الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

کل شیء من أجل الصغار

کل شیء من أجل الصغار

غالبا ما یکون الصّغار محتاجین إلى الرّعایة والاهتمام وهم یخطون خطواتهم الأولى فی الحیاة, وعموما یکون الصّغار إمّا عمیاناً أو عراةً أو لا یملکون مهاراتٍ کافیةً فی الصّید, لذا وجب الاعتناء بهم وتوفیر الرّعایة لهم من قبل الأبوین أو القطیع إلى حین النّضوج وإلاّ فإنّهم قد یهلکوا نتیجة الجوع والبرد. ولکنّ العنایة الإلهیة قضت بأن یعتنی الکبار بالصّغار فی صور رائعة من الفداء والتّضحیة .

تُصبح الکائنات الحیّة خطیرة وحسّاسة جدّا فی حالة تعرّض صغارها لأیّ خطر، و ردّ فعل هذه الکائنات الحیة عند شعورها بخطر هو الفرار إلى أماکن آمنة, و إذا تعذّر علیها النّأی بنفسها عن الخطر تُصبح هذه الکائنات متوحّشة و حادّة تجاه الخطر حفاظا على حیاة الصّغار بشکل أساسیّ, فالطّیور والخفافیش (الوطاویط) على سبیل المثال لا تتوانـى فی مهاجمة الباحثین یأخذون صغارها من الأعشاش لغرض البحث والدّراسة (79), و کذلک الحمیر الوحشیة أو الزیبرا التی تعیش على شکل مجامیع. و عندما یتهدّد الخطر حیوانات مثل ابن آوى تقوم الجموعة بتوزیع الأدوار فیما بینها لحمایة الصّغار والذّود عنهم بکل شجاعة و إقدام. و تحمی الزّرافة صغیرها تحت بطنها وتهاجم الخطر بساقیها الأمامیّتین أمّا الوعول والظباء فتتمیّز بحساسیّة مفرطة وتهرب عند إحساسها بالخطر, و إذا کان هناک صغیر ینبغی الذّود عنه فلا تتردّد فی الهجوم مستخدمة أظلافها الحادّة.

أمّا اللّبائن الأصغر حجما والأضعف جسمًا فتقوم بإخفاء صغارها فی مکان آمن و عندما تحُاصر تصبح متوحشّةً ومتوثبّة فی وجه العدو الذی یجابهها. فالأرنب على سبیل المثال مع فرط حساسیّتة و ضعفه یتحمّل المشقّة و الصّعاب من أجل حمایة صغاره, فهو یسرع إلى عشّه أو وکره ویعمد إلى رکل عدوّه بأرجله الخلفیّة، و یکون هذا السّلوک أحیانا کافیا لإبعاد الحیوانات المفترسة (80). وتتمیّز الغزلان بکونها تعمد إلى الجری وراء صغارها عند اقتراب الخطر منها, فالحیوانات المفترسة غالبا ما تهاجم من الخلف لذلک فإن الغزال الأمّ تکون بذلک أقرب ما یکون من صغارها وتبعدهم عن مواطن الخطر, وفی حالة اقتراب الخطر تجتهد فی صرف نظر الحیوان المفترس بهدف حمایة صغیرها (81).

وهناک بعض اللّبائن تستخدم ألوان أجسامها للتّمویه وسیلة لدرء الخطر إلاّ أنّ صغارها تحتاج إلى توجیه وتدریب على وسیلة الاختفاء هذه، ومثال على ذلک حیوان الیحمور حیث تقوم الأنثى بالاستفادة من لون صغیرها فی خطّة للتنکّر بهدف الإفلات من الأعداء, فهی تخفی صغیرها بین شجیرات وتجعله ساکنا لا یتحرک، ویکون جلد الصّغیر بنّی اللّون مغطًّى ببقع بیضاء, وهذه التّرکیبة اللّونیة مع أشعّة الشّمس المنعکسة تکون خیر وسیلة للانسجام مع لون الشّجیرات التی تحیط به. و هذه الطریقة فی التخفّی تکون کافیةً لخداع الحیوانات المفترسة التی تمرّ بالقرب منه، أمّا الأمّ فتبقى على بعد مسافةٍ قصیرةٍ تراقب ما یحدث دون أن تثیر انتباه الأعداء، غیر أنّها تقترب أحیانًا من صغیرها لکی ترضعه. وقبل ذهابها إلى الصیّد تجبر صغیرها على الجلوس بواسطة منخرها، ویکون الصّغیر عادة متیقظا و حذرًا, و عندما یسمع صوتا غیر عادیّ سرعان ما یعود إلى الجلوس و الاختفاء خوفا من أن یکون مصدر خطرٍ بالنّسبة إلیه. و یظلّ الولید على هذا الشّکل حتّى یصبح قادرًا على الوقوف على قدمیه والتّنقّل مع أمّه (82).

و ثمّة حیوانات تُظهر ردّ فعلٍ عنیف تجاه العدوّ المرتقب بل وتوجیه ضرباتٍ بهدف تخویفه و إبعاده مثل البوم وبعض أنواع الطّیور التی تسلک سلوکا استعراضیّا یتمثّل فی مدّ جناحیه فیبدو أکبر من حجمه الطّبیعی. وهناک طیور تقلّد فحیح الأفاعی لإرهاب الأعداء مثل طائر ذو الرأس الأسود mari ba?tankara الذی یصدر أصواتا صاخبة ویرفرف بجناحیه داخل عشّه, ویبدوا الأمر مخیفا داخل العشّ المظلم وسرعان ما یلوذ العدوّ بالفرار أمام هذه الضّوضاء والحرکة (83).

والظّاهرة الملحوظة لدى الطّیور التی تعیش على شکل تجمّعات هی العنایة التی یولیها الکبار للصّغار وحرصهم على حمایتها وخصوصا من خطر طیور "النّورس" إذ ینطلق فرد أو اثنان بالغان و یحومان حول مکان تجمّع الأسراب لترهیب النّوارس وإبعادها عن الصّغار. و مهمّة الحمایة هذه یتمّ تنفیذها بالتّناوب بین الطّیور البالغة و کلّ من ینهی مهمّته یذهب إلى مکان آخر بعید تتوفّر فیه المیاه للصّید والتّغذیة وجمع الطّاقة للعودة مرّة أخرى (84).

و تتمیّز الوُعول بروح التّضحیة من أجل صغارها خصوصا عندما تشعر بخطر یداهم صغیرها، فهی تقوم بحرکة غایة فی الغرابة إذ تلقی بنفسها أمام هذا الحیوان المفترس لتلهیه عن افتراس ولدها الصغیر. وهذا الأسلوب یمکن ملاحظته فی سلوک العدید من الحیوانات مثل أنثى النّمر التی تجتهد فی القیام بما فی وسعها حتّى تصرف انتباه الأعداء المتربّصین بصغارها. أمّا الرّاکون فأوّل ما یفعله عند إحساسه بالخطر الدّاهم هو أن یأخذ صغاره إلى قمّة أقرب شجرة ثمّ یسرع نازلا إلى الحیوانات المفترسة ویکون وجها لوجه معها, ومن ثمّ یبدأ بالفرار إلى ناحیة بعیدة عن مکان الصّغار ویستمر فی الابتعاد حتّى یطمئنّ إلى زوال الخطر و عندئذ یتسلل خلسةً عائداً إلى صغاره. وهذه المحاولات لا یُکتب لها النّجاح دائماً لأنّ الصّغار قد ینجون من خطر المفترسین إلاّ أنّ الأبوین قد یتعرّضان للموت و الهلاک (85).

وهناک طیور تقوم بتمثیل دور الجریح لصرف نظر العدوّ المفترس عن الفراخ الصّغیرة، فعند إحساس الأنثى باقتراب الحیوان المفترس تتسلّل بهدوء من العشّ ولماّ تصل إلى مکان وجود العدوّ تبدأ فی التخبّط و ضرب أحد جناحیها على الأرض و إصدار أصوات ملیئة بالاستغاثة وطلب النّجدة, بید أنّ هذه الأنثى تأخذ حذرها اللاّزم فهی تمثّل هذا الدّور على بعد مسافة ما من الحیوان المفترس, و یتوهّم أنّ الأنثى المستغیثة تعتبر غنیمة سهلةً ولکنّه بذهابه فی اتجاهها یکون قد ابتعد عن مکان وجود الفراخ الصّغار, ثمّ تنهی الأنثى تمثیلها وتهبّ طائرة مبتعدة عن الحیوان المفترس. إنّ هذا المشهد التّمثیلی یتمّ أداؤه بمهارة مقنعة للغایة، و کثیرًا ما تنطلی هذه الحیلة على القطط والکلاب والأفاعی وحتى على بعض أنواع الطّیور. أمّا الطّیور التی تبنی أعشاشها مع مستوى سطح الأرض فیُعتبرُ التمثیل أداة فعّالةً و ناجعةً فی حمایةِ فراخها من الأعداء المفترسین، فالبطّ على سبیل المثال یقوم بتمثیلیّة العاجز عن الطّیران من على الماء عند إحساسه بقدوم الحیوانات الخطرة, ویظلّ هکذا یضرب بجناحیه على سطح الماء مع إحتفاضه بمسافة أمان بینه وبین الحیوان المتربّص به، وعندما یطمئنّ بأنّ الحیوان المفترس قد ابتعد عن عشّ الفراخ یقطع مشهده التّمثیلیّ و یعود إلى عشّه. هذا السّیناریو الذی یتمّ تمثیله من قبل بعض أنواع الطّیور لم یجد التّفسیر الکافی و المقنع من قبل علماء الأحیاء (86).

هل باستطاعة الطّیر أن یعدّ مثل هذا السّیناریو؟ لاشکّ, ینبغی أن یکون على درجة عالیة من الذّکاء والنّباهة. إنّ هذا السّلوک قبل یقتضی وجود صفات مثل الذکاء و التّقلید و القابلیّة فضلا عن الشّجاعة المثیرة للإعجاب عندما یتصّدى للحیوان المفترس دفاعا عن الصغار, فهو یجعل من نفسه صیدًا مطارداً بدون أیّ تردّد أو خوف. والغریب فی الأمر أنّ هذه الطّیور لا تتعلّم هذا السّلوک من غیرها من الحیوانات (87) لأنّ هذا یتّسم بکونه مکتسبا بالولادة. والأمثلة التی أوردناها فی هذا العرض السّریع ما هی إلاّ غیض من فیض فی عالم الإحیاء لأنّ ملایین الأنواع من الکائنات الحیّة تختلف من حیث أسالیب الدّفاع عن النّفس وطرق الحمایة, ولکنّ النّتیجة المتأتّیة من هذه الأسالیب هی مبعث الغرابة فی هذا المجال, لأنّه یصعب أن نفرض أنّ الطّیر یضحّی بنفسه من أجل صغیره من منطلق سلوک عاقل منطقی. ویجب أن لا ننسى أنّنا هنا بصدد الحدیث عن مخلوقات غیر عاقلة ولا یمکن أن یتّصف تفکیرها غیر الموجود أصلا بالرّحمة والمودّة والرّأفة, والتّعلیق الوحید الوارد فی تفسیر هذه الأنماط السّلوکیة یتخلص فی کون الله سبحانه وتعالى هو الذی ألهم الکائنات الحیّة سلوکا ملؤه الرّحمة والتّضحیة لیضرب لنا الأمثال برحمته التی وسعت کل شیء.

الحشرات أیضا تحمی صغارها من المهالک

یعتبر عالم الأحیاء السّویدی "أدولف مودر" أوّل من اکتشف رعایة الأبوین للصّغار فی عالم الحشرات وذلک سنة1764 عندما کان یجری أبحاثه على حشرة "المدرع الأوروبی" فوجد أنّ الأنثى تجلس على بیضها دون أکل أو شرب وتصبح هذه الأنثى مقاتلة شرسة عندما یقترب الخطر من بیضها (88). وکان العلماء والباحثون فی تلک الفترة أو ما قبلها لا یقبلون فکرة رعایة الحشرات لصغارها، وسببُ ذلک یورده لنا البروفسور دوغلاس.و.تللانی " من جامعة دیلاور والذی یعمل أستاذا فی علم الحشرات ویؤمن بنظریة التطور کالآتی :

تجابه الحشرات مخاطر عدیدة أثناء دفاعها عن صغارها ویتساءل العلماء فی مجال الحشرات عن السرّ فی عدم انقراض هذه الخصلة (خصلة الدفاع والحمایة) أثناء عملیة التّطور، لأنّ وضع البیض بأعداد کبیرة أفضل استراتیجیاّ من اتباع وسیلة الدّفاع المحفوفة بالمخاطر و المهاک (89).

ویعلّق دوغلاسن.و.تللانی أحد دعاة التّطور على هذا التّساؤل المحیّر و یرى أنّه یجب أن تنقرض هذه المیزة حسب فرضیّات نظریة التّطور, ولکنّ الموجود والملاحظ فی الطّبیعة أنّها لا تزال موجودة و بصور عدیدة سواء فی عالم الحشرات أو غیرها ولیس دفاعا عن الصّغار فحسب بل عن الکبار أیضا. ونورد أیضا المثال الآتی عن التّضحیة فی سبیل الأحیاء الصغیرة وهو متعلّق بسلوک حشرة الدانتیلا التی تعیش فی المناطق الجنوبیّة الغربیّة من أمریکا وتتّخذ من بعض النّباتات وخاصة at?s?rgan مسکنا لها، وأنثى هذه الحشرة تسهر على حمایة بیضها والیرقات التی تخرج منها وتضحّی بنفسها فی سبیل ذلک. وألدّ أعداء هذه الیرقات هی حشرة "k?z" والتی تتمیّز بمقدمة فمها الشبیه بالمنقار ویکون صلبا وحادّا. وتلتقم هذه الحشرة الیرقات فی لقمة سائغة, ولا تملک حشرة "الدانتیلا" أیّ سلاح فعّال تجاه أعدائها سوى الضّرب بجناحیها وامتطاء ظهور خصومها لإزعاجهم وإبعادهم. وفی تلک الأثناء تنتهز الیرقات فرصة انشغال الأعداء بالصّراع مع الأمّ للهرب باقتفاء العرق الرئیسی للورقة النّباتیة التی یعیشون علیه و یتّخذون هذا العرق طریقا رئیسیّا للانتقال إلى ورقة أخرى طریّة وملتویة للاختفاء داخلها. و إذا استطاعت الأنثى أن تنجو بحیاتها فإنّها تتّبع طریق صغارها إلى الورقة التی اختفوا داخلها وتتولّى حراستهم ورعایتهم فی غصن تلک الورقة قاطعة الطّریق أمام الأعداء الذین قد یکونون تتبّعوها إلى تلک الورقة. وأحیانا تنجح هذه الحشرة فی طرد حشرات "k?z" ثمّ تمنع یرقاتها من الذّهاب إلى أیّة ورقة طریة أخرى اعتباطا وإنما تختار هی بنفسها الورقة الأکثر أمنا و اتخاذها ملجأ لهم. وغالبا ما تموت هذه الحشرات عند الدّفاع عن یرقاتها ولکنّها توفّر لهذه الیرقات امکانیة الهرب والاختفاء عن نظر الأعداء (90).

"العنکبوت الذئب" وحمله صغاره داخل کیس حریری

"العنکبوت الذئب" وحمله صغاره داخل کیس حریری

إنّ أنثى العنکبوت تقوم بوضع بیضها داخل شرنقة حریریّة على شکل کرة أو على شکل قرص, وتقوم بفرز هذه الشّرنقة لتکوین ملجئ آمن لبیضها فتقوم بلصق هذه الشّرنقة بمؤخرة بطنها وتظل هکذا أینما ذهبت و إذا حدث أن انفصلت عن جسمها تعود وتلصقها مرة أخرى. و عندما یفقّس هذا البیض عن عناکب صغیرة تظل داخل الشرنقة حتى أوان انشقاقها ثم تخرج إلى ظهر أمّها وتظل تحملهم أثناء حلّها و ترحالها. و بعض أنواع هذا الجنس من العنکبوت تکون أعداد صغاره کثیرة جدّا حتى أنّهم یشکّلون عبارة عن طبقة فوق طبقة على ظهر الأم, و هذه العناکب الصغیرة لا تتغذى فی هذه المرحلة.

وهناک نوع آخر یدعى بـ"عنکبوت الذئب المعجزة" و تقوم أنثى هذا العنکبوت عند حلول موسم فقس البیض فی شهر حزیران أو تموز بفصل الشّرنقة الحاویة على البیض ونسج مظلّة علیها ثمّ تکمن إلى جانبها تحرسها, وفی تلک الأثناء یکون البیض قد فقّس عن عناکب صغیرة غیر مکتملة النّمو وتبقى داخل المظلة, و عند اکتمال نموّها تخرج منها متفرّقة إلى نواحی شتّى (73).

لاشک أنّ هذا السّلوک المتّسم بالإخلاص والرّعایة والرأفة والصبر یثیر فی أذهاننا تساؤلات عدیدة.

اهتمام الحشرات بالبیض

إنّ المصاعب التی تواجه بعض أنواع الحشرات التی تعیش على سطح المیاه تعتبر معها الحیاة شبه مستحیلة لأن بیضها على درجة کبیرة من الضّعف تجاه التّیبّس, و إذا ترک على سطح الماء فإنّه سیتعرّض لهذا الخطر, أمّا إذا وضع تحت سطح الماء فإنّ الأجنة التی بداخلها سوف تهلک لانعدام الأکسیجین, لذا تتولى ذکورها عملیة تهوئة البیوت الموضوعة على سطح الماء و ترتیبها. وهناک حشرة مائیّة عملاقة تدعى ثوسیروس. تقوم أنثى هذه الحشرة بوضع البیض على غصن طاف على الماء وأمّا الذّکر فیغطس فی الماء ویخرج منه واثبا من فوق هذا الغصن کی تتساقط من جسمه قطیرات الماء على هذا البیض لترطیبه و حمایته من خطر باقی الحشرات. أمّا حشرة بیلوستوما العملاقة -وغالبا ما یمکن رؤیتها فی أحواض السّباحة- فتقوم الأنثى بلصق البیض على ظهر ذکر الحشرة و یتحتّم علیه السّباحة فی الماء لترطیبه وتهوئته، ویظلّ لعدة ساعات یحرّک أطرافه الخلفیّة والأمامیّة للأمام والخلف أو یظلّ ملتصقا بغصن طاف لترطیب وتهوئة هذا البیض.

أما الحشرات ذات الأجنحة الغمدیة وخصوصا من نوع "بلیدیوس" والبریّة من نوع " بمبیدیون" والتی تکثر فی المستنقعات من نوع " هتروسیروس" فتتمیّز بخاصیّة غریبة جدّا فی المحافظة على البیض من تأثیر المیاه التی تغمرها, فتقوم بسدّ فتحة شرانق البیض الضیقة عندما تغمرها المیاه و تفتح هذه الفتحة عند انحسار الماء عنها (75).

إنّ استخدام الحشرات لهذه الطّرق المتقدمة فی الحفاظ على سلامة البیض تنّم عن سلوک منطقی مستند إلى عقل مدبّر ممّا یقودنا إلى حقیقة الخلق مرة أخرى.

اهتمام النحل البری بصغاره الذین لن یراهم أبدا

هناک نوع من النّحل البرّی یدعى بـ"الحفّار" لأنّه یحفر فی الأرض حفرة خاصة بیرقته وتکون هذه الحفرة منحنیة بعض الشیء. وعملیّة الحفر بالنّسبة إلى هذه الحشرة غایة فی الصّعوبة, فهی تأخذ حفنة بفمها و تدفعها بأطرافها الأمامیّة للتخلص منها. وهناک خاصیة أخرى لهذا النّوع من النّحل وهی اتقانه للتّمویه فهو لا یترک أثرا أبدا على عملیة الحفر, ویتمثّل هذا التّمویه فی التقامه لکتل التّراب التی أزالها عند الحفر ویجعلها تحت فکه وینقلها جزءا جزءا إلى مکان بعید و یضع هذه الأجزاء مبعثرة منتشرة لا تجلب الانتباه. وعندما ینتهی الحفر و یصبح هناک مکان متّسع لحجم النّحلة تبدأ الأنثى بتکوین ملحق خاصّ لهذه الحفرة یکفی لاحتواء البیضة و مخزونها الغذائی. وعندما تنتهی من ذلک تقوم بسدّ هذه الحفرة مؤقتا وتبدأ رحلة طیران من أجل البحث عن الغذاء .

تتخصص أنواع هذا النحل فی اصطیاد أنواع من الحشرات مثل الجراد والیرقات والحشرات الطّنّانة, وطریقة اصطیاد هذا النّحل لفریسته مختلفة عن المعتاد لأنه عند اصطیاده للفریسة لا یقتلها بل یعمل تخدیرها بواسطة إبرته اللاّسعة ثم یحملها إلى ملجئه الآمن، وعند وصوله إلیه یضع بیتضه الوحیدة على هذه الفریسة المخدّرة التی تظل طازجة و هی تکفی مادّةً غذائیّةً للیرقة التی ستخرج من البیضة الوحیدة. وبعد أن توفّر الأمّ المکان والغذاء لصغیرها یکون من اللاّزم توفیر الحمایة له, فتجتهد فی سدّ مدخل الحفرة بالتّراب والحصى بکل إتقان و عنایة ثمّ تتناول قطعة حجر بفکها وتستخدمها بمثابة مطرقة لتسویة مدخل الحفرة، وفی النّهایة تقوم بتهذیب التّراب فی المدخل بواسطة سیقانها المشوّکة کی تکتمل عملیة التمویه. و هکذا تصبح الحفرة مخفیّة تماما إلاّ أنّ هذه الحشرة لا تکتفی بذلک بل تنشر عدة حفر وهمیة هنا وهناک بالقرب من الحفرة الأصلیّة للتّمویه أیضا. أمّا الغذاء الموجود فی الحفرة فیکفی لتغذیة الیرقة التی ستخرج من البیض وحتى اکتمال نموها لتصبح حشرة کاملة تستطیع الخروج من الحفرة إلى العالم الخارجی (77). إنّ الحیوان الصّغیر الذی سیخرج من البیضة یکون مجهولا دوما بالنّسبة إلى الأم ولکنّها تعدّ له مسکنا آمنا وغذاء کافیاً وتتحمّل لتحقیق ذلک صعوباتٍ جمّةً, وکلّ ذلک ضمن سلوک یتمّ بأعلى درجات التّضحیة والإخلاص والرّقّة.

ویتضح لنا من خلال هذا المثال أنّ هذه الحشرة الصّغیرة غیر العاقلة لا تستطیع أن تتصرّف من تلقاء نفسها هکذا إلاّ أن یکون ذلک بوحی توجیه من قوة علیّة تهدیها نحو الأمن و السّلامة. ودعاة التّطور کما وضّحنا سلفًا یدّعون بأنّ هذه الأنماط السّلوکیّة المبرمجة فی هذه الأحیاء وهذه البرمجة مصدرها الطّبیعة أو المصادفات الموجودة فی هذه الطبیعة، و نحن نعرف أنّ هذه المصادفة غیر عاقلة ولا شعورّیة فی نفس الوقت. ولو تأمّلنا هذه الأنماط السّلوکیة الصّادرة عن هذه الأحیاء غیر العاقلة لأدرکنا مدى سطحیّة هذا الإدّعاء العقیم. والإنسان العاقل یستطیع أن یدرک أنّ الإلهام الإلهیّ لهذه الأحیاء هو مصدر سلوکها العجیب والغریب.

التّفانی لدى النّعام

التّفانی لدى النّعام

من المعلوم أن أشعّة الشّمس القویة التی تشرق على قارة إفریقیا لها تأثیرات قویة وقاتلة على الکائنات الحیة، لذا تلجأ الکائنات الحیة إلى المناطق الظلیلة لحمایة نفسها من هذه الأشعة، ویشذّ عن هذه القاعدة النعام الذی یستوطن جنوب إفریقیا لأنه یهتم بحمایة بیضه وفراخه من الشّمس أکثر من حمایة نفسه، ویستخدم جناحیه الواسعین فی التّظلیل على بیضه وفراخه (72) ولکنّ الملاحظ هنا أن هذا الطّیر یقف بجسمه تحت الشمس معرضا نفسه لخطرها من أجل حمایة العشّ ضاربا المثل بالتّضحیة من أجل الصّغار الضعاف.

العنایة الفائقة التی تبدیها سمکة"السّحلید"

العنایة الفائقة التی تبدیها سمکة"السّحلید"

یظهر ذکر هذا النوع من السمک وأنثاه عنایة فائقة بالبیض والصغار التی تخرج منه، فیظلّ أحدهما واقفا فوق المکان الذی یوضع فیه البیض ویحرک زعانفه وذیله باستمرار ویتناوبان على أداء هذا العمل کل بضعة دقائق، والهدف من تحریک الزّعانف والذّیل هو إتاحه أکبر کمیة ممکنة من الأوکسجین اللاّزم لنمو الأجنحة وکذلک منع تراکم سبورات الفطریات التی تحول دون نمو الأجنّة. وهذه العنایة الفائقة التی یبدیها هذا النوع من السّمک تجاه بیضه مردّها کون النّظافة تمثل العنصر الأساس فی نمو الأجنّة، حتى أنّ هذا السّمک یقوم بإتلاف البیض غیر الملقّح کی یمنع تعفّنه لأنّ تعفّنه یؤدّی إلى إلحاق الضّرر بباقی البیض الملقح. وفی المراحل التالیة یحمل الذّکر والأنثى البیض بفمهما بالتّناوب لوضعه فی حفر صغیرة على شکل شقوق فی الرّمل إلى أن یحین الفقس, وتتکرّر عملیّة الحمل عدة مرات حتى یکتمل نقلها، وعند فقس البیض عن أسماک صغیرة یتولّى الذّکر والأنثى مهمّة الحمایة وبالتناوب أیضا. وتکون هذه الأسماک عموما مجمّعة فی مکان واحد وإذا حدث و إن ابتعدت واحدة منها عن المجموع فإنّ الذّکر أو الأنثى یحملها فی فمه و یعیدها إلى مکان اجتماع الصّغار مرّة أخرى (69).

لیست سمکة السّحلید الوحیدة التی تهتم بالنظافة اهتماما شدیدا بل هناک مخلوقات أخرى مشهورة فی هذا المجال مثل: "أم أربع وأربعین" فالأنثى تعمل على لحس البیض باستمرار لکی تمنع نموّ الفطریات علیها ثم تلف نفسها حول هذا البیض لتوفّر لها الحمایة الکاملة لها 70. أمّا أنثى الأخطبوط فتضع بیضها بین الشّقوق الموجودة فی الأحجار وتظل تراقبها بعنایة، و بین الحین والآخر تنظّف هذا البیض بدفع الماء إلیه بواسطة التّراکیب العضویة اللاّمسة الموجودة فی أذرعها (7).

الارتحال طویلا من أجل التّکاثر: "الحوت الرّمادیّ"

الارتحال طویلا من أجل التّکاثر: "الحوت الرّمادیّ"

فی دیسمبر وینایر من کل سنة یقوم "الحوت الرمادی" برحلة تبدأ من المحیط المتجمّد الشّمالی عبر السّواحل الشّمالیة والجنوبیّة الغربیّة لأمریکا متوجها إلى کالیفورنیا, وهدفه من هذه الرّحلة بلوغ المیاه الدافئة من أجل التکاثر، والغریب فی هذه الرّحلة أنّ الحیوان لا یتغذّى أبدا، وسبب ذلک أن هذا الحیوان قد تغذّى جیدا فی الصّیف السّابق لهذه الرّحلة من موادّ الغذاء الموجودة فی المیاه القطبیة الشمالیة. وتضع الأنثى مولودها عند بلوغها المیاه الاستوائیة القریبة من السّواحل الغربیة للمکسیک، وترضع الأنثى صغیرها باللّبن مثل جمیع اللّبائن ویکون غنیّا بالدّسم اللاّزم لطاقة الصّغی,ر فهذه الطّاقة لازمة للصّغیر الذی سوف یعود مع باقی الحیتان الرّمادیة فی رحلة مضنیة إلى المناطق الشّمالیة الباردة 68.

العشّ الذی ینشأه السّمک "المقوس" من الطّحالب

العشّ الذی ینشأه السّمک "المقوس" من الطّحالب

تقوم أنثى هذا النّوع من السّمک بوضع البیض طیلة شهری مای وحزیران، والعلامة الدّالة على موسم التّبییض هی بروز لون البقعة السّوداء الموجودة فی نهایة الذیل. وتختار الأنثى موضعا قریبا من ضفة بحیرة أو نهر جار تکثر فیه الطّحالب وتنشأ فی هذا الموضع عشّا دائریّ الشّکل، و فی تلک الأثناء یقوم الذّکر بالسّباحة حول نفسه دافعا الطّحالب اللاّزمة لبناء العشّ نحو الأسفل, ویلتصق البیض عند الوضع بأوراق النّباتات وفروعها التی بنی منها العش ویقوم الذکر بحراستها والسّباحة حولها بحرکة مستمرّة لدفع الماء وتحریکه لتسهیل التهوئة اللاّزمة لأجنّة البیض. ویستمرّ الذّکر فی رعایة الصّغار حتى یبلغ طول الواحد منها 10سم (65).

سمک "الأثرینا" والرّحلة المحفوفة بالمخاطر

سمک "الأثرینا" والرّحلة المحفوفة بالمخاطر

یتمیز هذا النوع من السّمک عن باقی الأنواع بأنه یضع بیضه على الیابسة، لأن البیض لا یکتمل نموّه إلا فی هذا الوسط. والرّحلة إلى الیابسة ولو لفترة قصیرة تعنی الموت بالنسبة إلى هذه الأسماک. وبالرغم من هذه المخاطر تقوم هذه الأسماک برحلتها مجابهة خطر الموت فی سبیل الحفاظ على النّسل, ومن بفضل الإلهام الإلهی تقوم هذه الکائنات باختیار الوقت والظرف المناسبین للخروج من الماء، وتنتظر هذه الأسماک إلى أن یصبح القمر بدرا ثم تخرج لدفن البیض فی رمال السّاحل. وانتظارها للبدر یرجع إلى أنّ الأمواج العاتیة تتزامن مع اکتماله فتزحف هذه الأمواج على السّواحل الرّملیة. وهذه الأمواج تستمر مدّا و جزرا لمدة ثلاث ساعات تختار فیها هذه الأسماک الموج الملائم کی تمتطیه لإلقاء فقسها على الساحل الرملی. وعند انحسار الموج تقوم الأنثى فی خلال هذه الفترة القصیرة والخطیرة بحفر مکان بعمق خمسة سنتمترات بواسطة جسمها المتقلص والمنحنی وتقوم بوضع بیضها فی هذه الحفرة.

ولا تنتهی هذه العملیة عند هذا الحد لأنّ الإناث یجب أن تدفن هذا البیض وتغطیه کی ینمو بصورة جیّدة. کلّ هذه الخطوات یجب أن تحدث قبل أن تغمر السّاحلَ میاهُ الأمواجِ وإلاّ فإن حیاة السّمکة سوف تکون معرضة للهلاک. والملاحَظ فی هذا المثال أنّ السّمکة تخاطر بحیاتها حرصا على النّسل فی صورة رائعة من التّضحیة والفداء فضلا عن سلوکٍ یتّسم بالحساب الدقیق و التقدیر الذکیّ (64 ).

ولو تأملنا فی سلوک هذه السّمکة الذی یتسم بالتّخطیط والتضحیة لأدرکنا أنّ هناک موجّها ومنظّما لهذه الخطوات، فالسّمک یعمد إلى اختیار هذا الأسلوب للتکاثر من بین المئات من الأسالیب الأخرى. ولنفترض أن هذا النّوع من السّمک قد اکتسبت هذه الطریقة فی التکاثر عن طریق الصّدفة, ترى ماذا یمکن أن یحدث بعد ذلک ؟ إنّ هذه السّمکة ستتعرض للموت فی أوّل خروج لها إلى الیابسة لأنها ستقوم بتجربة أنجع وسیلة لوضع البیض خلال فترة قصیرة جدا وخطیرة أیضا وتحت ظروف مستحیلة أیضا، لذا فإنّ انتظارها للبدر وتزامنه مع مدّ الأمواج و جزرها على السّاحل الرّملی وامتطاءها لهذه الأمواج وخروجها إلى السّاحل ووضعها البیض ودفنها إیاه کلّ ذلک لیس إلاّ وحیا وإلهاما من الله العلیّ القدیر الذی ألهما بلطفه هذه المقدرة الفائقة.

حصان البحر: الکائن الحی الوحید الذی یکون ذکره حاملا

حصان البحر: الکائن الحی الوحید الذی یکون ذکره حاملا

یتمیز ذکر هذا الحیوان بأن جسمه یحتوی على کیس خاص یضع فیه البیض الذی تضعه الأنثى, وتقوم الأنثى بوضع هذا الجنین داخل کیس الذّکر, و یقوم هو برعایة هذا البیض و مده بالغذاء عبر سائل یتم إفرازه داخل هذا الکیس شبیه بـسائل البلازما, وتستمر عملیة التغذیة حتى اکتمال نمو الجنین. ویظل الذّکر على هذا الوضع مدة تتراوح بین عشرة أیام و اثنین و أربعین یوما. وتقوم الأنثى بتفقد الذکر کل صباح, و مراقبة البیض تساعدها فی معرفة لحظة اقتراب الولادة من قبل الذّکر وبالتالی التهیؤ من أجل وضع البیض مرة أخرى (63).

بطریق الإمبراطور و صبره الخیالی

بطریق الإمبراطور و صبره الخیالی

هناک حیوان یظهر عزما غریبا فی الحفاظ على بیضه وصبرا لا مثیل له وتفانیا مثیرا للدّهشة, وهذا الحیوان هو بطریق الإمبراطور. فهذا الحیوان یعیش فی القطب الجنوبی الذی یتمیز بظروف بیئیّة قاسیة جدّا. تبدأ أعداد کبیرة من هذا الحیوان تقدر ب 25000بطریق رحلتها للتزاوج, و یقدر طریق الرّحلة بعدة کیلومترات لاختیار المکان المناسب للتزاوج, وتبدأ هذه الرّحلة فی شهر مارس وأبریل (بدایة موسم الشتاء فی القطب الجنوبی ), ومن ثم تضع الأنثى بیضة واحدة فی شهر مارس أو حزیران. والزّوج من البطریق لا یبنی عشّا لبیضته بل لا یستطیع ذلک لعدم وجود ما یبنی به فی بیئة مغطاة بالجلید. بید أنّه لا یترک بیضته تحت رحمة برودة الجلید لأن هذا البیض معرض للتّجمد بمجرد تعرضه لبرودة الجلید القاسیة, لذا یحمل بطریق الإمبراطور بیضه على قدمیه و یقترب الذّکر من الأنثى بعد وضعها للبیضة الوحیدة بعدّة ساعات لاصقاصدره بصدرها ویرفع البیضة بقدمیه. ویحرص کلاهما أشدّ الحرص على ألاّ تمسّ البیضة الجلید, ویقوم الذکر بتمریر أصابع قدمیه تحت البیضة ومن ثمة یرفع الأصابع لیدحرج البیضة باتّجاهه. وهذه العملیّة تتم بکل هدوء وإتقان لتجنب کسر البیضة. وأخیرا یقوم بحشر البیضة تحت ریشه السّفلی لتوفیر الدّفء اللازم .

وعملیة وضع البیضة تستهلک معظم الطّاقة الموجودة فی جسم الأنثى لذا فإنّها تذهب إلى البحر لتجمع غذاءها وتسترجع طاقتها فی حین یبقى الذکر لحضن البیض, و تتمیز فترة حضن البیض لدى بطریق الإمبراطور بصعوبة مقارنة بباقی أنواع الطّیور إضافة إلى حاجتها الشّدیدة للصّبر من جانب الذکر, فهو یقف دون حراک مدة طویلة و إذا لزمت الحرکة فإنّه لا یفعل ذلک إلاّ لأمتار قلیلة براحة القدمین. وعند الخلود إلى الراحة یستند الطیر على ذنبه کما لو أنّه قدم ثالث ویرفع أصابع قدمیه بصورة قائمة کی لا تلمس البیضة الجلید. ومن الجدیر بالذّکر أنّ درجة الحرارة فی الأقدام المغطّاة بالرّیش السّفلی أکثر ب:80 درجة عن المحیط الخارجی لذلک لا تتأثر البیضة بظروف البیئة الخارجیة القاسیة .

وتزداد ظروف البیئة قسوة کلما تقدم فصل الشتاء بأیامه وأسابیعه حتى أن الریاح والعواصف تبلغ سرعتها 120-160 کم فی الساعة, وبالرغم من ذلک یبقى الذکر ولمدة أشهر دون غذاء ودون حراک إلاّ للضّرورة ضاربا مثلا مثیرا للدّهشة فی التّضحیة من أجل العائلة, وتبدی العائلة تضامنا کبیرا لمقاومة البرودة القاسیة إذ أنّ حیوانات البطریق تتراصّ واضعة مناقیرها على صدورها وبذلک یصبح ظهرها مستویا ومشکّلة دائرة فیما بینها وسدا منیعا من الرّیش فی مواجهة البرد القارس. وتحدث هذه العملیة بإخلاص و تنظیم دقیق دون أن تحدث أیة مشکلة بین الآلاف من هذه الطّیور المتراصّة, وتظل هکذا لمدة أشهر عدیدة بصورة من التعاون المدهش والمثیر للحیرة والإعجاب. فحتّى الإنسان تصیبه مشاعر الملل و الأنانیة فی هذه الظروف القاسیة رغم کونه مخلوقا عاقلا یسیر وفق مقاییس أخلاقیة و عقلیة. ولکن البطریق یبقى متعاونا متکاتفا ویعمل الفرد من أجل المجموعة بأکمل صورة ممکنة، والتّضحیة التی یبدیها هذا الحیوان للحفاظ على البیض تحت هذه الظروف القاسیة تعتبر منافیة لمفاهیم نظریة التّطور التی تدّعی أنّ البقاء للأصلح والأقوى و نکتشف أنّ الطّبیعة لیست مسرحا للصّراع بل معرضا للتفانی والتضحیة التی یبدیها القوی للحفاظ على حیاة الضعیف. وبعد ستین یوما من الظّروف القاسیة یبدأ البیض فی الفقس، ویستمر الذکر فی تفانیه من أجل الصّغیر علما أن هذا الذکر لم یتغذ أبدا طیلة فترة الرّقود على البیض. ومن المعلوم أن البطریق الخارج لتوّه من البیض حیوان ضعیف و صغیر یحتاج إلى تغذیة و عنایة مستمرّة فیفرز الذکر من بلعومه مادة سائلة شبیهة بالحلیب یتم إعطاؤها للفرخ الصغیر لیتغذى علیها. و فی هذه الفترة الحرجة تبدأ الإناث فی العودة وتبدأ بإصدار أصوات ممیزة فیردّ علیها الذکور بصوت مقابل وهذه الأصوات هی نفسها التی استخدمت فی موسم التزاوج وبواسطتها یعرف الذکر والأنثى بعضهما البعض. وقد وهب الله سبحانه وتعالى هذه الحیوانات قدرة التمییز بین الأصوات وهو اللّطیف الخبیر .

وتکون الأنثى قد تغذت جیدا طیلة فترة الغیاب ویکون لدیها مخزون جید للغذاء, وتضع هذا المخزون أمام الفرخ الصغیر و هو أوّل طعام حقیقی یتناوله بعد خروجه من البیض. وقد یتبادر إلى الذهن أن عودة الأنثى تعنی خلود الذکر للرّاحة ولکن هذا لا یحدث أبدا, فالذّکر یظل على اهتمامه ورعایته لمدة عشرة أیام أخرى ویقوم خلالها بمسک الفرخ الصغیر بین قدمیه, ثم یبدأ رحلة بعد ذلک إلى البحر لیتغذى بعد حوالی أربعة أشهر من الصیام عن الحرکة والغذاء. و یظل الذّکر غائبا من ثلاثة إلى أربعة أسابیع یعود بعدها إلى الاهتمام بالفرخ کی ترجع الأنثى بدورها إلى البحر لتصیب من الغذاء ما تیسّر لها. تکون هذه الفراخ الصغیرة فی المراحل الأولى من حیاتها غیر قادرةعلى تنظیم حرارة أجسامها لذا تکون معرضة للموت فی حالة ترکها وحیدة تحت ظروف البرد القاسیة، لذلک یتناوب الذکر والأنثى فی عملیة الحفاظ على حیاة الصّغیر وتوفیر الدّفء والغذاء له

(62).

وکما هو واضح فی هذا المثال فکلاهما یتفانى ویضحی حتّى بحیاته إذا اقتضى الأمر فی سبیل الحفاظ على حیاة الفرخ الصغیر. إنّ الإلهام الإلاهی هو التّفسیر الوحید لهذه التضحیة والتعاون الذیْن یبدیهما الذکر والأنثى للحفاظ على حیاة الصغیر. إنّ المتوقع من هذا الحیوان غیر العاقل أن یترک هذا البیض وشأنه ویفکر فی الخلاص والنجاة من البرد القاسی إلا أن لطف الله سبحانه وتعالى بهذه الحیوانات جعلها ترأف ببیضها وفرخها وتظهر هذه الصورة الرائعة من التکاتف والتعاون والتضحیة.

العنایة الفائقة التی تخص بها الکائنات الحیة بیضها وصغارها

العنایة الفائقة التی تخص بها الکائنات الحیة بیضها وصغارها

الظاهرة المعروفة لدى الأحیاء أنهّا تبذل جهدا کبیرا فی العنایة بالبیض والصغار وتتحمل فی سبیل ذلک الصّعوبات الجمّة فهی تقوم بإخفائها عن عیون الأعداء وتحافظ علیها (البیض) من الکسر إضافة إلى تدفئتها بدرجة معقولة دون تعریضها إلى حرارة عالیة، وتقوم الکائنات الحیة بنقل بیضها إلى مکان آخر عند إحساسها بخطر یهددها وتظل تحرسها لعدة أسابیع متواصلة دون کلل أو ملل وحتى أن بعضها یقوم بحمل البیض بفمه. ویمکن لنا أن نلاحظ هذه الأنماط السلوکیة الملیئة رحمة ورأفة لدى الکثیر من أنواع الأسماک والطیور والزواحف .

فأفعى " البایتون " مثلا تشکل تهدیدا خطیرا لحیاة الإنسان إلا أنها تسلک تجاه بیضها سلوکا ینطق عطفا ورأفة. فهذه اللأفعى تضع تقریبا 100 بیضة فی کل مرة و تلتفّ حول هذا البیض, والهدف من هذا الالتفاف هو الحفاظ على البیض من درجة الحرارة العالیة بالإضلال علیها والحفاظ علیها من البرودة عن طریق رفع جسمها و الانفصال عنها. ویضل هذا البیض بمنأى عن الأخطار طالما ظلت الأفعى الأم ملتفة حولها. و بفضل هذه العنایة التی تبدیها أنثى "الیایتون" یقل تأثیر الأخطار على حیاة الصغار وهم لا یزالون داخل البیض (50). وهنالک بعض أنواع الأسماک یسلک سلوکا غریبا فی العنایة بصغاره وهم لا یزالون داخل البیض إذ تقوم السّمکة الأم بجمع هذا البیض فی تجویف فمها کوسیلة لحمایتها لذا تدعى هذه الأنواع بـ " الأسماک التی ترقد على بیضها بفمها ", و قسم من هذه الصغار سرعان ما یلوذ إلى فم أمه عندما یشعر بالخطر. وهذا السّلوک شائع لدى أسماک القط (الشبوط) أو (cat fish ) التی تستمرّ فی السّباحة لمدّة أسابیع وفمها ملآن بالبیض الصغیر الذی یقدر حجمه بحجم الکرات الفولاذیة الصغیرة الموجودة فی العجلات المیکانیکیة، وتقوم السّمکة بخض فمها بین الحین والآخر لتحریک هذا البیض لإفساح المجال لغاز الأکسیجین المذاب فی الماء للوصول إلیها وعند فقس البیض عن صغار ضعاف یلجأون إلى فم أبیهم لعدة أسابیع تالیة, وطیلة هذه الفترة لا یتغذى الذّکر أبدا ویستخدم مخزونه الدّهنی فی مواصلة فعالیاته الحیویة ( 51).

وتعتبر الضفادع الکائن الحی الآخر الذی یحمل صغاره وبیضه فی فمه, فضفدع "رینودیرما" تحمل أنثاه البیض داخل جسمها وعند حلول موسم التزاوج تضع الإناث بیضها على الأرض ویبدأ الذکور فی الدّوران حول هذا البیض فی حرکة تعبر عن قدرته على حمایتها من الأعداء. وعندما تبدأ الأجنحة تتحرک داخل البیض للخروج منها تهجم الذّکور على هذه المجامیع لتلتقم أکبر کمیة من هذا البیض التی تحاط بطبقة جیلاتینیة شفافة ویقوم الذّکر بتجمیع هذا البیض على جانبی فمه داخل أکیاس الصوت, وبالتالی یبدو فمه منتفخا للغایة, وتبقى فترة داخل الفم إلى أوان اکتمال نموها, وفی النّهایة یبدأ الذّکر بالتجشؤ عدة مرات وینهی ذلک بأن یتثاءب فاغرا فمه بصورة واسعة لیفسح المجال للصّغار الذین اکتمل نموهم للخروج إلى الحیاة ( 52).

وهناک نوع آخر من الضفادع یعیش فی استرالیا یقوم بازدراد بیضه لیحافظ علیها لیس فی فمه و إنما فی کیس موجود فی معدته ویبدو للقارئ أن البیض فی هذه الحالة معرض للهلاک نتیجة الإفرازات المعدیة الهاضمة إلاّ أنّ الذی یحدث لدى هذه الحیوانات هو العکس تماما إذ تتوقف المعدة عن إفراز هذه الأنزیمات لحظة ابتلاع الأنثى لبیضها و بذلک لا یتعرض البیض لأی خطر (53). وهناک أنواع من الضفادع تتّبع أسالیب متنوعة فی الحفاظ على بیضها کضفدع " البیبا " الأسود الذی یقوم ذکره بتجمیع البیض بواسطة سیقانه الزّعنفیّة لیلصقها إلى ظهر الأنثى ثمّ ینتفخ الجلد لیساعد على التصاق هذا البیض, ویتکون غلاف رقیق حافظ لهذا البیض، وبعد 30 ساعة یختفی هذا البیض تحت جلد ظهر الأنثى ویعود إلى شکله الأصلی, ویبدأ البیض فی النمو تحت جلد الأنثى. وبعد 15 یوما تبدأ الیرقات فی التّحرک داخل البیض والتی تجعل ظهر الأنثى تبدو و کأنها فی حرکة التوائیة. وبعد مرور 20یوما تشرع الضّفادع الصّغیرة فی الخروج عبر ثقوب تکون قد فتحتها فی جلد الأم, وبعد خروجها تبدأ فی البحث عن ملجئ آمن لها فی الماء.

أما الضفدع الأوروبی الأسود والمسمى بـالمولِّد أو القابلة فیقضی أغلب حیاته على الیابسة القریبة من الماء ویتزاوج على الیابسة أیضا و لا تترک الأنثى بیضها على الأرض, ویلقی الذکر علیها حیامنه, وبعد نصف ساعة یقوم الذکر بلصق هذا البیض بعضه ببعض کأنما یقوم بترتیب حبات المسبحة على الخیط، ثمّ یلصق هذه السلسلة على سیقانه الخلفیة وتبقى هکذا لمدة أسابیع عدیدة یجرها معه أینما ذهب وعندما یبدأ هذا البیض فی الفقس یلقی بها فی الماء, ویبقی سیقانه فی الماء حتى اکتمال خروج الصّغار من البیض. وعند اکتمال هذه العملیة یرجع إلى مسکنه على الیابسة (54).

بعد هذا العرض للأمثلة العدیدة تبرز أمامنا نقطة مهمة للغایة، وهی الإنسجام الکامل بین التکوین الخلقی لهذه الکائنات الحیة والأنماط السّلوکیة التی تمارسها. فالضّفدع الذی یملک تجویفا خاصا فی جسمه یستخدمه للحفاظ على البیض ولکنه لا یعلم عن وجود هذا التجویف فی جسمه إلا أنه مع ذلک یسلک سلوک العارف بوجود هذا التجویف، أما الضفدع الآخر الذی ورد ذکره فی الأمثلة فإنه غیر عاقل ولا یملک الإرادة أن یوقف إفراز الإنزیمات الهاضمة فی معدته کی لا تصیب البیض بأی ضرر ، وعلى افتراض أنّ هذا النوع من الضفادع یملک القابلیة على إیقاف إفراز الأنزیمات فإن هذا الفرض ینافی طبیعة الکائنات الحیة التی لا تملک القابلیة على التّحکم فی الأفعال اللاّإرادیة، وکذلک الحال بالنّسبة إلى الضفدع الذی یرعى صغاره تحت جلدة ظهره. کلّ هذه الشّواهد الحیّة من توافق بین التّرکیبة الخلقیّة والأنماط السّلوکیة لم تتشکّل بمحض أبدا الصّدفة.

وهذه الصّفات التی أوردناها کأمثلة تحمل فی جوهرها تصمیما وتخطیطا لا یمکن إنکارهما. والواضح للعیان أن هذه الکائنات الحیة التی تمتلک خاصّیة الانسجام بین الترکیب الخلقی وأنماطها السلوکیة هی کائنات مخلوقة من قبل المولى عز وجل وهو الذی أبدع صورتها وخلقها لأنه قادر على کلّ شیء. ولا یمکن ملاحظة مشاعر الأمومة والأبوة والرأفة المبثوثة إلى هذه المخلوقات بالأمثلة أعلاه فحسب بل فهناک أمثلة أخرى کالنّمل والنحل وغیرها من الأحیاء التی تبذل اهتماما منقطع النّظیر فی الحفاظ على البیض وعلى الیرقات داخل الشرانق, فالعاملات تقوم بحمل البیض إلى غرف خاصّة داخل الخلیة المنشأة تحت الأرض, وکذلک الأمر مع الیرقات داخل الشرانق، وتغیر هذه العاملات مکان بیضها و مکان الشرانق أیضا حسب تغیّر درجة الحرارة والرطوبة داخل الخلیة إضافة إلى سعیها الحثیث إلى الحفاظ على راحة البیض والیرقات بأن تحملها فی فمها لتغییر مکانها فی رحلات متواصلة بین الغرف داخل الخلیة. وإن حدث أن داهم الخطر الخلیة کلّها تقوم العاملات بحمل البیض والشرانق إلى مکان آمن خارج الخلیة (55).

أمّا اهتمام الطّیور ببیضها فیأخذ أشکالا متنوعة تثیر الحیرة والدهشة فی آن واحد. فنحن نجد مثلا طیر "المطر" الصّغیر الذی یضع أربع بیضات فی حفرة بالأرض، وإن حدث أن ارتفعت درجة الحرارة یقوم هذا الطیر بغمس صدره فی الماء حتى تبتل ریشه الأمامیّ ثم یرقد على البیض و یلامس البیض بریشه المبتلّ, وهکذا یستطیع أن یخفّف من تأثیر الحرارة العالیة (56).

و مما نشاهده فی عالم الأحیاء أنّ الکائنات الحیة البیوضة تقوم بتهیئة وسط ملائم من ناحیة درجة الحرارة لاکتمال نمو الأجنحة داخل البیض, فالطّیور الغطّاسة على سبیل المثال تبنی أعشاشها من الطّحالب الطافیة على الماء وتقوم هذه الطیور بتغطیة بیضها بهذه الطّحالب, وهذه العملیة توفر نوعا من التکییف الحراری داخل العش. أمّا البجع فیرقد على البیض لتوفیر الدّفء اللاّزم لنموّ الأجنحة ویغیر من وضع رقاده بین الحین والآخر لتوفیر دفء متساو لجمیع البیض (58).

أما الطائر الرّملی فیستخدم أسلوبا آخر فی توفیر الدّفء لبیضه، فبعد أن تضع الأنثى بیضها فی العشّ یتولّى الذّکر الاهتمام بهذا البیض فیرقد علیه وینتف ریشه الذی یغطی منطقة الصّدر ویفرشه فی أنحاء العش وتمتلئ الأوعیة الدّمویة الموجودة فی صدره بکمیة زائدة من الدم، وحرارة هذا الدم تکون کافیة لتوفیر الدّفء اللاّزم للبیض طیلة أکثر من ثلاثة أسابیع. وعندما یخرج الصّغار بعد فقس البیض یستمر الذّکر فی رعایة الصغار أکثر من أسبوع ونصف ومن ثم یتناوب مع الأنثى فی أداء هذه الوظیفة المهمة 59.

إنّ الاهتمام بالحفاظ على درجة الحرارة داخل العش بمستوى محدود ومقبول یعتبر أمرا ذا أهمیة قصوى لکافة الکائنات الحیة. والمثیر للدّهشة أن الحیوانات تتبع أسالیب مختلفة ومتنوعة فی إنجاز هذه العملیّة الحیاتیّة المهمّة وتبدی حساسیة بالغة تجاهها. وهنا تبدو أمامنا استحالة إدراک الطیر أو الأفعى أو النحل لأهمیة الحفاظ على الحرارة بمستوى دقیق وبالتالی اتباعها أسلوبا مثیرا للدّهشة فی إنجاز هذه العملیة من تلقاء ذاتها. ومصدر هذه المعرفة و الإدراک هو الله سبحانه وتعالى الذی خلق هذه الکائنات و أودع فیها هذه الخصائص الحیاتیة لیضرب بها الأمثال للإنسان المتفکر. و هذه الکائنات الحیة وهی تسلک سلوکا من وحی إلهام إلهی تنشط نشاطا دؤوبا لا یعرف الکلل ولا الملل. فمثلا تبنی بعض الطیور عدة أعشاش یکون أحدها لرعایة الصّغار وتنشئتهم والأخرى لوضع البیض والرّقود علیه. ویتصف بهذه الصّفات کلا من طائر " المطر"الصّغیر والطیور الغطّاسة إذ یتناوب الذّکر والأنثى فی عملیة الاهتمام بالصغار والرقود على البیض.

والأغرب من هذا مساعدة الفراخ الموجودة فی العش الأول للفراخ الموجودة فی العش الثانی, وهذا النموذج یمکن رؤیته لدى طائر "دجاج الماء "و"خطاف الشّباک"حتى أن أزواج الطّیور تساعد أزواجا أخرى فی العمل مثلما هو موجود لدى طائر النحل. وهذا النّوع من التعاون والتکافل شائع لدى الطیور عامة 60. وهناک عامل مهمّ فی نسف نظریة التّطور من الأساس, وهذا العامل یتلخّص فی الرأفة التی تبدیها الحیوانات لیس فقط تجاه صغارها بل تجاه صغار حیوانات أخرى. وحسب ادّعاء دعاة التّطور یکون من المستحیل رؤیة هذه الأنماط من السّلوک لدى الکائنات الحیّة فی حین أنّ ما یصدر عنها من سلوک هو مثال فی ا الرّأفة والتّضحیة ومن المستحیل أن تکون قد تشکلت بالصّدفة. وهناک أمثلة لا تحصى فی الطبیعة على التعاون والتکافل بین الأحیاء. وهذا دلیل واضح على أنّ الطّبیعة لیست ولیدة الصّدفة و العبث کما یدّعی المادّیون .