الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الأعشاش التی تخیطها الطیور الخیاطة

الأعشاش التی تخیطها الطیور الخیاطة

یتمیز منقار طیر الخیاط الهندی بدقة شکله کإبرة الخیاطة، والمواد الأولیة التی یستخدمها فی خیاطة عشه تتمثل فی خیط نسیج العنکبوت والزغب الذی یحیط ببعض أنواع البذور إضافة إلى ألیاف خاصة بقشور الأشجار. ویقوم هذا الطیر بجمع أوراق الأشجار الواحدة فوق الأخرى متراصة وبعد ذلک یقوم بثقب حواف هذه الأوراق الواحدة تلو الواحدة بمنقاره المدبّب ومن ثم یدخل نسیج العنکبوت أو اللّیف الذی جمعه فی هذه الثقوب ویعقدها کی یمنع سقوط الأوراق، ویکرر العملیة نفسها فی الجهة المقابلة حتى یجعل الورقتین النباتیتین متلاصقتین تماما وفی خطوة لاحقة یقوم بتدویر هاتین الورقتین المتلاصقتین حول بعضما البعض مثلما یصنع العقد، ویفرش داخل هذا العش الورقی بالحشیش (33), وأخیرا یخیط هذا الطیر جزءا إضافیا داخل العش یخصصه لأنثاه لتضع فیه بیضها بأمان (34).

کیف تبنی الطیور أعشاشها الفخمة؟

کیف تبنی الطیور أعشاشها الفخمة؟

تعرف الطیور على أنها من أبرع الکائنات الحیة فی بناء أعشاشها، ولکل نوع من أنواع الطیور طریقة فی بناء عشه ولا یخطئ أبدا فی بناء العش حسب الطریقة التی اعتاد علیها. و أهم سبب لإنشاء الطیور أعشاشها کون بیضها وفراخها التی تخرج من البیض بعد فقسها على درجة کبیرة من الضعف، وخصوصا عندما تذهب الأم للصید, فالصغار یبقون بدون أیة وسیلة للدفاع عن النفس، ولکن المکان الذی یتم اختیاره لبناء العش یعتبر الوسیلة للدفاع مثل قمم الأشجار والثقوب الموجودة فی جذوعها أو سفوح الجبال والتلال وکذلک بین الأعشاب إذ یتم إخفاء العش بمنتهى البراعة والإتقان حفاظا على حیاة الصغار .

والدور الثانی والمهم للعش هو الحفاظ على الصغار من تأثیر البرد القارس لأن الصغار یخرجون من البیض بدون ریش إضافة إلى عدم قدرتهم على الحرکة بحریة و بالتالی عدم استطاعتهم تحریک عضلاتهم بسهولة، لذا تکون الطیور مجبرة على بناء أعشاشها بمنأى عن البرد حفاظا على الصغار. وأبسط مثال على هذه الأعشاش " العش المحاک "فهو یوفر الدفء اللازم للصغار, وبناء هذه الأعشاش صعب للغایة ویتطلب دقة متناهیة, فالأنثى تقوم ببناء هذا النوع من العش فی فترة طویلة وبجهد بالغ وتقوم بفرش داخل العش بالریش والشعر والألیاف لعزلها عن التأثیرات الحراریة للبیئة الخارجیة (29). وتوفیر المواد الأولیة لبناء أی نوع من أنواع الأعشاش یعتبر خطوة مهمة جدا، وتقوم الطیور طیلة الیوم بجمع هذه المواد الأولیة فمناقیر الطیور ومخالبها مخلوقة لتلائم هذه المهمة. وعملیة بناء العش مهمة الأنثى أما مهمة الذکر فتتمثل فی اختیار المکان الملائم. وتستفید الطیور فی بناء أعشاشها من مواد أولیة مثل الطین و الورق النباتی اللبلاب وحتى الشعر أو الورق، وخصائص أی عش تعتمد على المواد الأولیة المستعملة وعلى الطریقة التی یستخدمها ذلک الطیر فی بناء عشه. وتبنى الأعشاش اعتمادا على مرونة المواد الأولیة ومتانتها وصلابتها، فالطیور تختار المواد التی یمکن طیها أو مدها عند بناء العش. والتنوع فی هذه المواد یجعل العش أکثر أمنا للفراخ, فخلط الطین والألیاف یحول دون حدوث أی فطر فی جدران العش.

والطیور بعد أن تجمع المواد الأولیة تبدأ بتکوین الخلیط اللازم لبناء العش، والطیر الذی یتبع هذه الوسیلة فی البناء هو الخطاف أو النون الذی یبنی عشه على حافة الهاویة أو على جدران المبانی والباحات الخارجیة فیقوم بلصق عشه بجدرانها بنوع من الخیلط اللاصق، وهذه الخلیط یحصل علیه بطریقة عملیة جدا, فأولا یقوم بجمع الطین والرماد فی منقاره ویحملهما إلى المکان الذی أزمع بناء العش فیه ومن ثم یجعل الطین مزیجا لزجا بعد إفراز مواد خاصة ویمسح سطح الهاویة بهذه المادة اللزجة حتى یعطی العش الشکل النهائی على شکل أصیص مدور مجوف و یملأ داخل الأصیص بالحشیش والطحلب والریش وغالبا ما یبنی عشه تحت نتوء صخری کی تحمیه الصخرة من تأثیر الأمطار المتساقطة التی ربما تزیل تماسک الطین المتین الذی یؤدی إلى هدم العش برمته (30).

وبعض الطیور التی تعیش فی جنوب إفریقیا وتدعى بـأنثوسکویوس تبنی عشها من قسمین, القسم الأول منه لحضن البیض, وهناک مدخلان للعش أحدهما سری والآخر للتمویه ضد خطر الأعداء (31). من جانب آخر یقوم أحد الطیور فی أمریکا من جنس sar?asmag?ller ببناء عشه بالقرب من خلیة النحل البری لأن هذا النحل یحول دون اقتراب الأعداء المشترکین کالأفاعی والببغاء والقرود وخصوصا أحد أنواع البعوض الذی یشکل خطرا بالنسبة إلى هذه الطیور (32). وبذلک تنجح الأم فی الحفاظ على حیاة صغارها من خطر الأعداء .

الأعشاش المبنیة للصغار والمجهزة بجمیع وسائل الرّاحة

الأعشاش المبنیة للصغار والمجهزة بجمیع وسائل الرّاحة

هناک دور کبیر للمنازل والأعشاش التی تبنیها الحیوانات فی رعایة وتنشئة الصغار، وهناک أسالیب مختلفة باختلاف أنواع الحیوانات فی طریقة إنشاء هذه الأعشاش بتفاصیل تقنیة باهرة، وفی أحیان کثیرة تتصرف الحیوانات مثل مهندس معماری بارع، وتعمل على شاکلة بنّاء ماهر فی عمله، وتجد حلاّ لکل مشکلة قد تواجهها أثناء البناء تماما مثل المهندس ومثل أخصائی فی الدیکور حیث تقوم بتوفیر ما یلزم لداخل العش، وفی أحیان کثیرة أخرى تعمل هذه الحیوانات لیل نهار للإعداد لهذه الأعشاش، وإذا کان لهذه الحیوانات أزواجا فتقوم بتوزیع الادوار و التعاون فی صورة مثیرة للإعجاب. ومن أکثر الأعشاش والمنازل التی یعتنى بها عنایة خاصة من قبل البالغین هی التی تنشأ لاستقبال الصغار الجدد . والتقنیة التی تستخدمها هذه الکائنات غیر العاقلة تثیر الإعجاب و الدهشة فی آن واحد، ویتضح ذلک من خلال الأمثلة التی سنوردها فی الصفحات القادمة , و سیتضح کذلک أن هذه الأعشاش والمنازل لا یمکن أن تنشأ اعتمادا على الذکاء المتواضع لهذه الحیوانات، و من الجدیر بالذکر أن هذه الحیوانات، تخطط وتخطو مراحل متعددة قبل الشروع فی بناء أعشاشها أو منازلها لوضع بیضها أو ولادة صغارها، کذلک تختار هذه الحیوانات المکان الأمثل والأکثر أمنا لإنشائها, فهذه الحیوانات لا تنشئ منازلها عبثا و أینما اتفق. وطریقة بناء العش أو المسکن یتم اختیاره من قبل الحیوان أو الطیر وفقا للمواد الأولیة المتوفرة وظروف البیئة الخارجیة، فمثلا تستخدم الطیور البحریة الأعشاب البحریة التی تطفوا على سطح الماء وتقاوم الأمواج فی بناء أعشاشها، أمّا الطیور التی تعیش فی مناطق الأعشاب الطویلة فتنشئ أعشاشا عمیقة و واسعة لتفادی السقوط عند هبوب الریاح، والطیور الصّحراویة تبنی أعشاشها على قمم النباتات التی تمتاز بانخفاض درجة حرارتها أقل بعشر درجات عن درجة المحیط، وإلاّ فإنّ درجة حرارة الیابسة تربو على 45ْ وهی تؤدی حتما إلى موت الأجنة الموجودة داخل البیض .

و یتطلب اختیار المکان المناسب لبناء العش ذکاء ومعرفة واسعة، إلاّ أن هذه المخلوقات لا تستطیع أن تتوقع مدى الضرر الذی سیلحق بمنازلها بتأثیر الأمواج العاتیة أو درجة الحرارة العالیة للبیئة الصحراویة. والظاهر للعیان أن هناک مخلوقات غیر عاقلة ولا منطق لها إلا أنها تسلک سلوکا عاقلا و منطقیا، وبمعنى آخر مخلوقة على هذه الصورة الکاملة، والکمال فی الخلق لا یوجد إلا لله وحده .

ویحظى الصّغار بعد فقس البیض أو لحظة الولادة بعنایة بالغة، ویقضی الکبار من الحیوانات أو الطیور وقتا کبیرا فی الحفاظ على حیاة الأبناء ولا تکتفی فی ذلک ببناء المنازل وإنمّا تبنی أعشاشا وهمیة لمجرد التمویه بهدف لفت الانتباه إلى هذه الأعشاش الوهمیة حفاظا على حیاة الصغار من خطر الأعداء. و لا شک أن هذا النمط السلوکی لیس من بناة أفکار الحیوان و لانابعا من ذکائه. وهناک أسلوب آخر للتمویه تستخدمه الحیوانات وهو بناء الأعشاش بین أغصان الأشجار الکثیفة الأوراق أو فوق النباتات الشوکیة، وبعض أنواع الحیوانات تنشئ لها أوکارا خاصة تبیض فیها وترقد على بیضها وتقوم بإنشاء جدار خاص لمدخل هذا الوکر باستخدام الطین الموجود فی البیئة الخارجیة وإذا لم یوجد تقوم بإفراز سائل خاص تخلطه مع کمیة من التراب لإعداد الطین اللازم لإنشاء هذا الجدار الواقی.

وأغلب أنواع الطیور تبنی أعشاشها غریبة الشکل باستخدام ألیاف النباتات أو الأعشاب والحشائش البریة المتوفرة فی البیئة، والجدیر بالذکر أن الطیر الّذی سیبیض لأول مرة فی حیاته یبنی عشه بإتقان بالغ دون أن یکون له سابق معرفة أو خبرة ببناء الأعشاش .

بلا شک أن هذه القابلیات الفذة للکائنات الحیة لم تشکل من تلقاء ذاتها، إذن ما هی القدرة التی علّمت هذه الطیور والکائنات الحیة بناء منازلها بهذه الکیفیة المدهشة ؟ کیف تکتسب الکائنات الحیة هذه القابلیة مرة واحدة ؟ .

و هناک أمر آخر یحسن الإطلاع علیه و یتعلق بقابلیات الکائنات الحیة وهو کون الکائن الحی على علم تام بکیفیة بناء العش أو المسکن بالکیفیة الخاصة بنوعه والمتمیز بها عن الأنواع الأخرى اعتبارا من أول لحظة له فی هذه الحیاة، وکل نوع من أنواع الحیوانات یبنی منزله بالکیفیة نفسها فی أیة منطقة من مناطق العالم, وهذا دلیل واضح على أن هناک قوة واحدة تمنح هذه المخلوقات القابلیة والمعرفة الخاصة بالحیاة. بلا شک إنّ صاحب هذه القوة التی لا حد لها والعلم الّذی وسع کل شئ هو الله سبحانه وتعالى الّذی یلهم مخلوقاته ویمنحها هذه القابلیات الفذة. واللافت للنظر عند دراسة کیفیة بناء الحیوانات لمنازلها لیس فقط التخطیط البارع وإنما التضحیة والتعاون اللّذین یبدیهما کل من الذکر والأنثى فی البناء، وعلى سبیل المثال تنشئ الطیور أعشاشها الخاصة بها بکل اعتناء واهتمام ولا تکتفی بذلک بل تنشئ أعشاشا أخرى کجهد إضافی للتمویه (28).

ولو تمعّنا فی عملیة إنشاء الطیور لأعشاشها لأدرکنا مدى الصعوبات التی تلاقیها والجهد الظخم الذی تبذله والتفانی الذی تبدیه فی سبیل إتمام بناء هذه الأعشاش. فالطیر الواحد یقوم بعدة مئات من رحلات الطیران فی سبیل إنشاء عش للتمویه فقط فما بالک بالجهد اللازم لبناء العش الحقیقی، والطیر لا یستطیع أن یحمل فی منقاره سوى قطعة أو قطعتین من المواد اللازمة لبناء العش من أغصان أو غیرها، ولکن هذا الأمر لا یثیر فی الطیر الشعور بالملل و إنما بالعکس من ذلک یثابر على العمل بکل صبر ،وإذا شعر بتعب أو إرهاق لا یترک العمل ولا یترک ما فی منقاره ولا یهمل أی تفصیل من التفاصیل اللازمة لبناء العش. وحسب ادعاء داروین, فی قانون الانتخاب الطبیعی لا تفکر الکائنات الحیة إلا فی نفسها و بمنتهى الأنانیة. ولو کان الوسط الذی تعیش فیه مسرحا للحرب کما یدعی هو ومؤیدوه لما قامت هذه الکائنات الحیة ببذل هذا الجهد الظخم والمثیر للإعجاب فی سبیل الحفاظ على الکائنات الصغیرة الضعیفة؟ هذه الأسئلة و غیرها یحتار القانون الطبیعی لداروین فی الإجابة علیها وتعجز أمامها نظریة التطور وادعاءات الملحدین. والجواب الوحید على کل هذه الأسئلة هو أنّ الله وحده منح هذه المخلوقات صفات التضحیة والصبر والثبات والمثابرة والعزم فیلهمها هذه الصفات لیحمی القوی منها الضعیف ولیستمر التوازن فی الطبیعة ولیستمر نسل الکائنات ولتکون هذه البنوراما الطبیعیة دلیلا حیا وملموسا على قدرة الله عز وجل أمام جحود بنی آدم.

فی الصفحات القادمة سترد أمثلة على قابلیة الکائنات الحیة على التخطیط المعماری و ألقیام بالدیکور خصوصا الطیور التی یحتاج صغارها وبیضها إلى عنایة فائقة فی أعشاشها، لذا یلهمها الله سبحانه وتعالى کل ما تحتاجه ویتلاءم مع عملیة بناء الأعشاش.

کیفیة تعرّف أفراد العائلة الواحدة على بعضهم البعض

کیفیة تعرّف أفراد العائلة الواحدة على بعضهم البعض

ینبغی على أفراد العائلة الواحدة أن یملکوا آلیة خاصة للتعرف على بعضهم البعض، وبواسطة هذه الآلیة الخاصة للتعارف تستطیع الکائنات الحیة التی تعیش على شکل مجموعات کبیرة أو مستعمرات أن تتعرف على صغارها أو أزواجها وحتى على آبائها أو أمّهاتها أو أشقّاءها. ووسیلة التعرف تختلف من حیوان لآخر، فالطیور التی تبنی أعشاشها على الأرض مثلا تتعرف على فراخها عن طریق الصوت والشکل الخارجی، ومنها طائر النورس الذی یقتات على سمکة الرّینکا. و یعیش هذا الطائر ضمن مجموعات کبیرة العدد ویستطیع أن یمیز صوت فراخه وسط الزّحام الهائل دون أن یختلط علیه الأمر بین باقی الأصوات حتى وإن کانت الفراخ بعیدة عن بصره. وعند دخول طائر صغیر آخر إلى المکان الذی توجد فیه الفراخ سرعان ما یطرد من تلک المنطقة .(25)

أما اللبائن فتستطیع التعرف على صغارها عن طریق الرائحة، وتقوم الأمّ بشم ولدها لحظة ولادته وفیما بعد تصبح هذه الرائحة وسیلة للتعرف على الصّغار (26).

و یعتبر البطریق من أنجح الحیوانات فی استخدام وسیلة التعرف, ویبدو لنا الأمر شبه مستحیل عند التّعرف على طیر وسط طیور متشابهة تماما. والمحیر أن البطریق یستطیع بسهولة التعرف على أفراد عائلته دون خلط وخصوصا الأنثى, فهی تغیب مدة 2-3 أشهر لجلب الغذاء وعند عودتها لا تجد أیة صعوبة فی التّعرف على ذکرها وصغیرها من بین مئات البطاریق.

والأغرب من ذلک قیام طیور البطریق بجمع صغارها فی محلّ واحد شبیه بروضة من ریاض الأطفال ثم تذهب إلى البحر، و هذه الطیور الصغیرة تتراص جنبا إلى جنب, و هذه العملیة مهمة للحفاظ على الصغار من شدة البرد. والمسألة المهمة هنا هی کیفیة تعرف طیور البطریق البالغة على صغارها عند الرجوع من الصید من بین مئات الصّغار؟

غیر أن طائر البطریق لا یصعب علیه حل هذه المشکلة لأن البطریق البالغ یبدأ فی إصدار أصوات مرتفعة ویستطیع الصغیر أن یتعرف على أمّه وأبیه فیسرع باتجاههما(27).

ولاشک أن وسیلة الصّوت هذه أنجع وسیلة لتعرف أفراد مستعمرة البطریق على بعضهم البعض من بین الآلاف من البطاریق. ولکن کیف أمکن لهذه الطیور المتشابهة فیما بینها إلى حد التطابق أن تمتلک أصواتا مختلفة بعضها عن بعض؟ وکیف اکتسبت هذه الطیور قابلیة التمییز بین الأصوات المختلفة؟ من المستحیل أن تکون طیور البطریق قد اکتسبت هذه القابلیة بمحض إرادتها، إذن من الذی وهبها هذه المیزة الفریدة ؟

ما هو العنصر من عناصر الطبیعة الذی تولى هذه المهمة؟ هل هو الجلید فی المنطقة القطبیة ؟ أم الصخور ؟ الجواب قطعا لیست هذه العناصر أو أحدها لأنّ هذه العناصر التی یتحدث عنها دعاة التطور بدورها مخلوقة، إذن فالجواب الواضح الذی لا لبس فیه هو أن الله هو الذی وهبها میزة الصوت المختلف وجعل هذه الطیور ذات قدرة على تمییز الأصوات المختلفة وهو الذی یسر لها معیشتها بهذه الصورة المعجزة وهو البارئ المصور.

تضحیة الکائنات الحیة داخل العائلة الواحدة

تضحیة الکائنات الحیة داخل العائلة الواحدة

إنّ قسما من الکائنات الحیة یقضی حیاته أو جزءا کبیرا من حیاته مع باقی أفراد ما یسمى "بالعائلة", فنجد على سبیل المثال البطریق والبجع, إذ یعیش هذان الحیوانان مع زوجیهما طیلة فترة حیاتهما، أمّا إناث الأسود والفیلة فتعیش مع أمهاتها أو أمهات أمهاتها24. وعموما یتصف ذکور اللبائن بإنشاء عائلات خاصة بهم فتتألف هذه العائلات من الذکور والإناث والصغار. وإنشاء هذه العائلات یلقی مسؤولیة على عاتق البالغین لأن الذکور فی هذه الحالة ینبغی علیها الذهاب للصید أکثر من ذکور الأنواع التی تعیش وحیدة، وینبغی علیها الدفاع لیس فقط عن نفسها بل عن أفراد العائلة أیضا، ثم إنّ الدّفاع عن الصغار یتطلب تضحیة کبیرة .

وعملیة إنشاء عائلات والدفاع عنها یتطلب جهدا کبیرا وتحمّل مخاطر جسیمة و ترک الخلود إلى الراحة. وهذه العملیة تثیر تساؤلا مهمّا مفاده : لماذا تختار الحیوانات هذا الطریق الصعب. ؟

واختیار الحیوانات لهذا الطریق المحفوف بالمخاطر یبطل نظریة داروین والتی تقول بأن البقاء للأقوى، والموت والفناء للأضعف, فنحن سنرى فی الصفحات القادمة من خلال أمثلة عدیدة کیف تصمد, بل سنکتشف کیف أن الحیوانات الأقوى تعمل على المحافظة على حیاة هذه الحیوانات الضعیفة و بأنبل صورة للإیثار والتضحیة .

غریزة الحفاظ على النسل

غریزة الحفاظ على النسل

مثلما اتضح فی الصفحات السابقة فإن صفة التضحیة فی سلوک بعض الحیوانات لم یکن بإمکان دعاة التطور تفسیرها. وهناک أمثلة عدیدة للتضحیة فی الطبیعة تهدم الأساس الفکری لنظریة التطور حتى إن ستیفن جی جولد Stephen Jay Gouli یتحدث عن التضحیة فی الطبیعة کمشکلة عویصة تواجه نظریة التطور (21).

من جانب آخر یتحدث عنها جوردن تایلر Gorden Taylor باعتبارها مانعا أو سدا کبیرا أمام نظریة التطور لیعبرعن عمق المأزق الفکری الذی یواجه هؤلاء فی دفاعهم عن هذه النظریة. وهذه التضحیة والرأفة التی یمکن مشاهدتها فی الطبیعة تحمل مفاهیم کبیرة وتعتبر طعنة قاتلة فی جسد نظریة أولئک الذین ینظرون الى الطبیعة نظرة مادیة بحتة ویعتبرونها نتاج مصادفات لا غیر.

وهناک البعض من غلاة المؤمنین بنظریة التطور فسر هذه الظواهر تفسیرا آخر مختلفا سماه بقانون الجین الأنانی, ورائد هذه الفکرة أحد الغلاة فی وقتنا الحاضر ویدعى richard dawkins و هو یرى أن التضحیة التی تعبر عنها بعض الکائنات الحیة هی إلاّ نتاج أنانیتها، وحسب قوله فإن الحیوان عندما یبدی تضحیة ما فإنه لا یفعل ذلک دفاعا عن الباقین بل حفاظا على جیناته أی أنّ الأم عندما تذود عن صغیرها فهی فی الحقیقة تدافع عن الجینات التی تولدت منها لأنّ صغیرها عندما یتمّ إنقاذه فإنه یستطیع أن ینقل هذه الجینات إلى أجیال لاحقة، وعلى هذا الأساس تصبح الکائنات الحیة بما فیها الإنسان شبیهة بآلات لتولید الجینات ومسؤولة عن نقلها إلى أجیال لاحقة.

ویدعی هؤلاء بأن الکائنات الحیة مبرمجة على الحفاظ على النسل ونقل الجینات إلى أجیال لاحقة ولهذا تسلک سلوکا یلائم هذا البرنامج. ونورد مثالا على طریقة تفکیر هؤلاء وتفسیرهم لسلوک الحیوانات من خلال الاطّلاع على نصّ مأخوذ من کتاب فی علم الأحیاء یتبنى هذه النظریة و عنوانه: Essentails of Biology أو مبادئ علم الأحیاء والنص کما یلی:کیف یمکن تفسیر السّلوک الذی یقود صاحبه إلى الخطر من أجل إنقاذ غیره؟ بعض السّلوکیات المستندة إلى التضحیة مصدرها الجینات الأنانیة، والاحتمال الأکبر أن تکون الکائنات الحیة وهی تعرّض نفسها للخطر فی سبیل جلب الغذاء اللاّزم لصغارها تسلک هذا السلوک وفق برنامج جینی محدّد, وسلوکها هذا یهدف إلى سلامة انتقال الجینات من الأبوین إلى الأبناء ومنهم إلى أجیال لاحقة، ویبدوا ردّ الفعل هذا من الکائنات الحیة تجاه أعداءها نوعا من السلوک لتحقیق هدف معین, ویتجلى هذا البرنامج المعین للسلوک الحیوانی فی الرّائحة والصوت والمظهر الخارجی و أشکال أخرى (22).

ولو تأملنا فی النص السّابق لاتّضح لنا أن الکاتب یقصد بأن الکائنات الحیة فی سلوکها تبدو وکأنها تسعى إلى شیء معین لا عن درایة وفهم بل لأنها مبرمجة على أن تسلک مثل هذا السلوک، وهنا یطرح السؤال التالی نفسه: ما مصدر هذا البرنامج؟ والجین الذی نتحدث عنه هو شبیه بمجموعة من الشّفرات المعلوماتیة، ولکن هذه المجموعة من الشفرات لا تستطیع التفکیر، والجین یفتقد الذکاء والعقل والتقدیر. لهذا السبب إذا وجد جین خاص یدفع الکائن الحی إلى التضحیة فلا یمکن أن یکون هذا الجین هو الآمر بالتضحیة. لقد صمّم الحاسوب من قبل مصمم عاقل وذو درایة على أن یتوقف عن العمل عند الضغط على زر الإیقاف, إذن فالحاسوب لا یغلق من تلقاء نفسه و زر الإیقاف لا یعمل بالصدفة دون مصمّم. إنّ حدا قد برمج هذا الزر على أن یوقف الجهاز عن العمل عند الضغط علیه .

إذن فجینات الکائن الحی مبرمجة على دفع هذا الکائن الحی نحو التضحیة بنفسه, وهناک قوة ذات عقل ودرایة صممت وبرمجت هذه الجینات بهذه الصّورة، وهذه القوة تلهم الکائنات کل لحظة وتراقبها و تهدیها إلى اتّباع سلوک معین, وهذه القوة هی الله جلت قدرته، وهذه الحقیقة یذکرها القرآن کما یلی :" ولله یسجد ما فی السماوات وما فی الأرض من دابة والملائکة وهم لا یستکبرون# یخافون ربهم من فوقهم ویفعلون ما یؤمرون" الآیة 49 .سورة النحل .

" الله الذی خلق سبع سماوات و من الأرض مثلهن یتنزل الأمر بینهن لتعتموا أن الله على کل شیء قدیر و أن الله قد أحاط بکل شیء علما " الآیة 12 سورة الطلاق .

الکائنات الحیة لا تبدی تعاونا نحو أقربائها من حملة جیناتها فقط بل نحو الکائنات الحیة الأخرى أیضا کما سنرى أمثلة مفصلة عدیدة فی الباب الثالث من هذا الکتاب, فإن الکائنات الحیة لا تساعد صغارها فقط بل تمد ید العون نحو الکائنات الحیة الأخرى، وهذه الظاهرة شکلت مشکلة عسیرة الحل بالنسبة إلى نظریة التطور لأن هذه الظاهرة لا توحی برغبة فی الحفاظ على انتقال الجینات من نسل إلى آخر. وتحلل مجلةCientific American التی تتبنى هذه النظریة ظاهرة التعاون بین الحیوانات کما یلی: هناک مثال حی لتعاون حیوانین غیر قریبین من بعضهماالبعض جینیّا وهو تعاون ذکری حیوان البابون، فإذا حدث تنافس أو صراع بین ذکرین من هذا الحیوان یطلب أحدهما مساعدة من ثالث, ویبدأ الذی طلب المساعدة بهز رأسه إلى الأمام والخلف أی بین الذی جاء لنجدته وبین خصمه، ویفسر البعض هذا السلوک بأن الذی طلب المساعدة یعد الذی قدم لنجدته بالمساعدة مستقبلا إذا حدث و أن تعرض لأی مکروه. إلا أن نظریة التطور تعجز عن تفسیر کیفیة منع الخدیعة فی الصراع بین الذکور وتعجز أیضا عن تفسیر طلب الذکر للمساعدة مرة أخرى و الداّفع الذی یجعله یسلک مثل هذا السلوک, والحقیقة الحقیقة التی لا لبس فیها تتمثل فی أن الله سبحانه وتعالى یلهم المخلوقات ویدفعهاإلى أن تضحی بنفسها وهی تسلک هذا السلوک.

و سنذکر فی الصفحات القادمة أمثلة على التضحیة والرأفة والشفقة التی تبدیها الکائنات الحیة المختلفة، ویجب أن لا ینسى القارئ أن الّذی ألهم هذه الکائنات الحیة هذه التضحیة والرأفة والشفقة هو الله الذی خلقها فتبارک الله أحسن الخالقین .

والنتیجة: أنّ کل الکائنات الحیة تتحرک بواسطة إلهام إلهی.

والنتیجة: أنّ کل الکائنات الحیة تتحرک بواسطة إلهام إلهی.

کما ذکرنا فی الصفحات السابقة واجه دعاة نظریة التطور إشکالیات کبیرة تتعلق بتفسیر سلوک الحیوانات فی حین أنّ الحقیقة واضحة جلیة وهی عدم استطاعة الکائن الحی غیر العاقل أن یقوم بتمییز الفروق الواضحة أو أن یقوم بالربط بین الوقائع أو اتخاذ قرار صحیح, فضلا عن عدم قدرته على التخطیط لعدة مراحل مقبلة إلى جانب أشیاء أخرى تتطلب عقلا وتفکیرا و إدراکا. ویقول دعاة التطور إنّ هذه الکائنات الحیة مبرمجة على أداء هذه الأعمال، إذن من هو الذی وضع هذا البرنامج ؟ و ما هی القوة التی تجعل نحل العسل یفرز الشمع الخاص لبناء الخلیة ؟ والجواب واضح ودقیق، والإنسان الذی لدیه علم بطریقة معیشة الأحیاء ولوعلم بسیط یستطیع أن یتوصل إلى عدم إمکانیة تولد هذه الأنماط السلوکیة من تلقاء نفسها أو محض الصدفة بل الواضح أن هناک قوة تحکم هذه الطبیعة وتدیرها ولها تأثیر مباشر على سلوک الکائنات الحیة. وصاحب هذه القوة بلا شک هو الله الخلاق العلیم. و نظریة تعجز أن تفسر کیفیة خلق الکائن الحی لابد لها أن تقف عاجزة أمام تفسیر سلوک ذلک الکائن الحی ومصدره. لذا فإجراء الأبحاث حول سلوک الکائنات الحیة له أهمیة قصوى بلا شک لأن هذه الأبحاث تثبت أنه لا یوجد کائن حیّ یعیش جزافا أو دون ضابط، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذی یقوم بخلق الکائن الحی من العدم ویدبر أموره ویراقبه فی کل حین وینظم له سلوکه بقدرته, ربّ السماوات والأرض وما بینهما، وهذه الحقیقة وردت فی القرآن الحکیم . یقول الله تعالى فی کتابه الکریم:" إنی توکلت على الله ربی وربکم ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصیتها إنّ ربی على صراط مستقیم ". سورة هود الآیة 56.

روح التضحیة لدى الکائنات الحیة تفنّد ادعاء داروین بأن البقاء للأقوى

مثلما أسلفنا القول فی الصفحات السابقة فإن الأمر حسب ادعاء داروین یعتمد على قانون الانتخاب الطبیعی, أی أنّ الکائنات الحیة التی تستطیع أن تتکیف مع شروط الوسط الذی تعیش فیه تستطیع مواصلة حیاتها والحفاظ على نسلها, و أمّا الکائنات الضعیفة التی لا تستطیع التکیف مع تلک الشروط فهی معرضة للهلاک والفناء، و بناء على هذا یکون التعریف المنطقی للطبیعة وفقا لقانون الانتخاب الطبیعی لـداروین هو المکان الذی تقوم فیه الکائنات الحیة بکفاح مریر فیما بینها من أجل البقاء فیبقى القوی و یفنى الضعیف.

واستنادا إلى هذا التعریف ینبغی على کل کائن حی أن یکون قویا ومتمیزا بالقوة عن الآخرین فی سبیل الکفاح والبقاء. و فی وسط مثل هذا لا یمکن الحدیث عن بعض المیزات مثل الإیثار والتضحیة والتکافل, فهذه المیزات قد تصبح ذات آثار سلبیة على الکائن الحی نفسه. ویتمیز الکائن الحی وفقا لهذا المنطق بمنتهى الأنانیة ولا همّ له سوى البحث عن الغذاء وإنشاء البیت الذی یؤویه وأن یحمی نفسه من خطر الأعداء.

و لکن هل صحیح أن الطبیعة هی المکان الذی یضمّ کائنات حیة تخوض فما بینها صراعا مریرا للقضاء على بعضها البعض بمنتهى الوحشیة والأنانیة ؟. إن الأبحاث الجاریة بهذا الشأن حتى یومنا هذا قد أبطلت ادّعاءات دعاة التطور. فالطبیعة لیست کما زعم هؤلاء من أنها تمثل ساحة للحرب بین الأحیاء، إنّ الطبیعة على خلاف ذلک تحوی بین جیناتها أمثلة حیة للتضحیة بالنفس فی سبیل الآخرین. وهناک أمثلة لا یمکن حصرها تکشف صورا غایة فی التضحیة من أجل الغیر تملأ أرکان الطبیعة ویذکر جمال یلدرم فی کتابه "التطرف وقانون التطور ".

إن الأسباب التی جعلت داروین وغیره من رجالات العلم فی عصره یصورون الطبیعة على أنها تمثل مسرحا للحرب بین الأحیاء یمکن إجمالها فی النقاط التالیة: کان رجال العلم فی القرن التاسع عشر یقبعون فی مختبراتهم أو أماکن عملهم لمدة طویلة ولا یدرسون الطبیعة میدانیا و لهذا ذهب خیالهم ببساطة إلى الاستسلام لفکرة کون الکائنات الحیة فی حالة حرب صامتة فیما بینها، وعالم فذ مثل هالی Haley لم یستطع إنقاذ نفسه من براثن هذا الوهم (16).

أما العالم بتر کروبوتکین Peter Kropotkin الذی یؤمن أیضا بنظریة التطور فیذکر فی کتابه Mutual Aid:A Factor in Evolution أو " الهدف المشترک : العامل المؤثر فی التطور " الخطأ الذی وقع فیه داروین و مؤیدوه قائلا : داروین و مؤیدوه عرّفوا الطبیعة على أنها مکان تخوض فیه الکائنات الحیة حروبا مستمرة بین بعضها البعض. و یصور هاکسلی Haxley عالم الحیوان باعتباره حلبة مصارعة تقوم فیه الحیوانات بصراع مریر فیما بینها و تکون الغلبة من بینها للذکی والسریع وهو الذی یستطیع العیش لیبدأ فی الیوم التالی صراعا جدیدا وهکذا. و یتبین لنا منذ الوهلة الأولى أن وجهة نظر هکسلی بشأن الطبیعة لیست علمیة ….(17).

وهذا الوضع یعتبر شاهدا على عدم استناد نظریة التطور إلى ملاحظات علمیة، ویغلب على العلماء من دعاة هذه النظریة التزمت الفکری فی دعمهم للنظریة التی یؤمنون بها من خلال تحلیل بعض الظواهر الموجودة فی الطبیعة وفقا لهواهم. والحقیقة أن الحرب التی یدعی داروین أنّها تنتشر فی أرجاء الطبیعة تبین أنها خطأ کبیر لأننا لا نجد فی الطبیعة الأحیاء التی تکافح من أجل البقاء فقط بل نجد أیضا کائنات حیة تبذل تعاونا ملحوظا نحو الکائنات الحیة الأخرى, والأعجب من هذا أنها تؤثرها أحیانا على نفسها. ولهذا السبب یعجز دعاة التطور عن تفسیر ظواهر الإیثار لدى بعض الکائنات الحیة. و ورد فی مقال صادرة فی إحدى المجلات العلمیة النص التالی الذی یصور عجز هؤلاء: " المشکلة تکمن فی السبب الذی من أجله تتعاون الکائنات الحیة، وبالنسبة إلى نظریة داروین فهی تقول إنه ینبغی على کل کائن حی أن یکافح من أجل البقاء والتکاثر، ومعاونة باقی الکائنات الحیة یقلل من فرص نجاح ذلک الکائن الحی فی البقاء وعلى هذا الأساس ینبغی أن یزال هذا النمط السلوکی عبر التطور، ولکن الملاحظ أن الإیثار لا یزال موجودا فی سلوک الکائنات الحیة (18).

وأبسط مثال على الإیثار هو سلوک عاملات النحل فإنها تقوم بلسع أی حیوان یدخل إلى خلیتها وهی تعلم یقینا أنها ستموت، فإبرتها اللاسعة تبقى مغروزة فی الجسم الذی تلسعه و نظرا لارتباط هذه الإبرة الوثیق بالأعضاء الداخلیة للحشرة فإنها تسحب معها هذه الأعضاء خارجا متسببة فی موت النحلة. ویتضح من ذلک أنّ النحلة العاملة تضحی بحیاتها من أجل سلامة باقی أفراد الخلیة .

أمّا ذکر البطریق و أنثاه فیقومان بحراسة عشهما حتى الموت، فالذکر یسهر على رعایة الفرخ الجدید بین ساقیه طیلة أربعة أشهر متصلة دون انقطاع، ولا یستطیع طیلة هذه الفترة أن یتناول شیئا من الغذاء أماّ الأنثى فتذهب إلى البحر لتجلب الغذاء و هی تجمعه فی بلعومها وتأتی به إلى فرخها ویبدیان تفانیا ملحوظا من أجل فرخهما .

و یعرف عن التمساح کنه من الحیوانات المتوحشة إلا أنّ الرعایة التی یولیها لأبنائه تثیر الحیرة الشدیدة, فعندما تخرج التماسیح الصغیرة بعد فقس البیض تقوم الأم بجمعها فی فمها حتى تصل بها إلى الماء ثم تعکف على رعایتها وتحملها فی فمها أو على ظهرها حتى تکبر و یشتد عودها و تصبح قادرة على مواجهة المصاعب بنفسها، وعندما تشعر التماسیح الصغیرة بأی خطر سرعان ما تلوذ بالفرار ملتجئة إلى فم أمّها و هو الملجأ الأمین بالنسبة ألیها. إن هذا السلوک یثیر الاستغراب خاصة إذا علمنا أن التماسیح حیوانات متوحشة والمنتظر منها أن تأکل أبناءها و تلتهمهم لا أن ترعاهم و تحمیهم..

وهناک بعض الأمهات من الحیوانات تترک القطیع الذی تعیش فیه لترضع أولادها, فتتخلف الأم مع ولدها و تضل ترضعه حتى یشبع عن معرّضة حیاتها لخطر جسیم. والمعروف عن الحیوانات أنها تهتم بأولادها الذین ولدوا حدیثا أو الذین خرجوا من البیض لمدد طویلة تصل إلى أیام أو أشهر أوحتّى بضع سنین فتوفر هذه الحیوانات لصغارها الغذاء والمسکن والدفء و تقوم بالدفاع عنهم من خطر الأعداء المفترسین. وأغلب أنواع الطیور یقوم بتغذیة صغاره من 4-20 مرة فی الساعة خلال الیوم الواحد, أماّ إناث اللبان فأمرها مختلف إذ یتحتم علیها أن تتغذى جیدا عندما ترضع صغارها حتى توفر لهم اللبن الکافی, وطیلة هذه الفترة یزداد الرضیع وزنا بینما تفقد الأم من وزنها بشکل ملحوظ.

أما الطبیعی و المتوقع فی هذه الحالات فهو أن تهمل هذه الحیوانات غیر العاقلة صغارها و تترکها و شأنها لأن هذه الحیوانات غیر العاقلة لا تفهم معنى الأمومة أو العطف و لکنها بالعکس من ذلک تتحمل مسؤولیة رعایتها و الدفاع عنها بشکل عجیب.

و لا تقوم الأحیاء باتخاذ مثل هذا السلوک مع صغارها فقط وإنما قد تبدی العطف نفسه والحنان نفسه إزاء الحیوانات الأخرى أو الأفراد الأخرى التی تعیش معها فی المجموعات نفسها، و یمکن ملاحظة ذلک عندما تشح مصادر الغذاء, فالمتوقع فی مثل هذه الحالات العصیبة أن ینطلق القوی منها لیبید الضعیف ویستحوذ على ما یوجد من الغذاء، غیر أنّ الذی یحدث هو عکس ما یتوقعه دعاة التطور. و یورد کروبوتکین و هو معروف بتأییده لهذه النظریة أمثلة عدیدة تتعلق بهذا الموضوع منها مثلا: یبدأ النمل بتناول ما ادخره عندما تشحّ مصادر الغذاء بینما تبدأ الطیور بالهجرة بشکل جماعی إلى مکان آخر, کما تتوجه القنادس الشابة إلى الشمال والکبیرة فی السن إلى جنوب الأنهار حیث تعیش هناک مزدحمة (19).

والذی یفهم من هذه الأمثلة أنه لا وجود لمنافسة أو مزاحمة بین الحیوانات من أجل الغذاء بل بالعکس یمکن مشاهدة أمثلة عدیدة للتعاون والتضحیة بین الحیوانات حتى فی أقسى الظروف. و هی تعمل فی أحیان کثیرة على التخفیف من وطأة الظروف و قسوتها. و مع هذا فهناک مسألة یجب أخذها بعین الإعتبار وهی أن أیّا من هذه الحیوانات لا تملک عقلا أو فکرا یجعلها تتخذ هذه القرارات وتنشئ هذا النظام. إذن فکیف یمکن تفسیر تجمع هذه الحیوانات فی مجموعات ذات هدف واحد وتعمل مجتمعة لتحقیق هذا الهدف المشترک؟.

بلا شک إن الذی خلق هذه الأحیاء وألهمها اتباع ما ینفعها والذی یحافظ علیها هو الله رب العالمین جلّت قرته . و یقول الله سبحانه وتعالى فی کتابه المبین عن کیفیة رعایته الإلهیة للکائنات "و ما من دابة فی الأرض إلاّ على الله رزقها و یعلم مستقرها و مستودعها کلّ فی کتاب مبین ". سورة هود الآیة 6

أمام هذه الحقائق فی الطبیعة تسقط ادعاءات دعاة التطور عن کون الطبیعة مسرحا للحرب لا ینتصر فیها إلا من کان أنانیا و من لا یرى سوى مصالحه فقط ویوجهJohn Maynard Smith أحد دعاة التطور المشهورین سؤالا لأقرانه فی الفکر یتعلق بهذا النوع من السلوک لدى الحیوانات: إذا کان الانتخاب الطبیعی یعنی اختیار الصفات الصالحة للکائن الحی والتی تضمن له بقاءه وتکاثره فکیف یمکن لنا أن نفسر صفة التضحیة لدى بعض الحیوانات ؟ (20)

3-سقوط فکرة تطور الغرائز بتطور الأحیاء

3-سقوط فکرة تطور الغرائز بتطور الأحیاء

تدعی نظریة التطور بأن الکائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور. ووفقا لهذه النظریة تکون الزواحف قد نشأت من الأسماک والطیور من الزواحف... ولکن یجب أن لا ننسى أن النوع الواحد یختلف تماما من حیث السلوک حیث تختلف السمکة عن الزواحف من حیث السلوک اختلافا کلیا. ویدور السؤال التالی: هل تعرض سلوک الکائن الحی إلى تطور کما تعرض بناؤه الحیوی البیولوجی الى تطور؟

وهذا التساؤل یعتبر أحد التناقضات والمآزق الفکریة التی وقع فیها دعاة نظریة التطور وقد وضع داروین إصبعه على هذا التناقض وتوصل الى استحالة اکتساب الغرائز بالانتخاب الطبیعی وتغیرها بالتطور حیث تساءل قائلا: هل من الممکن اکتساب الغرائز بالانتخاب الطبیعی وتطویرها وتغییرها فیما بعد ؟ ماذا یمکننا القول أمام بناء نحل العسل لخلیته بهذا الشکل الهندسی الذی سبق أخصّائیّی الریاضیات بزمن سحیق ماذا یمکننا القول أمام هذه الغریزة (14). وهذا التناقض یمکن إیراد الأمثلة المختلفة علیه من کافة أنواع الحیوانات کالأسماک والزواحف والطیور. فالأسماک لها صفات خاصة بها من حیث التکاثر والصید والدفاع عن النفس فضلا عن إنشاء منازلها بطریقتها الخاصة، وهذه الصفات الخاصة فی حالة تلائم تماما الوسط المائی الذی تعیش فیه. وهناک بعض الأنواع من الأسماک تقوم بلصق بیضها تحت الأحجار الموجودة فی قاع البحر وبعد لصقها لبیضها تقوم برفرفة زعانفها فوقها لتتیح أکبر کمیة من الأکسیجین اللازمة لتنفس الأجنة الموجودة داخل البیض.أمّا الطیور فتضع بیضها فی أعشاش ذات بناء خاص تبنیها لهذا الغرض وترقد على بیضها مدة زمنیة محددة لازمة لفقس البیض .

أما التماسیح والتی تعتبر حیوانات بریة فتملک سلوکا معاکسا تماما فتقوم بدفن بیضها تحت الرمال مدة شهرین کاملین لازمة لفقسها، وهناک بعض الأسماک تقوم بوضع بیضها داخل الأحجار الموجودة فی قاع البحر ومن جانب آخر هناک بعض الحیوانات البریة تقوم ببناء مساکنها على أطراف الأشجار العلیا باستخدام الأغصان وقشور الأشجار، أما الطیور فتنشأ أعشاشها باستخدام الأعشاب والنباتات البریة أما اللبان التی یدعون أنها نشأت من الزواحف فتختلف من حیث التکاثر اختلافا کلیّا عن باقی الکائنات الحیة . فبینما تکون باقی الحیوانات تتکاثر بالبیض تتکاثر اللبان بأن تحمل أجنتها داخل بطونها أشهرا عدیدة وبعد أن تضع جنینها تقوم بتغذیته باللبن الذی یفرزه جسمها.

وهناک أسلوب للصید مختلف لکلّ نوع من أنواع الأحیاء, فبینما یبقى بعضها کامنا للصید فترة طویلة یکون البعض منها متخفیا بلون المکان الموجود فیه والبعض الآخر یعتمد على السرعة والمباغتة. وکما یتضح هناک اختلاف کبیر وشاسع بین الحیوانات البریة والحیوانات المائیة وکلّ نوع یتمیز باختلاف واضح حسب الوسط الذی یعیش فیه.

من هذا العرض نستنتج أن التغییر فی الغرائز ینبغی أن یکون مصاحبا للتطور الحاصل فی الأحیاء. على سبیل المثال أن تصبح السمکة التی تضع بیضها تحت أحجار قاع البحر وترفرف بزعانفها رعایة لها حیوانا بریّا تقوده غریزته المتطورة إلى بناء أعشاش خاصة على أطراف الأشجار و یرقد على البیض مدة معینة لأجل تفقیسها. وهذا الأمر محال طبعا، والاستحالة الأخرى فی هذا الموضوع یمکن توضیحها بفرض عدم استطاعة الکائن الحی العیش نتیجة عدم ملاءمة سلوکه غیر المتطور لبنیته المتطورة نتیجة تغیر الوسط الذی یعیش فیه حیث لا تستطیع السمکة التی تتقن التّخفی فی البحر العیش إلا بعد إیجادها وسیلة جدیدة للدفاع, بالإضافة إلى ضیق الوقت لتحقیق ذلک لأنه یجب أن تقوم بتغییر سلوکها وطریقة حیاتها وبناء جسمها بصورة مستمرة وإلاّ فإنها معرضة للهلاک وانقراض نسلها.

ومن الواضح أنه لا یوجد حیوان غیر عاقل یمتلک القابلیة لاتخاذ مثل هذا القرار السریع والإستراتیجی الّذی یتطلب قوى عقلیة . إذا فکیف یتم تفسیر سلوک الحیوانات الملائم لبناء أجسامها وشروط الوسط الذی تعیش فیه ؟ وأدلى داروین بدلوه فی هذا الخصوص فی معرض رده على النـقد الموجه لکتابه "أصل الأنواع " قائلا : کان هناک اعتراض على فکرة أصل الأنواع مفاده أنه ینبغی أن یکون التغییر الحاصل فی بناء الکائن الحی متزامنا مع التغییر فی غرائزه فضلا عن کونهما متلائمین مع بعضهما لأن أی تباین یحدث بینهما یعنی الموت المحتم "(15).

یتضح مما تقدم أنه لا یمکن تفسیر سلوک الحیوان بواسطة التطور عبر الزمن أو بالصدفة أو بتأثیر الطبیعة الأم. إذن فکیف اکتسبت الکائنات الحیة تلک الصفات والخصائص التی تتیح لها مواصلة حیاتها؟ والجواب على السؤال فی غایة الدقة والوضوح . فالإنسان المطلع على طریقة معیشة الأحیاء یستطیع أن یرى استحالة تشکل هذه الأنماط السلوکیة من تلقاء ذاتها أو بواسطة سلسلة من المصادفات. ومصدر هذه الأنماط السلوکیة لا یوجد فی أجسامها ولا فی المحیط الذی تعیش فیه. إذن فهناک عقل وقوة لا یمکن رؤیتهما بالعین المجردة یقومان بإدارة سلوک هذه الکائنات الحیة. ولا شک أن صاحب هذا العقل وهذه القوة هو الله سبحانه وتعالى والذی وسعت رحمته کل شیء.

الغرائز لا یمکن أن تتطور

الغرائز لا یمکن أن تتطور

إنّ دعاة نظریة التطور یجادلون بکون أغلب سلوک الحیوانات نتیجة للغریزة، ولکن کما أسلفنا القول فی الصفحات السابقة لا یستطیعون إیراد تفسیر مقبول عن کیفیة نشوء الغرائز و لا عن کیفیة ظهور الغریزة لأول مرة و لا عن کیفیة اکتساب الحیوانات لهذه الغرائز، ولو حوصر أحدهم بالأسئلة لتعلق بالإدعاء التالی: "تکتسب الحیوانات أنماطا سلوکیة عن طریق التجربة ویتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبیعی. وفی مرحلة لاحقة یتم توارث هذه الأنماط السلوکیة الناجحة عبر الأجیال المتعاقبة".

وهناک أخطاء منطقیة ولا یمکن أن یقبلها العقل فی هذا الإدعاء، ودعونانتفحص هذه الأخطاء بالتسلسل:

1-الأخطاء الکامنة فی المقولة : اختیار السلوکیات المفیدة عبر الانتخاب الطبیعی:

إنّ الانتخاب الطبیعی یعتبر الحجر الأساس لنظریة "تشارلس دروین" الخاصة بـالتطور. والانتخاب الطبیعی یعنی اختیار أی تغییر مفید وصالح للکائن الحی (قد یکون هذا التغییر هیکلیا أو سلوکیا ) واختیار ذلک الکائن الحی لتوریث ذلک التغییر للأجیال اللاحقة .

وهناک نقطة مهمة فی هذا الإدعاء یجب أن لا نغفل عنها وهی: کون الطبیعة حسب ادعاء داروین تعتبر المحک لتمییز المفید من الضار وهی القوة المؤثرة والعاقلة فی الوجود ولکن لا یوجد فی الطبیعة ما یمیز بین الضار والمفید کقوة مؤثرة حیث لا یوجد بین الحیوانات أو غیر الحیوانات ما یملک قرار ذلک أو القابلیة على اتخاذ هذا القرار، فقط من خلق الطبیعة وما تحتویه وخلق کل شیء یملک العقل والمنطق والقدرة على تمییز الضار من المفید.

فی الحقیقة داروین یعترف بنفسه باستحالة اکتساب السلوکیات المفیدة عن طریق الانتخاب الطبیعی إلا أنه یعود و یدافع عن وجهة نظره التی هی محض خیال واستمر فی الدفاع عن رأیه بالرغم من کونها هرطقة وغیر منطقیة حیث یقول: فی النهایة یمکن اعتبار الغرائز التی تجعل زغلول الحمام یطرد إخوانه غیر الأشقّاء من العش، وتجعل مملکة النحل مقسمة إلى خدم وملکة لیست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصیل حیة وصغیرة لدستور عام لعالم الأحیاء وهذه التفاصیل الصغیرة تتولى مهمة التکثیر و التغییر عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولکن هذا الاعتبار لا یبدو لی منطقیا ولکنه قریب إلى الأفکار التی تدور فی مخیلتی (8).

ویعترف داعیة آخر لنظریة التطور وهذه المرة فی ترکیا وهو البروفیسور جمال یلدرم بأن عاطفة الأمومة لدى الأم لا یمکن تفسیرها بواسطة الانتخاب الطبیعی ویقول بهذا الصدد :

"هل توجد إمکانیة لتفسیر عاطفة الأمومة تجاه الأبناء بواسطة نظام أعمى یفتقد إلى مشاعر روحیة مثل نظام الانتخاب الطبیعی ؟ وبلا شک فشل علماء الأحیاء ومنهم مؤیدو داروین فی إیراد جواب مقنع لهذا السؤال. وهنالک صفات معنویة لدى الکائنات الحیة غیر عاقلة و بما أنها لا تستطیع أن تکتسب هذه الصفات بإرادتها فإذن یجب أن یکون هناک من منحها هذه الصفات، وحیث أن الطبیعة و قانون الانتخاب الطبیعی عاجزان عن إکساب الأحیاء هذه الطبیعة المعنویة بسبب کونهما یفتقدان للصفات المعنویة، والحقیقة الساطعة کالشمس تتمثل وجود کافة الأحیاء تحت العنایة الإلهیة و تدبیره المحکم، ولهذه الأسباب المتقدمة نستطیع أن نشاهد فی الطبیعة أنماطا سلوکیة لبعض الحیوانات تثیر الحیرة والاستغراب وتجعلنا نتساءل: کیف تسنى لهذا الحیوان الاهتداء إلى هذا السلوک ؟ وکیف یستطیع هذا الحیوان أو ذلک التفکیر بهذه الطریقة؟

2-الأخطاء الخاصة بتوارث السلوکیات المفیدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبیعی:

الخطوة الثانیة لمؤیدی داروین هی ادعاؤهم بأن السلوکیات المفیدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبیعی یتم توارثها عبر الأجیال وهذا الإدعاء ضعیف وهش للغایة من مختلف الوجوه. قبل کلّ شیء فإن أی سلوک جدید یکتسبه الحیوان عن طریق التجربة لا یمکن توریثه لجیل لاحق بأی حال من الأحوال لأن التجربة المکتسبة تخص ذاک الجیل وحده ولا یمکن إدخال هذه التجربة السلوکیة الجدیدة المکتسبة فی البناء الجینی للحیوان إطلاقا .

ویقول Gordon R.Taylor مبدیا رأیه المناهض لرأی أولئک الذین یدعون توارث الأنماط السلوکیة عبر الأجیال المتعاقبة بما یلی :" یدعی علماء الأحیاء بأن هناک إمکانیة لتوارث الأنماط السلوکیة عبر الأجیال المتعاقبة ویمکن مشاهدة هذه الظاهرة فی الطبیعة مثلا العالم :Dobzhansky یدعی بأن جمیع وظائف جسم الکائن الحی ما هی إلاّ نتاج التوارث النّاتج بتأثیر العناصر والعوامل المتوفرة فی المحیط الخارجی، وفی هذه الحالة یکون الأمر مقبولا بصورته النهائیة بالنسبة لجمیع أنواع الأنماط السلوکیة، ولکن هذا غیر صحیح بالمرة ویعتبر أمرا محزنا أن یکون هذا رأی عالم له مکانته مثل Dobzhansky . ویمکن القول أن هنالک بعض الأنماط السلوکیة لبعض الأحیاء یتم توارثها عبر الأجیال اللاحقة ولکن لا یمکن تعمیم الأمر على جمیع الأنماط السلوکیة" .

والحقیقة الظاهرة للعیان عدم وجود أی دلیل علمی یمکن بواسطته إثبات توارث بعض الأنماط السلوکیة بواسطة الخریطة الجینیة للکائن الحی والمعروف أن الجینات مسؤولة فقط عن بناء البروتینات حیث یتمّ بناؤها أکثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السیطرة على سلوک الکائن الحی (بصورة عامة) وعلى سبیل المثال أن یکون الحیوان نشیطا أو بالعکس خاملا أو أن یکون الولید أکثر ارتباطه بأمه، ولکن لا یوجد أی دلیل یثبت توارث السلوک الخاص الذی یجعل الحیوان یبنی عشه بالترتیب والتزامن والانتظام المعروف0

ولو کان الأمر کذلک فإذن ما هی الوحدات الوراثیة المسؤولة عن عملیة التوریث ؟ لأن هناک فرضیات تثبت وجودها، ولم یستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال (10).

وکما أفاد به Gordon R.Taylor فإن الادعاء بکون الأنماط قابلة للتوارث أمر غیر مقبول علمیا، فبناء الطیور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع یقتضی وجود نوع من الأنماط السلوکیة المعقدة کالتصمیم والتخطیط للمستقبل و هذه لا یمکن توارثها عبر الأجیال وهناک مثل آخر یفرض نفسه بشدة وهو المتعلق بسلوک العاملات القاصرات فی مملکة النمل .

فهذه العاملات لها سلوک خاص تتمیز به یقتضی منها أن تکون على درایة تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، ولکن هذه الأنماط السلوکیة لعاملات النمل لا یمکن أن تکتسب بالتوارث لسبب وحید کونها قاصرات ولا یمکن لها التکاثر لذا فلا تستطیع توریث هذه الأنماط السلوکیة لأجیال لاحقة، ومادام الأمر کذلک ینبغی توجیه السؤال الآتی لدعاة نظریة التطور : کیف تسنى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السلوکیة لأجیال لاحقة من العاملات القاصرات وهی بالتأکید لا تستطیع التکاثر ؟ وما تزال هذه العاملات سواء کانت نملا أو نحلا أو أی حیوان آخر تعمل منذ ملایین السنین بهذا السلوک الذی یعکس مدى العقلانیة والقابلیة والتکافل و الانتظام وتوزیع الأدوار بدقة إضافة إلى روح التضحیة إلا أن هذه المخلوقات لم تستطع البتة أن تورث هذه الأنماط السلوکیة منذ خلقت لأول مرة .

ولا یمکننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهدا فی اکتساب هذه الأنماط السلوکیة لأنها تبدأ فی اتباع هذا السلوک منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأکمل صورة. ولا تصادف فی أی طور من أطوار حیاتها أیة مرحلة للتعلیم و جمیع سلوکها مکتسب بالفطرة, وهذا الأمر جائز مع جمیع الکائنات الحیة. إذن فمن الذی علم الکائنات الحیة تلک الأنماط السلوکیة ؟ وهو السؤال نفسه الذی طرحه داروین قبل 150سنة ولم یستطع دعاة نظریة التطور الإجابة عنه، و هناک تناقض عبر عنه داروین نفسه قائلا :

"إنه لخطأ کبیر أن نتحدث عن فرضیة اکتساب الأنماط السلوکیة الغریزیة بالتطبع وتوریثها إلى أجیال لاحقة، لأننا کما نعلم هناک غرائز محیرة للغایة کتلک التی عند النمل أو النحل ولا یمکن البتة اکتسابها بالتطبع" (11).

فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أیة حشرة أخرى قد اکتسبت جمیع صفاتها المتمیزة عبر الانتخاب الطبیعی وبالتدرج, أی افترضنا أنها عملیة انتخاب للصفات الصالحة ثم یتمّ توریثها بعد ذلک إلى أجیال لاحقة وبصورة متعاقبة وفی کل مرة یتم انتخاب صفات مفیدة وتورث إلى جیل لاحق وهکذا, لو افترضنا ذلک لأصبحت فرضیتنا مستحیلة لسبب وحید و هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبویها إلى حد کبیر إضافة إلى کونها عقیمة, و لهذا فهی لا تستطیع توریث الصفات والأنماط السلوکیة الجدیدة المکتسبة إلى الأجیال اللاحقة. وهنا یطرح السؤال نفسه: کیف یمکن تفسیر هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبیعی (1).

ویعبر جمال یلدرم أحد المؤمنین بنظریة التطور عن التناقض الذی وقع فیه المتبنّون لهذه النظریة: ولنأخذ على سبیل المثال الحشرات التی تعیش على شکل مجتمعات مثل النمل أو النحل, فهذه الحشرات عقیمة ولیست لدیها أیة إمکانیة لتوریث أیة صفات حیویة جدیدة تنقلها إلى أجیال لاحقة إلا أنها تبدی تکیفا مدهشا مع ظروف المحیط الذی توجد فیه وعلى أعلى المستویات. (13)

ویتضح مما تقدم من اعترافات العلماء و أقوالهم استحالة تفسیر الأنماط السلوکیة المحیرة لهذه الکائنات الحیة بواسطة نظریة التطور لأن هذه الأنماط السلوکیة لم تکتسب عبر الانتخاب الطبیعی ولا یمکن توریثها إلى أجیال لاحقة.

ما الغریزة ؟

ما الغریزة ؟

کلمة الغریزة تستخدم من قبل دعاة نظریة التطور لتفسیر قابلیة الحیوان القیام بسلوک معین منذ الولادة. وکانت هناک تساؤلات عدیدة تدور حول کیفیة اکتساب الحیوانات لهذه الغریزة وعن کیفیة ظهور أول سلوک غریزی لدى الحیوانات وکذلک عن کیفیة انتقال هذه الغریزة کابرا عن کابر. کل هذه التساؤلات باقیة بدون رد أو جواب.

هناک أخصائی فی علم الجینات وأحد دعاة نظریة التطور ویدعى Gordon Taylor rottary

فقد ذکر فی کتابه "The great evolution Myster"أو "سر التطور العظیم " اعترافا بعجز النظریة عن الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغریزة کما یلی :

لو تسائلنا عن کیفیة ظهور أول سلوک غریزی وعن کیفیة توارث هذا السلوک الغریزی لما وجدنا أیة إجابة (4).

"وهناک آخرون على شاکلة "Gordon Taylor" یؤمنون بنظریة التطور لا یودون الاعتراف بهذه الحقیقة وبدلا من ذلک یحاولون التمسک بإجابة غامضة ولا تحمل أیة معانی حقیقیة. وبالنسبة لرأی هؤلاء فإن الغرائز تعتبر جینات موجودة لدى الحیوانات تظهر على شکل أنماط سلوکیة، واستنادا إلى هذا التعریف یقوم نحل العسل ببناء الخلیة على الشکل المنتظم المعروف بوحدات بنائیة هندسیة مسدسة وفق الغریزة الحیوانیة و بمعنى آخر یوجد جین خاص فی أجسام کل أنواع نحل العسل یجعل هذه الأنواع تبنی خلایاها غریزیا وفق الشکل المعروف.

وفی هذه الحالة یطرح الإنسان العاقل المفکر سؤاله المنطقی: لو کانت الکائنات الحیة مبرمجة على أن تسلک هذا السلوک المعین فمن الذی برمج هذا السلوک؟ إذ لا یوجد أی برنامج مبرمج من تلقاء نفسه ولابد من مبرمج .

ودعاة نظریة التطور لم یجدوا إجابة محددة لهذا السؤال واستخدموا أسلوبا آخر للمناورة حیث یؤکدون على اکتساب الکائنات الحیة لهذه الغریزة عن طریق الطبیعة الأم وکما نعلم فإن الطبیعة الأم تتألف من الحجر و التراب و الأشجار والنباتات ..الخ . ومن من هذه العناصر لها القدرة على إکساب الکائنات الحیة هذا السلوک المبرمج؟ أیّ جزء من الطبیعة لدیه القدرة والعقل على فعل ذلک ؟کل ما نراه فی الطبیعة مخلوق و لا یمکن له أن یکون خالقا، ولا یمکن للإنسان العاقل أن یقول وهو یرى لوحة زیتیة جمیلة ما أحلى الأصباغ التی رسمت هذه اللوحة بلا شک یکون هذا الکلام غیر منطقی. إذن فإن ادعاء کون المخلوق خالقا للأشیاء هو بلا شک ادعاء غیر منطقی. وهنا تظهر لنا حقیقة واضحة وهی عدم اکتساب هذه الکائنات الحیة غیر العاقلة لهذه المیزات السلوکیة المنطقیة من تلقاء نفسها, فهذه المیزات مکتسبة بالولادة إذن فإن هناک من خلقها بهذه الکیفیة ویتمیز صاحب هذا الإبداع بالعلم والعقل اللامتناهیین الذین نراهما فی الطبیعة.

و بلا شک فإن صاحب هذا العلم والعقل هو الله سبحانه وتعالى. وذکر الله سبحانه وتعالى فی الذکر الحکیم نحل العسل کمثال على إلهامه الکائنات الحیة لاتباع سلوک معین، أی أن الغریزة التی یرددها دعاة نظریة التطور أو کما یقولون: " إن الحیوانات مبرمجة على آداء سلوک معین" ما هی إلا إلهام إلاهی لهذه الکائنات الحیة, وهذه الحقیقة مذکورة فی القرآن الکریم:" وأوحى ربک إلى النحل أن اتخذی من الجبال بیوتا ومن الشجر ومما یعرشون ثم کلی من کل الثمرات فاسلکی سبل ربک ذللا یخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فیه شفاء للناس إن فی ذلک لأیة لقوم یتفکرون" سورة النحل الآیة 68-69 "

ودعاة نظریة التطور یغمضون أعینهم أمام هذه الحقیقة لإنکار الوجود الإلهی، وهم بالتأکید قد رأوا ومازالوا یرون الأنماط السلوکیة للحیوانات ومازالوا یبحثون عن تفسیر لها ویعلمون یقینا عدم قدرة نظریة التطور على تفسیر هذه السلوکیات تفسیرا منطقیا. وکثیرا ما نجد عبارات وجملا مألوفة عند قراءتنا لمؤلفین من دعاة هذه النظریة ومن هذه العبارات:"..لإنجاز هذا العمل لابد من وجود عقل ذو مستوى عال ولکون الحیوانات لاتملک مثل هذا العقل فإن العلم یعجز عن الإجابة عن هذا السؤال ". ونورد المثال الآتی المتعلق بسلوک دودة القز على لسان أحد دعاة نظریة التطور المعروفین و یدعى Haimar Von Dithfurth هیرمان فون دیثفورت حیث یقول : إن فکرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة کوسیلة للتمویه فکرة باهرة, ترى من یکون صاحب هذه الفکرة؟ من صاحب هذه الفکرة الذکیة التی تقلل من احتمال عثور الطیر على الفریسة التی یبحث عنها؟ ولابد للدودة أن تکون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفکرة الذکیة …کل هذه الظواهر لابد أن تتوفر لدى إنسان ذکی للغایة یحاول أن یظل على قید الحیاة ولابد لنا أن نقبل بهذه الحقیقة، علما أن لدودة القز جهازا عصبیا بسیطا للغایة فضلا عن بدائیة سلوکها الحیاتی, وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابلیّة تحدید هدف معین والتحرک باتجاه هذا الهدف.

ولکن کیف یتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسیلة للدفاع عن نفسها وهی بهذا الضعف من التکوین ؟ .وعندما جابه علماء الطبیعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم یجدوا لها تفسیرا إلاّ بـالمعجزة أی تبنوا فکرة وجود قوة غیر طبیعیة خلاقة أی آمنوا بوجود الله الذی یعطی مخلوقاته آلیات معینة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إلیّ هذه الطریقة فی التفکیر تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث فی الطبیعة ومن جانب آخر یقوم العلم الحدیث بتفسیر هذه الظواهر تفسیرا خالیا من أی معنى عبر التمسک بمفهوم الغریزة، لأنه على عکس ما یعتقده أغلبنا فإن تفسیر السلوک بالغریزة یعنی اکتساب الحیوان لهذه الأنماط السلوکیة بالولادة، وهذا التفسیر لا یقدم ولا یؤخر فی تساؤلنا بل یعیق بحثنا عن إجابة محددة وواضحة، ولا یمکن الحدیث عن السلوک العقلانی لدودة القز التی تفتقد وجود مثل هذا العقل.

ومرة أخرى نعود إلى الحدیث حول السلوک المعین للحیوانات فإن هناک ما یفرض نفسه أمام أعیننا وهو الترتیب العقلانی لهذه الأنماط السلوکیة، ولو لم یکن هذا السلوک المعین مثل تحدید الهدف أو التحسب للمستقبل أو توقع ما یمکن أن یقدم علیه أی حیوان آخر وحساب رد الفعل اللازم إبداءه تجاهه کعلامة على وجود عقل مدبر ومفکر، فإذن ما هو تفسیر هذا السلوک ؟" (5).

هذا الکلام یقوله هذا المتبنی لنظریة التطور وهو یحلل أو یحاول أن یصل إلى تحلیل منطقی لسلوک دودة القز, هذا السلوک العقلانی والمدروس، ولا یمکن أن نجد فی مثل هذه الکتب والإصدارات إلا أسئلة بدون ردود واضحة أو تناقضات فکریة لا تؤدی إلاّ إلى طریق مسدود. حتى صاحب النظریة تشارلس دروین نفسه قد اعترف بهذه الحقیقة فذکر أن سلوک الحیوانات وغرائزها تشکل تهدیدا واضحا لصحّة نظریته وذکر ذلک فی کتابه "أصل الأنواع" عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فیها : "أغلب الغرائز تمتاز بتأثیر بالغ وتثیر درجة کبیرة من الحیرة، وکیفیة نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظریتی کافیة لهدم نظریتی من الأساس" (6).

أما نجل تشالس داروین المدعو فرانسیس داروین فقد قام بتحلیل وشرح رسائل أبیه فی کتاب أسماه "الحیاة ورسائل تشارلس داروین" "the life and letters of darwin" وذکر مدى الصعوبات التی واجهها داروین فی تفسیره للغرائز قائلا :فی الکتاب (یعنی أصل الأنواع ) وفی الباب الثالث منه یتحدث فی القسم الأول عن العادات الحیوانیة والغرائز والاختلاف الحاصل فیها ..والسبب فی إدخال هذا الموضوع فی بدایة الباب تشرید فکر القراء عن إمکانیة رفضهم لفکرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبیعی، ویعتبر باب الغرائز من أصعب المواضیع التی احتواها کتاب "أصل الأنواع" (7).