب. فسیجازی الله فی هذا الیوم کل واحد عن کل ما ارتکبه من أفعال ظالمة، ووحشیة، ومجردة من الضمیر الحی:

"... وَمَن یَغْلُلْ یَأْتِ بِمَا غَلَّ یَوْمَ الْقِیَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى کُلُّ نَفْسٍ مَّا کَسَبَتْ وَهُمْ لاَ یُظْلَمُونَ. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ کَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِیرُ." (سورة آل عمران: 161-162)

وعندما نذکّر الناس بآیات الله، ونرشدهم إلى هذه الحقیقة المهمة، لن تحدث هذه الأفعال المنافیة للأخلاق.

ویتجسد أحد الأمثلة على الأفعال المنافیة للأخلاق التی یقوم بها الأشخاص البعیدون عن الدین فی أولئک الذین یقدمون العنایة الطبیة فی بعض المجتمعات وکأنهم أطباء، مع أنهم لا یمتلکون أی خلفیة طبیة. وعلى الرغم من أن هؤلاء الناس جاهلون تماما بأی فرع من فروع الطب، فإنهم یخدعون المرضى بسهولة ویتجرؤون على معالجتهم دون أن یعیروا اهتماما للعواقب الخطیرة التی تهدد صحتهم. بل قد تنتهی هذه الأفعال المنافیة للأخلاق بموت المریض. وبینما یتجاهل مثل هؤلاء الناس تماما هذه الآثار السلبیة، فإنهم لا یفکرون إلا فی الحصول على بعض المنافع وجنی الأموال. ومع ذلک، یأمر الله المؤمنین فی القرآن الکریم بما یلی: "أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها" (سورة النساء: 58). وتعتبر صحة الإنسان، أیضا، أمانة غالیة. ومن ثم، یجب على الناس، امتثالا لما جاء فی الآیة السابقة، أن یتجنبوا ممارسة مهنة لا یحق لهم العمل بها وألا یقوموا بأی محاولات من شأنها أن تضر الآخرین.

ومن المرجح أن یقابل المرء فی جمیع مجالات الحیاة أناسا لا یخافون الله ویرتکبون أفعالا منافیة للأخلاق. وإذا تعذر على المرء أن یدرک مدى قرب یوم الحساب ولم یتأمل فیه، سیسهل علیه أن یفتری على شخص بریء. وفی غضون ذلک، لن یفکر فی إقناع الناس ببراءة هذا الشخص بل سیرکز جهوده على إقناعهم بصدق کلامه هو. ومن الواضح أن مثل هذا الشخص لا یفهم مطلقا أن الله شاهد على کل شیء، بلا استثناء، وأنه سیحاسب الإنسان فی الآخرة على کل ما فعله فی الدنیا. ومن هذا المنطلق، لن ینزعج ضمیر هذا الشخص إذا عرف أن الشخص البریء یمر بمحنة، أو یشعر بضیق، أو أودع السجن. ویوضح الله سبحانه وتعالی فی القرآن عقاب من یفتری على الآخرین على النحو التالی:

"... وَمَن یَغْلُلْ یَأْتِ بِمَا غَلَّ یَوْمَ الْقِیَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى کُلُّ نَفْسٍ مَّا کَسَبَتْ وَهُمْ لاَ یُظْلَمُونَ. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ کَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِیرُ." (سورة آل عمران: 161-162)


Newsweek,
17 December 1990


Time, 25 March 1996



نتیجة انقیادهم الأعمى وراء طموحهم لنیل المکاسب المادیة، یتحکم البعض فی صحة الناس ویعرضون حیاة البشر للخطر. وهؤلاء بالتحدید هم الذین لا یخافون الله وبالتالی لا یعتبرون أن حیاة الإنسان غالیة.

"وَمَن یَکْسِبْ خَطِیئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ یَرْمِ بِهِ بَرِیئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِینًا." (سورة النساء: 112)

"إِنَّ الَّذِینَ جَاؤُوا بِالْإِفْکِ عُصْبَةٌ مِّنکُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّکُم بَلْ هُوَ خَیْرٌ لَّکُمْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اکْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِی تَوَلَّى کِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِیمٌ." (سورة النور: 11)

إن الشخص الذی لا یخاف الله لا یحترم الآخرین ولا یقدرهم. ویفسر انعدام الخوف هذا عدم اهتمام الکثیر من أصحاب المطاعم بنظافة مطاعمهم وعدم احترام غالبیة الناس لکبار السن. وعلى نحو مشابه، یفسر عدم الخوف من الله موت المرضى بغرف الطوارئ بسبب قلة العنایة، وذبح المستضعَفین والفقراء وملایین الأبریاء من أجل حفنة من التراب، إلخ.

أما فی المجتمعات التی تخاف الله، فلن یفعل أحد أیًّا من الأعمال السابقة، لأن الکل یعلم أن أی ذنب یرتکبه الإنسان فی هذه الحیاة الفانیة سوف یلقى جزاءه فی الآخرة. وإذا تحلى أفراد المجتمع بضمیر حی سلیم، یحق لهذا المجتمع أن ینعم بالسلام والإحساس بالثقة. وتجدر الإشارة إلى أن تجنب الفسوق، والبغاء، وأی شکل آخر من أشکال الأعمال اللاأخلاقیة تجنبا تاما وما یصحبه من التحلی بقیم مثل الاحترام، والشفقة، والرحمة یضمن تکوین روابط عائلیة لا تنفصم، وهذا أمر ضروری بلا شک من أجل إقامة مجتمع قوی ینعم بهذه الأسس المتینة فی المقام الأول لأن أفراده یخلصون لبعضهم البعض.

فعل الخیر دون انتظار مقابل

لا شک فی أن الشخص الذی یخاف الله هو نفسه شخص یستمع إلى ضمیره ویتصرف دوما وفقا لأحکام القرآن الکریم. فقد أمر الله سبحانه وتعالى الناس فی القرآن بأن یعملوا الأعمال الصالحة دون أن یتوقعوا أی مکافأة دنیویة، وأن یمدوا ید العون للآخرین، وأن یکافحوا لیوفروا حیاة جیدة لهم. وفی الآیة التی تقول: "ولا تَمنُن تَسْتَکْثِر" (سورة المدثر: 6)، یؤکد هذا النهی على ضرورة أن یمتنع الناس عن طلب المکاسب الدنیویة مقابل المعروف الذی یقدمونه ویرجون به مرضاة الله. إن الشخص الذی یتبع أوامر الله ولا یتوقع أی مکاسب دنیویة یفعل کل هذا من أجل غایة واحدة؛ هی نیل رضا الله حتى یقبله ضمن عباده الصالحین الذین یستحقون دخول الجنة.

ومع ذلک، فإن عددا کبیرا من أعمال الخیر فی عصرنا الحالی تُؤدَّى بهدف الحصول على مکافأة دنیویة. فعلى سبیل المثال، رجل الأعمال الذی یتعهد بإنشاء دار للفقراء تحت مسمى الأغراض الخیریة، یبدو ظاهریا أنه لا یجنی أی کسب مادی من هذا التعهد. ولکن الحقیقة مختلفة، لأنه یبنی هذا المشروع فی المقام الأول من أجل الدعایة لاسمه، الذی سیظهر على الصفحات الأولى بالجرائد وفی برامج التلیفزیون الإخباریة، مما یحول هذا العمل الخیری إلى شکل من أشکال التباهی. وفی غضون ذلک، ستوفر شرکته أموالا لأن تکالیف هذا العمل الخیری تخصم من ضرائبه. وعلاوة على ذلک، فإن العمل الخیری الذی یُقدم من أجل الحصول على مزایا مشابهة غالبا ما یکون بعیدا کل البعد عن الاحتیاجات الفعلیة للمستفیدین منه. إذ سنجد، على سبیل المثال، أن الشاحنة المحملة بالطعام التی یتم إرسالها إلى منطقة ضربها زلزال لا تسد حاجات المتضررین، إما لأنها فاسدة من الأساس أو لأنها لا تلائم احتیاجات الضحایا الفعلیة.

ویکفینا الاستشهاد بمواقف السیاسیین لإیضاح هذه المسألة. إذ یکرر السیاسیون فی خطبهم، على مدار حملاتهم الانتخابیة المطولة، شعارات تعبر عن التزامهم العمیق بخدمة بلدهم. ومع ذلک، إذا لم یعینوا فی منصب وزاری، سرعان ما یقطعون کل صلة تربطهم بحزبهم، وینسون "الأهداف" المزعومة المذکورة فی جدول أعمالهم، ویکشفون عن دوافعهم الخفیة المرتبطة بدخول مجال العمل السیاسی. ویتبین أنهم ترشحوا من أجل الحصول على "المنصب" والمکانة الاجتماعیة. ولن تصدق کم هی قلیلة المزایا التی یجنیها المجتمع من مثل هذه العقلیات.

وباختصار، یصبح المعروف بلا ثمرة فی الآخرة إذا خلا من الإخلاص. ویبین الله ذلک فی الآیة التالیة:

"یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِکُم بِالْمَنِّ وَالأذَى کَالَّذِی یُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ کَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَیْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَکَهُ صَلْدًا لاَّ یَقْدِرُونَ عَلَى شَیْءٍ مِّمَّا کَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ یَهْدِی الْقَوْمَ الْکَافِرِینَ." (سورة البقرة: 264)

ولکن من ناحیة أخرى، یثبت أن المعروف الذی یؤدَّى بإخلاص لمساعدة الناس وکسب رضا الله مربح ومفید، کما جاء فی العدید من آیات الذکر الحکیم. وفی مقابل هذه النوایا المخلصة، یقود الله جل جلاله الناس إلى النجاح فی کل أعمالهم ویضمن لهم نتائج مثمرة لما عاهدوه علیه. وقد تمت الإشارة إلى ذلک فی الآیة التالیة:

"وَمَثَلُ الَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِیتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ کَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُکُلَهَا ضِعْفَیْنِ فَإِن لَّمْ یُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ." (سورة البقرة: 265)

إن من یسعى فقط لنیل مرضاة الله لا یقصر جهده على مجالات معینة لعمل الخیر والتضحیة. وفی مجتمع بعید عن التدین، یمیل الناس فی الغالب للاعتقاد بوجود مصلحة خفیة وراء التضحیة، وما هذا إلا منطق الکفار الذی غرسوه فی عقول الناس. وفی مجتمع لا یسعى أفراده لنیل مرضاة الله، یقدم الناس المصالح الشخصیة على کل ما عداها. ومن ناحیة أخرى، یسعى المؤمنون لنیل مرضاة الله جل جلاله دون سواها:

"یُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَیَخَافُونَ یَوْمًا کَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِیرًا. وَیُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْکِینًا وَیَتِیمًا وَأَسِیرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِیدُ مِنکُمْ جَزَاء وَلَا شُکُورًا. إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا یَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِیرًا. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِکَ الْیَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا." (سورة الإنسان: 7-11)

وتقدم الفصول التالیة من هذا الکتاب تغطیة شاملة للحلول التی تطرحها آیات الذکر الحکیم للمشکلات التی تتطلب حلولا عاجلة. وعند قراءة هذه الحلول، تذکّر أن مجرد العیش وفقا لقیم القرآن سیوفر حلولا دائمة لکل المشکلات. ومن أمثلة هذه المشکلات فی عصرنا الحاضر: التعامل مع احتیاجات الفقراء، وتوفیر العنایة الجیدة لکبار السن، وغرس القیم الصالحة فی الأطفال، وتحریر المراهقین من قبضة الانحلال الأخلاقی، وتوفیر مساعدة عاجلة للبلدان التی تحل بها الکوارث، والإطاحة بالأیدیولوجیات القاسیة المتأصلة فی العقول والمسؤولة عن انجراف البلدان فی الحروب وقتل آلاف الأبریاء، ومواجهة المتمردین على بلدانهم، والعدید من القضایا الأخرى التی تنتهی غالبا إلى طریق مسدود. ومن هذه الناحیة، فإن الحل الوحید لمختلف المشکلات التی نواجهها فی حیاتنا لا یتأتى إلا من خلال الالتزام بما جاء فی القرآن الکریم، المرشد الوحید للبشریة فی عصرنا الحالی، الذی قدمه الله لها لکی ینیر طریقها. ذلک أن العیش وفقا لأوامر الله سبحانه وتعالى سیزیل کل أنواع الشرور من الأرض. أما فی حالة الابتعاد عن هذه المبادئ، فسیلزم الناس أنفسهم عمدا بنظام قاس. ویلفت الله الانتباه فی القرآن الکریم إلى الأذى الذی یسببه الناس لأنفسهم:

"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا کَسَبَتْ أَیْدِی النَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ." (سورة الروم: 41)

الحلول التی تظهر باستخدام العقل والحکمة

یعتبر التحلی بسمات العقل والحکمة، والبصیرة، والحصافة من الضروریات التی تساهم فی  حل المشکلات الملوِّثة للأرض، فی کل میادین الحیاة، والتی تجلب الخیر للإنسانیة. ولن یتسنى اکتساب هذه السمات إلا من خلال اتباع ما جاء فی القرآن الکریم. وفی الآیة التالیة، یؤکد سبحانه وتعالى على الحکمة الذی یمنحها الإیمان للإنسان:

"یِا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ یَجْعَل لَّکُمْ فُرْقَاناً وَیُکَفِّرْ عَنکُمْ سَیِّئَاتِکُمْ وَیَغْفِرْ لَکُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ." (سورة الأنفال: 29)


یوجد الیوم آلاف الأطفال المشردین ممن یتعاطون المخدرات وممن هم عرضة لارتکاب الجریمة، وهو ما یعد نتیجة طبیعیة للبیئات الملوثة التی نشؤوا فیها. والأرجح أن هؤلاء الأطفال عندما یکبرون سیصبحون أفرادا معاقین اجتماعیا وغیر قادرین على تقدیم أی خدمات مفیدة للمجتمع الذی یعیشون فیه.

وفی بعض الأحیان، قد یشعر الناس بضرورة السعی لإیجاد حلول للمشکلات التی یواجهونها. ومع ذلک، فهم لا یصلون إلى النتائج المرجوة لأنهم لیسوا جهات متخصصة فی تقدیم الحلول کما أنهم ینقصهم الحدس، والحصافة، والبصیرة، وکلها صفات تنتج عن الإیمان. وبما أن الحماس الذی یدفع هؤلاء الناس غیر صادر عن الإیمان، فإن قراراتهم تتأخر فی الغالب عندما تصل إلى مرحلة التنفیذ. ومن ناحیة أخرى، فإن عدم إدراکهم لتفاصیل مهمة أو تغاضیهم عنها یجعلهم یواجهون طرقا مسدودة فی مختلف المراحل.

فعلى سبیل المثال، هناک مشکلة کبیرة فی عصرنا الحالی تبحث عن حل حاسم، ألا وهی مشکلة الأطفال المشردین والأیتام المنتشرین فی جمیع أنحاء العالم الذین تُرکوا للعیش فی الشوارع. وتجدر الإشارة إلى أن بعثات المعونة والإجراءات التی تتناول المشکلات المتعددة للمشردین، لا سیما تلک التی یُستهدف بها منع الأطفال المشردین من الانحراف نحو الجریمة أو إدمان المخدرات، أثبتت فی أغلب الأحیان أنها غیر فعالة، مما یدفع هؤلاء الأطفال إلى طریق التشرد الذی ینحدر بهم إلى الشوارع ومنها إلى الإصلاحیات أو تتهیأ لهم الظروف المواتیة للانتحار أو الموت بسبب نقص العنایة. ومع ذلک، فسیختلف الوضع بالتأکید إذا تلقى هؤلاء الأطفال تدریبا یستند إلى القرآن الکریم مصحوبا بالخدمات المناسبة. ذلک أنهم نتیجة خوفهم من الله، لن یمیلوا إلى النشاط الإجرامی، بل على العکس من ذلک، سیبلغون سن الرشد ویکافحون لتقدیم أفضل الخدمات لبلدهم وشعبهم.

وستتضح هذه النقطة أکثر إذا تعرضنا إلى أولئک الذین یعانون من أمراض تحتاج إلى علاج مکلف. یمتلک الأغنیاء، الذین لا یواجهون عادة مشکلات فی دفع فواتیرهم، الموارد الضروریة لإبقائهم على قید الحیاة. ومن ناحیة أخرى، یُترک الفقراء، الذین لا یملکون تأمینا صحیا، فریسة للموت. ویندر أن یؤثر هذا الوضع فی أی أحد، والدلیل على ذلک أنه لم یبادر أی أحد باتخاذ أی إجراءات.

ومرة أخرى، یعتبر انعدام الخوف من الله، وما یتبعه من انعدام الحکمة، مسؤولا عن حالة اللامبالاة هذه. إذ یتعذر على الذین لا یمیزون بین الخیر والشر أن یصلوا إلى حل للمشکلات التی یواجهونها. وتجدر الإشارة إلى أن انعدام التمییز بین الخیر والشر صفة یتمیز بها الکفار. ویبین الله کیف یتصرف هؤلاء الناس:

"وَمَثَلُ الَّذِینَ کَفَرُواْ کَمَثَلِ الَّذِی یَنْعِقُ بِمَا لاَ یَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُکْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لاَ یَعْقِلُونَ." (سورة البقرة: 171)

ومع ذلک، یمتلک الأشخاص الذین یعیشون وفقا لأحکام القرآن والسنة، بفضل الحکمة التی یتحلون بها، ملکات عقلیة متطورة جدا تمکنهم من إیجاد الحلول، وتکوین الموارد، والتنظیم. ویمکن أن تساعد المنظمات التی یدیرونها ومساهمات الموسرین بشکل کبیر فی بناء حیاة أفضل لهؤلاء التعساء. أولا، یمکن تنبیه الناس إلى المشکلات الموجودة، وبناء علیه یمکن أن یقدم لهم النصح بشأن الحلول المناسبة. فعلى سبیل المثال، یمکن أن یتعهد بعض رجال الأعمال ببناء أو تجدید ملاجئ للأطفال المشردین وتعلیمهم، الأمر الذی یتطلب فی الواقع قدرا بسیطا من التنظیم. وفی مجتمع یعیش وفقا لأحکام القرآن والسنة، ستختفی هذه المشکلة إلى الأبد بفضل هذه الحلول العملیة. إذ یمکن أن تتعهد کل أسرة لدیها قدر کاف من الموارد المالیة، مثلا، برعایة طفل واحد وتعلیمه. ویستطیع الناس الذین وهبهم الله قیم القرآن والحکمة أن یتعاملوا مع جمیع أنواع المشکلات بمثل هذه الحلول العملیة. وعلى نحو مشابه، یمکن حصر المرضى الذین لیس لدیهم تأمین صحی على أن تتم تغطیة تکالیف علاجهم من صندوق مخصص لهذا الغرض. وفی مثل هذه الأمور، لا بد من استخدام أکثر الطرق إنتاجیة لتوجیه موارد العالم إلى المجالات الصحیحة، دون السماح حتى بأدنى قدر من التبذیر. ویطالب الله سبحانه وتعالى الإنسان فی القرآن الکریم باتباع هذا النوع من السلوک.

على الرغم من توفر کل الموارد الضروریة فی متناول الید، فإن غیاب التنظیم الجید والتوزیع السلیم للموارد یتسبب فی تردی مستوى الرعایة الطبیة التی یحصل علیها الناس من المستشفیات. وبسبب الفقر، لا یحصل البعض على أی علاج طبی. والأمر المثیر للسخریة هو أن شعار هذه المرحلة أصبح: "لا مال، إِذن لا رعایة طبیة".

ویتمکن الأشخاص الذین یتبعون ضمائرهم ویستخدمون عقولهم من السیطرة على الأحداث، وبالتالی یستطیعون التعرف على الطرق المسدودة والاحتیاجات بسرعة، ومن ثم یضعون الحلول. وفی أغلب الأحیان یتعذر على الناس أن یکتشفوا مواضع الفشل فی النظم أو یتظاهرون ببساطة بأنهم لا یدرکونها. وحتى إذا وخزت الظروف ضمائرهم، فإنهم لا یعرفون ما یجب علیهم فعله، أو یشعرون بالکسل إلى درجة لا تجعلهم یبدؤون فی اتخاذ أی إجراء. ونتیجة لترددهم خشیة تعکیر صفوهم، ستجد أنهم یتجنبون قضاء الوقت أو بذل الطاقة فی مثل هذه الأمور. ومع ذلک، سیتمکن أصحاب الضمائر الحیة والحکماء، من خلال ما یبذلونه من مجهود لتنظیم الناس حسب قوتهم وقدراتهم، من إیجاد حلول سریعة لمشکلات کثیرة تحتاج إلى الصبر.

 وقد أثنى الله فی القرآن ثناء کبیرا على من یشجعون الناس على فعل الخیر:

"مَّن یَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً یَکُن لَّهُ نَصِیبٌ مِّنْهَا وَمَن یَشْفَعْ شَفَاعَةً سَیِّئَةً یَکُن لَّهُ کِفْلٌ مِّنْهَا وَکَانَ اللّهُ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ مُّقِیتًا." (سورة النساء: 85)

فی حین ذکر القرآن السلوک المضاد بوصفه صفة من صفات الکفار وصنفه باعتباره نوعا من الشرور:

"کَلَّا بَل لَّا تُکْرِمُونَ الْیَتِیمَ. وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْکِینِ. وَتَأْکُلُونَ التُّرَاثَ أَکْلًا لَّمًّا. وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا." (سورة الفجر: 17-20)

انعدام الغایة لدى الکفار

انعدام الغایة لدى الکفار

"ذَرْهُمْ یَأْکُلُواْ وَیَتَمَتَّعُواْ وَیُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ." (سورة الحجر: 3)

یفتقر الناس بشدة فی عصرنا الحالی إلى وجود غایة فی الحیاة؛ إذ یتبع الجمیع تقریبا أسلوبا معیشیا نمطیا. فقد أصبح إطعام الشخص لنفسه، والبحث عن منزل یسکن فیه، وتکوین أسرة، والعمل فی وظیفة هی القیم المحمودة التی یطمح إلیها المرء فی أغلب الأحیان. وفی إطار هذا الأسلوب المعیشی النمطی، یتمثل أهم هدف فی إیجاد سبل لتحسین الأسلوب المعیشی وتنشئة الأطفال.

ولکی نفهم بصورة أفضل ما یتخلل حیاة مجتمعنا من انعدام للغایة والمغزى، سیکون من المفید أن نلقی نظرة على مجالات أخرى للاهتمام غیر تلک المذکورة آنفا. سنجد أن غالبیة الناس ینظرون إلى الأمور بنظرة محدودة. ففی أغلب الأحیان، یعتبر هؤلاء أن  عدم تفویت حلقة من مسلسل تلیفزیونی أو مشاهدةَ فیلم رائج بین الناس هو الذی یعطی لحیاتهم الیومیة معنى. وبالنسبة لهؤلاء الناس، یتمثل الهدف الأسمى فی الحیاة، إن وجد، فی الانضمام إلى ناد اجتماعی.

وهناک مجموعة أخرى من الناس یمثل العمل الشغل الشاغل لها؛ إذ یقضی هؤلاء الناس حیاتهم بأکملها فی التنقل بین المکتب والمنزل. ویظل الشخص، الذی بدأ مستقبله المهنی فی أوائل العشرینیات من عمره، یعمل بنفس الوظیفة لمدة 40 سنة تقریبا. وفی غضون ذلک، یجد نفسه فی أغلب الأحیان ینتظر قدوم أیام الجمع. وتتمثل طموحاته الأساسیة فی إقفال الشهر الضریبی دون مشاکل، وتدبیر الإیجار کل شهر، وتأمین مستقبل أطفاله. ولا تکاد تثیر اهتمامه أی أحداث وطنیة أو عالمیة، ولا یستوعب أی أحداث غیر تلک التی تؤثر على عمله. وبما أنه لا یتأمل مطلقا فی الأحداث، فهو یقبل الوضع الراهن بسهولة ولا یبدی أی اهتمام بأی قضیة إلا عندما تتعارض مع عمله. ولکی یعبِّر هذا الشخص عما یقلقه، یشترک فی البرامج الحواریة بالتلیفزیون أو یتحدث حتى الساعات الأولى من الصباح دون أن یصل إلى حل أو استنتاج جوهری. وفی الیوم التالی، یبدأ یوما جدیدا شبیها بالیوم الذی سبقه.

ویعانی الشباب أیضا، من انعدام الغایة ذاته، ویفتقرون إلى العوامل الضروریة التی تعطی للحیاة معنى. ذلک أن السواد الأعظم من المراهقین لا یعرفون حتى أسماء قادة بلدانهم، ولا القرارات السیاسیة التی یتخذونها، ولا أثر هذه القرارات على الأمن القومی أو الاقتصاد أو النظامین التعلیمی والقضائی. وهم غافلون تماما عن الأحداث والتطورات الهامة فی العالم، لأنهم یضیعون وقتهم باستمرار فی الموضوعات التافهة وغیر المجدیة. ویحرمهم هذا من المهارات التی تساعدهم على استیعاب أهمیة العدید من الأحداث التی یحفل بها تاریخ العالم. وتقتصر حواراتهم فی الغالب على ألعاب الکمبیوتر، أو الدردشة على الإنترنت، أو المواعدة، أو الأحداث التافهة التی تحدث فی المدرسة، أو الغش فی الامتحانات، أو خطط عطلة نهایة الأسبوع، أو الملابس، أو مباریات کرة القدم. وفی استطلاعات الرأی التی تجریها المجلات وتطلب فیها من المراهقین أن یرتبوا "أعظم الأهداف الجدیرة بالسعی لتحقیقها"، یأتی على رأس القائمة التشبه بعارضة أزیاء مشهورة أو العزف على الجیتار مثل عازف جیتار فی فرقة مشهورة.

ونظرا لانجراف الشباب مع التیار السائد، فهم لا یفکرون مطلقا فی توسیع آفاقهم. فمثلا، لا یفکرون حتى فی تحسین مهاراتهم فی التخاطب، لأنهم ببساطة لیست لدیهم أدنى فکرة عن التحدث إلى الناس أو التأثیر علیهم. وبالإضافة إلى ذلک، فإنهم لا یقرأون. فالشخص الذی لدیه غایة ووجهة نظر عن العالم یقرأ لیثری معلوماته ولیتعرف أیضا على وجهات النظر المعارضة. وتتمثل الغایة من ذلک فی الارتقاء بفهم الأیدیولوجیات التی من المرجح أن تتعارض مع أفکار الشخص وتحدید نقاط الضعف فی کل منها. ولکن من المؤکد أن وجود أفکار معینة لن یعنی أی شیء بالنسبة لشخص لیست لدیه غایة أو رؤیة للعالم. وعلاوة على ذلک، لا یدرک هؤلاء الناس حتى الأفکار الحالیة ووجهات نظر الأشخاص الآخرین الموجودین فی العالم. وفی العدید من مجتمعات الیوم، یعانی الناس من نقص خطیر فی الاهتمام بقراءة الکتب والصحف فی حین یتزاید الطلب على الصحف الصفراء، وأعمدة النمیمة فی الصحف والمجلات، والبرامج التلیفزیونیة. وعلى الرغم من تمتع غالبیة الناس بقدر کبیر من وقت الفراغ، فإنهم یمیلون إلى قضاء أیامهم أمام أجهزة التلیفزیون وهم یشاهدون المسلسلات والبرامج التی لا تضیف شیئا لملکاتهم العقلیة، وهو ما یعتبر دلیلا واضحا على انعدام الغایة والانحطاط الفکری.

ویشکل انعدام الغایة فی الحیاة والغفلة عن الجوانب الأخرى للوجود تهدیدا للإنسانیة. ومع ذلک، وبالإضافة إلى ما سبق، فإن غالبیة الناس الذین یتخذون موقفا معینا فی الحیاة یؤیدون آراء تفتقر إلى القیم الحقیقیة وتضر بالإنسانیة، وهذا هو التهدید الحقیقی. ویرجع السبب فی ذلک إلى أن أصحاب الأفکار الخطیرة ومؤیدیها یجدون آذانا صاغیة لدى الجماهیر التی تفتقر تماما للملکات العقلیة التی تستطیع من خلالها أن تدرک الخطر، ومن ثم تتقبل أی افتراض مسبق دون أن تخضعه للتدقیق المستقل.

ونتیجة لهذه الظروف، لا یواجه أصحاب الأفکار الخطیرة أی مقاومة تثنیهم عن محاولاتهم لجذب الأنصار؛ والمؤمنین بالمبادئ الفوضویة؛ والإرهابیین، الذین یکنون عداوة راسخة لبلدانهم وشعوبهم. فمثلا، فی کافیتیریا الکلیة، حیث یغرسون آراءهم بشکل هدام لیحققوا غرضهم، سنجد أن المراهق الخامل یشاهد الشباب المجاورین له مباشرة وهم یخضعون لعملیة تلقین دون أن یفهم ما یدور حوله. ولا یدرک على الإطلاق أن هؤلاء الشباب سرعان ما سیبدأون فی التصرف تحت تأثیر الفوضویین والإرهابیین ویصبحون مجرمین عدیمی الرحمة یمکنهم بسهولة أن یضعوا أیدیهم على الأسلحة لیستخدموها ضد الشرطة، والجنود، والأبریاء من أبناء وطنهم. وحتى إذا أدرک المراهق هذا التهدید، فسیظل غیر مبال بالخطر. وعلى أی حال، فإن هذا الشخص لیس لدیه ما یکفی من الإدراک أو الإحساس بالمسؤولیة لیمکنه من معالجة الموقف بحکمة.

وفی إحدى الآیات، یشیر الله سبحانه وتعالى إلى انعدام الغایة لدى الناس، لذا: "ذَرْهُمْ یَأْکُلُواْ وَیَتَمَتَّعُواْ وَیُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ." (سورة الحجر: 3)

ویلاحظ الشخص الیقظ أن رد فعل جماعات معینة تجاه أی سیاسة جدیدة یتم اتباعها فی الجامعات یثبت فی الغالب أن ضرره أکثر من نفعه. وینتج ذلک عن موقف الجماعة، لأن الجماعة لا تدافع عن الصواب والخیر. ومن ناحیة أخرى، ستجد مجموعة أخرى تفضل التزام الصمت وتکتفی بتجاهل هذه الأحداث بدلا من دعوة الناس إلى السلوک القویم، ونصحهم بالحفاظ على ولائهم لدولهم والابتعاد عن التمرد. وفی غضون ذلک، تظهر جماعات أخرى بحقدها وعدائها وتمشی فی مسیرات وتحمل الشعارات، والأحجار، والعصی لتکشف عن نوع آخر من الاضطهاد والإرهاب. ومع ذلک، لم تسفر جهودهم عن أی فائدة؛ ذلک لأنهم لا یؤیدون القیم التی أوصانا بها الله سبحانه وتعالى، بل یمارسون کل أنواع السلوکیات التی لا تتماشى مع القرآن. وفی إحدى آیاته جل جلاله، یصف الله جهود الکفار فی هذا العالم بأنها تضیع سدى:

"مَثَلُ الَّذِینَ کَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ کَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّیحُ فِی یَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ یَقْدِرُونَ مِمَّا کَسَبُواْ عَلَى شَیْءٍ ذَلِکَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِیدُ." (سورة إبراهیم: 18)

وتوجد بلا شک سبل تستطیع البشریة من خلالها أن تتجنب مثل هذا الوضع، وتتمثل هذه السبل فی: التأکد من عدم تحول البشر إلى أشخاص لا یهتمون إلا بعیش حیاتهم وسد احتیاجاتهم. ولتحقیق هذا الغرض، یجب أن یشجَّع هؤلاء الأشخاص على أن یصبحوا أفرادا یسعون إلى خدمة غیرهم من الناس ومعالجة لا مشکلاتهم أو مشکلات بلدانهم فحسب، بل مشکلات العالم أیضا. ویبین الدین الذی اختاره الله سبحانه وتعالى للناس وأظهره لهم فی القرآن الکریم هذا المقصد الأساسی:

"فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنِیفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لَا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لَا یَعْلَمُونَ." (سورة الروم: 30)

لقد شرع الله، خالق الإنسان، الدین لیناسب الإنسان إلى أقصى الحدود ویضمن له أقصى درجات السلام والأمن. ومن ثم، لا یمکن لأی فلسفة أو أیدیولوجیة من أی نوع کان، باستثناء الدین، أن توفر الکمال والسعادة التی یبحث عنها الناس. ولهذا السبب، یجب أن نوضح لأنصار الأفکار الخاطئة سبب خطأ أفکارهم، کما یجب أیضا أن نقدم لهم الأدلة والإرشادات ذات الصلة التی تجعلهم یتبنون الأفکار الصحیحة بدلا من الأفکار الخاطئة.

ومن الضروری أن نتحدث مع الأشخاص عدیمی الهدف والخاملین وأولئک الذین یتعلقون تعلقا أعمى بالأفکار الخاطئة عن القرآن. وعندئذ فقط، سیتمکنون من إدراک وفهم حقیقة أن هذا العالم قد خلق لغایة مهمة. وفی القرآن الکریم، یخبرنا الله بغایته من خلق الإنسان: "وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا لیعبدونِ". (سورة الذاریات: 56).

کلنا سیموت فی یوم من الأیام. عندئذ ستبدأ حیاتنا الحقیقیة الخالدة. ویکمن الهدف من حیاتنا الفانیة فی أن یکافح الإنسان کی یصبح شخصا یرضى عنه الله ویستضیفه فی جنته. ومن خلال سلوک کل إنسان، ومثله العلیا، ومعتقداته سیتحدد ما إذا کان سیقضی حیاة الآخرة الأبدیة فی النار أم فی الجنة. ولهذا السبب، فإن أولئک الذین یقضون وقتهم بشکل غیر ذکی فی وظائف عدیمة الجدوى والقیمة، ویکرسون حیاتهم لهذه الوظائف، ویتصرفون وکأن وجودهم على الأرض لا غایة منه، ینبغی أن یتم تحذیرهم وإیقاظهم بشکل عاجل من الغفلة التی یعیشون فیها.

وإذا أدرکنا أن الغایة من وجودنا فی هذا العالم هی کسب رضا الله سبحانه وتعالى، وتأییده، وجنته، لا یمکن أن نظل غیر مبالین أو متبلدی المشاعر تجاه أی حدث یقع حولنا. ذلک أننا نعلم أن کل حدث إنما هو فرصة لکسب رضا الله، ومن ثم سنتصرف دائما بناء على ذلک. وسنشعر بوخز الضمیر کلما شهدنا ظلما أو اضطهادا یحدث فی الجوار أو فی العالم. فمثلا، سنشعر بالمسؤولیة تجاه کل غلام شرید یعیش فی ظروف صعبة ویضطر لقضاء حیاته على أرصفة الشوارع فی الشتاء البارد. ولکی نلتزم بأمر الله جل جلاله الوارد فی الآیة التالیة: "فأمَّا الیتیمَ فلا تقهرْ، وأمَّا السائلَ فلا تنهرْ" (سورة الضحى: 9-10)، سنعامل هؤلاء الغلمان بلطف. وسنکافح لإیجاد طریقة ننقذهم بها من الظروف غیر المواتیة التی یعیشون فیها. ولکننا ندرک أن هؤلاء الأطفال لا یمکن أن یتم إنقاذهم بجهودنا أو بجهود الأشخاص القلیلین غیرنا الذین یتصرفون بما یتماشى مع القرآن. ولهذا السبب، سنکافح من أجل نشر قیم القرآن والسنة بین الناس.

انعدام الغایة هو السبب فی الأنانیة

إن انعدام الغایة یجعل الناس، والمجتمعات على حد سواء، أنانیین وغیر مبالین. إذ یمیلون للاهتمام بشؤونهم فقط دون إظهار أی رد فعل أو فی اهتمام بالأحداث التی تقع حولهم. ذلک أن الشخص الذی یتمثل هدفه الوحید فی أن یعیش حیاته فی خضم کل الأحداث التی تقع حوله، لن یلاحظ إلا الأحداث التی ترتبط بحیاته ولن یبالی بأی شیء آخر. فمثلا، فی حال اندلاع حرب أهلیة فی أحد البلدان التی یتاجر معها هذا الشخص، فإنه لن یهتم إلا بالأموال التی سیخسرها. ولن یفکر قط فی الأشخاص الذین ذُبحوا، وفی الأطفال الذی قُتلوا بوحشیة، وفی الحیاة المخیفة والمحزنة التی یعیشها الناس فی ذلک البلد. ولن تطرأ هذه الصور المؤلمة على ذهنه قط. ونظرا لأن اهتمامه لا ینصب إلا على تعقب أمواله، فلن یفکر قط فی مساعدة هؤلاء الناس بطریقة أو بأخرى. ومع ذلک، ما هذا إلا مثال واحد من أمثلة اللامبالاة التی یراها غالبیة الناس أمرا معقولا، ویعتبرونها أمرا مسلما به.

"إِلَّا الْمُصَلِّینَ. الَّذِینَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُون. وَالَّذِینَ فِی أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ. لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَالَّذِینَ یُصَدِّقُونَ بِیَوْمِ الدِّینِ. وَالَّذِینَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ." (سورة المعارج: 22-27)

وفی کل یوم تقریبا، تطالعنا الصحف والتلیفزیون بتغطیة شاملة لقصص أناس فی جمیع أرجاء العالم یتعرضون لقدر لا یُحتمل من المصاعب والعنف. وتعتبر الفوضى الناشئة عن عدم الالتزام بقیم القرآن والسنة، بالإضافة إلى الکفر، هی السبب فی غالبیة هذه المحن. وسواء کان ذلک فی فلسطین، أو إندونیسیا، أو کوسوفا، أو الشیشان، أو أی مکان آخر فی العالم، سترى صورا لأناس یُسحبون على الأرض أو یُرکلون أمام أعین أطفالهم بسبب حفنة من التراب. وعلى نحو مشابه، ألِف الجمیع مشاهدة الأطفال الصغار وهم یقذفون الأحجار بعنف دفاعا عن أنفسهم. ومع ذلک، وعلى الرغم من مشاهدة هذه المناظر الفظیعة، ما زال الناس قادرین على أن یخلدوا للنوم وأن یمارسوا حیاتهم بشکل اعتیادی لأنهم لم یصابوا شخصیا بأی أذى. وبما أن هؤلاء الناس لم یعتادوا التفکیر على نطاق "کبیر" ویفتقرون أیضا إلى القیم السامیة والضمائر، فإن مثل هذه القسوة - ببساطة - لا تحرک مشاعرهم.

وإذا تخیل المرء نفسه مکان المضطهدین، سیتبین لنا بالتأکید کیف أن هؤلاء الناس تخلَّوا تماما عن ضمائرهم تجاه هذه الأحداث المحزنة. ماذا سیحدث إذا وُضع أحد هؤلاء الناس فی بیئة یُقتل فیها الأبریاء، وتتعرض فیها زوجاتهم، وأطفالهم، وإخوانهم، وآباؤهم وأمهاتهم للمجاعة والمعاملة الوحشیة؟... ماذا سیحدث إذا تعرض للفقر الشدید؟... ماذا سیحدث إذا لم یکن لدیه المال أو الوسائل الضروریة لیؤمن العنایة الطبیة لطفله المریض؟... ماذا سیحدث إذا طُرد من وطنه دون أی سبب واضح؟... ومن جهة أخرى، ماذا سیعتقد إذا قابل شخصا لم یعان من کل هذه المحن، ولم یکن لدیه هم سوى المال الذی یمکن أن یجنیه، وکان فکره یتجسد ببساطة فیما یلی: "هل أنا الذی یجب علیه أن ینقذ هؤلاء الناس؟" ألن یعتقد أن هذا الشخص بلا ضمیر، وغیر مبال، وقاس؟

ومع ذلک، لیس من الضروری أن تعانی من الاضطهاد کی تصبح شخصا ذا ضمیر حی یراعی مشاعر الآخرین وحقوقهم. إذ یکفیک أن تنظر إلى محنة الناس وتفکر فیها فی إطار قیم القرآن. ولکن، کلما ابتعد الناس عن القرآن، ازداد إحساس ضمائرهم تبلدا. ویروی لنا الله سبحانه وتعالى فی الآیات التالیة کیف یتصرف الأشخاص غیر المتدینین بأنانیة، وتبلد، وقسوة:

"إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَیْرُ مَنُوعًا." (سورة المعارج: 19-21)

وفی الآیات التالیة، یبین لنا الله أن هناک أناسا لیسوا "أنانیین" یهتمون بالمحتاجین:

"إِلَّا الْمُصَلِّینَ. الَّذِینَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ. وَالَّذِینَ فِی أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ. لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَالَّذِینَ یُصَدِّقُونَ بِیَوْمِ الدِّینِ. وَالَّذِینَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ." (سورة المعارج: 22-27)

وکما أوضح الله جل جلاله، فإن هناک أناسا یخافون الله ویتحملون مسؤولیة المعدمین. ویبین لنا الله أن هناک طریقین أمام الناس فی هذه الحیاة، أحدهما هو طریق الخیر والآخر هو طریق الشر. وقد قال جل جلاله فی القرآن الکریم:

"وَهَدَیْنَاهُ النَّجْدَیْنِ. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاکَ مَا الْعَقَبَةُ. فَکُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ فِی یَوْمٍ ذِی مَسْغَبَةٍ. یَتِیمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْکِینًا ذَا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ کَانَ مِنَ الَّذِینَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُوْلَئِکَ أَصْحَابُ الْمَیْمَنَةِ. وَالَّذِینَ کَفَرُوا بِآیَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. عَلَیْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ." (سورة البلد: 10-20)


تذکر أن الاضطهاد، والظلم، والطغیان، والعذاب المنتشر الیوم فی جمیع أرجاء العالم هی قضایا یجب على کل ذی ضمیر حی أن یبحث لها عن حل. ومع ذلک، فالأرجح أن الشخص الذی یوافق على الاضطهاد سیتجاهل کل هذه النداءات.

إن طریق الخیر المبین فی الآیة المذکورة أعلاه واضح جدا. لذا، من غیر المحتمل بالنسبة لشخص ذی ضمیر حی، یسعى لکسب رضا الله ورحمته وجنته، أن یظل متبلد المشاعر تجاه الممارسات الظالمة فی العالم، أو تجاه المعدمین والمحتاجین، وألا یفکر فی مستقبلهم.

"فَکُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ فِی یَوْمٍ ذِی مَسْغَبَةٍ. یَتِیمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْکِینًا ذَا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ کَانَ مِنَ الَّذِینَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ." (سورة البلد: 13-17)

ویجب أن یتذکر کل شخص بداخله ضمیر حی أن الفوضى، والاضطهاد، والظلم المنتشر فی مختلف أرجاء العالم الیوم هو السبب الذی جعل ملایین الأشخاص ینجرفون فی موجة من الشقاء والرعب. ویقول البعض: "هناک أشخاص معینون مسؤولون عن هذا الشقاء، فهل أتحمل أنا مسؤولیة ذلک؟" ولکن هذه کلمات لا یمکن أن تصدر عن شخص ذی ضمیر حی. وفی النهایة، سوف یأخذ الله فی الآخرة کل الأشخاص الذین وهبهم إدراکا وصحة سلیمة لیحاسبهم عن هؤلاء الفقراء. ولا شک فی أن أولئک الذین یتبنون أیدیولوجیات تضع أساسا ملائما لازدهار العنف والوحشیة تجاه الإنسانیة یظلون – سواء رضوا أم أبوا – فی نفس الدرجة مع الظالمین. وینطبق ذات الشیء أیضا على أولئک الذین یتجنبون مواجهة هذه الأیدیولوجیات. وسیؤدی عدم الالتزام بمبادئ الدین حتما إلى ظهور نمط من المجتمعات یکوِّنه أناس غیر مسؤولین وغافلون یفترضون أنهم سیغادرون هذه الدنیا دون أن یحاسبهم أی أحد. وهؤلاء الناس هم فی الواقع أولئک الذین یهتمون أولا، أکثر من أی شخص آخر، بمصالحهم الشخصیة، ویضعون خططا لبقائهم على قید الحیاة دون اکتراث بغیرهم.

وفی الواقع، یکمن فی أساس نظریة التطور، التی "یفترض" أنها تقدم دعما علمیا للفلسفة المادیة والمذهب المادی اللذین یشکلان أساس الکفر، طموح لتکوین نموذج من البشر غیر مسؤول وغافل ومجرد من جمیع القیم الروحیة. إذ یشعر إنسان هذا النموذج أنه غیر ملزم بتبریر تصرفاته لأی أحد. ذلک أن الإنسان، وفقا لنظریة التطور، هو حیوان متقدم تطور عن القرد وتکوّن بالصدفة. ولا یمکن بأی حال من الأحوال أن یؤدی النظر إلى الإنسان بوصفه کائنا بدائیا إلى التضحیة من أجل الآخرین، أو إنقاذ إنسان یعانی، أو الشعور بالرحمة والشفقة تجاهه. وعلاوة على ذلک، تعتبر الحیاة، وفقا لنظریة التطور، مکانا للصراع لا یحق لغیر القوی أن یعیش فیه. ومن ناحیة أخرى، یُکتب على الفقراء والضعفاء الهلاک. لقد ظل الناس فی جمیع أنحاء العالم یُلَقَّنون هذه الآراء لسنوات من المدارس، والتلیفزیون، والصحف، والناس المحیطین بهم. وتتمثل السبیل الوحیدة للتخلص من هذا التلقین ولترسیخ أواصر الحب، والرحمة، والتعاون، والتکافل بین الناس فی إبلاغ الناس بقیم القرآن والسنة وتوضیح الخسائر التی سیجلبها علیهم الکفر فی کل من الدنیا والآخرة. وهذا واجب مهم على کل المؤمنین، لأن الله سبحانه وتعالى یعِد أولئک الذین یتحملون هذه المسؤولیة المهمة والمشرفة بعاقبة حسنة.

"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنکُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُم فِی الْأَرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضَى لَهُمْ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا یَعْبُدُونَنِی لَا یُشْرِکُونَ بِی شَیْئًا وَمَن کَفَرَ بَعْدَ ذَلِکَ فَأُوْلَئِکَ هُمُ الْفَاسِقُونَ." (سورة النور: 55)

 

مقدمة

مقدمة

"وَمَا لَکُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْیَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ وَلِیًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ نَصِیرًا."؟ (سورة النساء: 75)

یندرج غالبیة الناس حول العالم تحت فئة المضطهدین. ذلک أنهم یتعرضون للتعذیب، وسفک الدماء، ویعیشون مشردین فی فقر مدقع، کما أنهم مجبرون على العیش دون حمایة من قوى الطبیعة، ویواجهون المرض دون الحصول على عنایة طبیة مناسبة. ویوجد أولئک الذین لا یستطیعون حتى أن یشتروا رغیف خبز. کما یوجد الشیوخ الذین یواجهون الإهمال، والهجر، والحرمان من العنایة الطبیة. ویوجد أیضا أولئک الذی یعانون من التمییز، والترحیل من منازلهم وأراضیهم بل وحتى المذابح لمجرد أنهم ینتمون لعرق، أو لغة، أو جنس، أو قبیلة معینة. أما بالنسبة للأطفال الأبریاء الذین لا یجدون من یحمیهم، والذین یعانون من سوء التغذیة، والذین لا حول لهم ولا قوة فیضطرون للعمل أو التسول من أجل الحصول على المال.

ویعیش عدد لا حصر له من الناس وهم خائفون على حیاتهم وقلقون من قدرتهم على البقاء على قید الحیاة وسط عالم، یوجد فیه أیضا إلى جانب الفقر والاضطهاد، قدر هائل من التبذیر، والامتیازات، والثراء. ویمر أولئک الذین ینعمون "بحیاة کریمة" بالمتشردین، ویرون صورا ویشاهدون مناظر فی التلیفزیون لمن هم أقل منهم حظا. وفی بعض الأحیان ینتابهم شعور بالشفقة للحظة خاطفة، ولکنهم سرعان ما یغیرون قناة التلیفزیون، ویطردون الصورة من ذهنهم، وخلال فترة قصیرة یمحون تماما تلک الوخزة العابرة التی أثرت فی ضمائرهم.

إن کثیرا ممن ینعمون بالرفاهیة وسبل الراحة لا یفکرون قط فی بذل جهد لإنقاذ من هم أقل حظا منهم من الظروف التی یعیشون فیها. فهم یعتقدون أن إنقاذ هؤلاء الناس لیس من واجبهم، لأن هناک کثیرین یفوقونهم ثراء وقوة ومکانة بإمکانهم أن یساعدوا من هم أقل حظا.

ومع ذلک، لن یکفی الرخاء والقوة وحدهما لإنقاذ الأقل حظا وتحویل هذا العالم إلى مکان خیر تسوده العدالة، والسلام، والثقة، والرفاهیة. وعلى الرغم من انتشار البلدان المتقدمة حول العالم، فما زال هناک الکثیر من البلدان أیضا، مثل إثیوبیا، التی لا یزال الناس یموتون فیها یومیا بسبب المجاعة. ومن الواضح أن ثراء بعض الأمم وقوتها لا یکفیان فی حد ذاتهما لحل آلام القحط، والفقر، والحروب الأهلیة.

لا شک فی أن أصحاب الضمائر الحیة هم وحدهم القادرون على توجیه الموارد والقوى لما فیه خیر الفقراء والیائسین. والسبیل الوحیدة لصحوة الضمائر هی الإیمان. ذلک أن المؤمنین وحدهم هم الذین یعیشون دائما وفقا لما تملیه علیهم ضمائرهم.

وأخیرا، لا یوجد سوى حل واحد للظلم، والفوضى، والإرهاب، والمذابح، والجوع، والفقر، والاضطهاد المنتشر فی العالم؛ وهذا الحل هو: خُلق القرآن وقیمه.

لقد نشأت تلک الظروف السیئة فی المقام الأول بسبب الکراهیة، والحقد، والأنانیة، واللامبالاة، والقسوة؛ لذلک ینبغی أن تمُحى بالحب، والشفقة، والرحمة، والکرم، والإیثار، ورقة الإحساس، والتسامح، والفطرة السلیمة، والحکمة. ولا تتوافر سمات الشفقة هذه إلا فی أولئک الذین یعیشون حیاتهم بأکملها وفقا للخلق التی تعلموها من القرآن الکریم، الذی یعتبر مرشدنا المباشر من خالقنا جل جلاله. ویشیر الله سبحانه وتعالى فی إحدى آیات الذکر الحکیم إلى قدرة القرآن على إخراج البشریة من الظلمات إلى النور.

"... قَدْ جَاءکُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَکِتَابٌ مُّبِینٌ. یَهْدِی بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَیُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَیَهْدِیهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِیمٍ." (سورة المائدة: 15-16)

وفی آیة أخرى، یبین الله سبحانه وتعالى أن الفساد والفوضى سیحلان بکل شیء إذا ما جاء الحق موافقا لأهواء البشر:

"وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِیهِنَّ بَلْ أَتَیْنَاهُم بِذِکْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِکْرِهِم مُّعْرِضُونَ." (سورة المؤمنون: 71)

أثناء قراءتک لهذه الآیة، سیکون ملایین الناس فی معاناة کبیرة اما من البرد والجوع، أو لمواجهتهم خطر الترحیل من أوطانهم. ولهذا السبب، یجب أن یفکر أصحاب الضمائر الحیة فی هذا الأمر، ویتخذوا إجراءات لحل هذه المشکلات وکأنهم هم أنفسهم أو أحبابهم الذین یواجهونها. کما یجب أن نتصرف على الصعیدین الروحی والمادی للتقلیل من المعاناة والاضطهاد. وفی إحدى آیات الذکر الحکیم، یأمر الله أصحاب الضمائر الحیة والمؤمنین بتحمل هذه المسؤولیة:

"وَمَا لَکُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْیَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ وَلِیًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنکَ نَصِیرًا."؟ (سورة النساء: 75)

وعندما نتدبر الأوامر القرآنیة، تتضح لنا ماهیة التزاماتنا. ویتمثل أهم شیء بالنسبة للمسلمین فی أن یبدؤوا أولا النضال فی المیدان العقلی حتى تتغلب خلق القرآن والسنة وقیمها على قیم الکفر. وتتمثل السبیل الوحیدة لخلاص الضعفاء، والبائسین، والشریدین، والمعدمین فی تطبیق الإرشادات القرآنیة الموجهة إلى البشریة جمعاء. لذا، فإن من واجبنا أن ننشر کلمة الله ونبلغ رسالته، ویشکل هذا مکونا أساسیا من مکونات العبادة بالنسبة لجمیع المسلمین.

ویجب أن نذکّر بأن أولئک الذین لا یتبعون ما تملیه علیهم ضمائرهم، ولا یبالون بمعاناة الآخرین، وینفقون ثرواتهم على أشیاء تافهة عدیمة الجدوى، ولا یبدون اهتماما بالأیتام، وینظرون إلى النساء والأطفال والشیوخ المضطهدین بقدر من اللامبالاة، ولا یسعدون إلا عندما یسود العالم الفسوق والقبح، سوف یُسألون لا محالة عن تلک الأعمال فی الآخرة.

"أَرَأَیْتَ الَّذِی یُکَذِّبُ بِالدِّینِ. فَذَلِکَ الَّذِی یَدُعُّ الْیَتِیمَ. وَلَا یَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْکِینِ. فَوَیْلٌ لِّلْمُصَلِّینَ. الَّذِینَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِینَ هُمْ یُرَاؤُونَ. وَیَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ." (سورة الماعون: 1-7)