الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

االغلاف الخلفی

االغلاف الخلفی

 

إن الله تعالى الحکیم القوی ی القوة المطلقة هـــو الـﺫی قدر للإنسان جمیع ما یسمعه من قول وکل ما یصادفه من حوادث منـﺫ اللحظة التی فتح فیها عینیه على العالم. وقد خلق کل ﺫلک وفق تخطیط محکم وحکمة بالغة کما جاء فی قوله تعالى: ﴿إَنـﹽَا کُلَّ شَیْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ القمر، الآیة 49

ولـﺫلک فعلى الإنسان أن یخضع خضوعا کاملا لهـﺫا القدر الملیء بالحکمة والعلم. والمؤمن الـﺫی یکون قلبه مفعما بالإیمان، ویسلم أمره إلى الله تعالى لن یستسلم أبدا للحزن، ولن یصیبه الخوف ولن یغرق فی الیأس.

إن المؤمن لا یلیق به أن ینسى التوکل على الله تعالى وینتابه القلق والحزن والیأس والتشاؤم، ومن یکون هـﺫا حاله یشقى فی الدنیا ویغفل غفلة کبیرة عن مصیره فی الآخرة. وعلى العکس من ﺫلک، فالمؤمن الصادق، فی مواجهة بعض الأحداث التی یکون ظاهرها شر، لا ییأس بل یتوسم فیها الخیر ویعلم أن مع العسر یسرا. فالله تعالى بین فی الآیة 216 من سورة البقرة  أنه ﴿عَسَى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئًا وَهوَ خَیْرٌ لَکُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَیْئًا وَهوَ شَرٌّ لَکُمْ وَالله یَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾. والمؤمن الـﺫی یدرک هـﺫه الحقیقة یعیش فی سعادة متواصلة لا کدر فیها.

إن القدر الـﺫی بینه الله تعالى لا عیب فیه، والمؤمن ینظر إلى ملایین الحوادث المکونة لهـﺫا القدر فلا یرى فیها سوى الحکمة والجمال والکمال.      

 

الخاتمة

الخاتمة

 

 

    المؤمنون هم هؤلاء الذین یحیون بإذعان وتسلیم خالص لله تعالى, مدرکین أنه ما من  شیء, مهما کان دقیقا إلا وقد خلقه الله تعالى وقدّره حسب خطة معلومة. ومع أن المؤمنین قد یتعرضون لکافة أشکال الصعاب والمحن خلال حیاتهم, إلا أنهم لن یشعروا أبدا بالأسف أو یقولون "لیت هذا الأمر ما حدث   …."، فهم یؤمنون أنه لا بد وأن یکون هناک خیرا وهدفا سماویا وراء کل حدث. و لهذا فهم یحیون فی راحة و طمأنینة, حتى فی أحلک الظروف. بینما, الکافرون الغافلون عن هذه الحقیقة, یشعرون بقلق عظیم عندما تواجههم مواقف سیئة حسب نظرهم، فسرعان ما یجتاحهم الیأس و القنوط.  والحقیقة هی أن الإنسان بطبعه یبحث دوما عن العون والأمن بسبب ما قد تحدثه له المصاعب و المحن والمتاعب  من آلام جسدیة ونفسیة. لکن هذه المصاعب والمحن والمتاعب التی یتعرض لها من انقطعت صلته بالله تعالى تصبح کوارث علیه فلا یرى فیها سوى الشر والوبال، و هو لن ینجح أبدا فی تحریر نفسه من الخوف سواء من  المستقبل أو من الموت أو من المرض أو الفقر.

      إن الخلاص الوحید للإنسان هو فی تذکر أن الله تعالى قد خلق ووضع کل حدث لهدف سام ولخیر مؤکد. والمؤمن یتوکل على الله تعالى حق توکله عندما یبقى مدرکا لهذه الحقیقة، و یسلک بنفسه مسلک العابد المخلص، ولکن هذا لا یعنی أن یکون صامدا فحسب خلال هذه  المحن  بل  یصبر و یحتسب. ومن خصائص المؤمن الأخرى دوام  التقرب إلى الله تعالى بالصلاة وحسن التوکل علیه, والیقین بأن ما یقع هو من عنده تعالى.

   فی هذه الحیاة الدنیا، یبتلى المؤمن بأنواع عدیدة من الامتحانات وهو یسیر نحو الله تعالى للفوز بالجنة. و خلال هذه الامتحاات, یسعى المؤمن بخطى ثابتة وعزم کبیر لکسب رضاه  تعالى و جنته. وغایته أن یفوز برضى الله تعالى وینجی نفسه من عذاب جهنم, وهو فی أثناء ذلک یرى الخیر فی کل ما یقع له ومن حوله. ومع أنه قد لا یدرک الخیر إلا أنه یتذکر دوما أن الله تعالى هو العالم بحکمة کل شیء. فالمؤمن جاء إلى هذه الدنیا لیعمرها حینا من الوقت, وعندما تحین ساعة انتقاله إلى الآخرة یأتیه الأمر بذلک. والله تعالى یخبرنا عن هذه النهایة الحتمیة التی ستقع لجمیع عباده المتقین العاملین العابدین, قال تعالى: (وَ سِیقَ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَیْکُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِینَ * وَ قَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِی صَدَقنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَیْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِینَ* وَ تَرَى المَلائِکَةَ حَافِّینَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ یُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِیَ بَیْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِیلَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِینَ) (سورة الزمر:73-74).   

   

 

بشارة الله تعالى وتأییده للمؤمنین

بشارة الله تعالى وتأییده للمؤمنین

 

 

لقد قال الله تعالى فی القرآن الکریم: (وَ لَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لاَ یُؤْمِنُونَ) (سورة الرعد:1), أی أن الکافرین یشکلون فی الغالب السواد الأعظم من البشر على هذه الأرض. فهم دائما یفوقون المؤمنین  عددا. لهذا السبب, فهؤلاء الجاهلون یعتبرون أنفسهم على المنهج الصحیح. إنّ مقدار الثروة المادیة تخدعهم بشعور زائف من الأمان. فهم یدرکون فقط ظاهر الأمور, مما یجعلهم یخطئون الظن بأنهم الغالبون. ولکن, تبقى هناک حقیقة لم یدرکوها؛ ألا وهی بشارة الله تعالى وتأییده للمؤمنین: (وَلَنْ یَجْعَلَ الله لِلْکَافِرِینَ عَلَى المُؤْمِنینَ سَبِیلاً) (سورة النساء :141).

وکما تشیر إلیه الآیة الکریمة, فإن الله تعالى یضع کل شیء لمصلحة المؤمنین ویؤمن لهم الدعم بطرق شتى. ففی سورة الشرح, یخبر الله تعالى المؤمنین بأمر قد خفی عنهم, أن للمسلم  مع کل عسر هناک من غیر ریب, یسر. والله الذی یجعل لکل داء دواء, ینزل الیسر بعد العسر، قال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ یُسْرًا إِنَّ  مَعَ العُسْرِ یُسْرًا ) (سورة الشرح:5-6).

فقط المؤمنون هم من یعون هذا التأیید والعون الممنوح من الله تعالى. فمهما یقابلهم من أمر فی حیاتهم, فهم ینعمون بالطمأنینة وراحة البال المستمدة من إدراکهم بأن الله یعینهم ویحمیهم. والله تعالى وعد عباده فقال: (وَ الله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِکُمْ وَ کَفَى بِاللهِ وَلِیًّا وَ کَفَى بِاللهِ نَصِیرًا) (سورة النساء:45).

وفی المقابل فإن المنافقین یسکنهم الفزع والخوف والرعب. فهم یشعرون بقلق دائم لغیاب إیمانهم بالله تعالى, أو لإشراکهم به, ولاعتقادهم بأن الأحداث إنما تقع بالمصادفة. هذا فی الواقع هو الخوف الذی یبثه الله تعالى فی قلوب الذین یحاربون المؤمنین, قال تعالى :(إِذْ یُوحِی رَبُّکَ إِلَى المَلاَئِکَةِ أَنِّی مَعَکُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِینَ آمَنُوا سَأٌلقِی فِی قُلُوبِ الَّذِینَ کَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ کُلَّ بَنَانٍ) (سورة الأنفال:12).

إنّ الدعم و التأیید الذی یحظى به المؤمنون من خالقهم یستمر معهم طوال حیاتهم. وعلى مر العصور والأزمان, مد الله تعالى المؤمنین بعونه وبطرق مختلفة. ففی بعض الحالات, منح تعالى  أنبیاءه المعجزات, بینما فی البعض الآخر, أید المسلمین بجنود لم یروها, وملائکة, أو من خلال عوامل الطبیعة الأخرى. حتى إنه فی بعض الأحیان وقعت أمور لا یمکن حدوثها. وها هی بعض الأمثلة المذکورة فی القرآن کما یلی:

قال تعالى: (یَا أَیُّهَا الذِینَ آمَنُوا اذْکُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَیْکُمْ إِذْ جَاءَتْکُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَیْهِمْ رِیحًا وَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَ کَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرًا) (سورة الأحزاب :9).

وقال تعالى : (إِذْ تَسْتَغِیثُونَ رَبَّکُمْ فَاسْتَجَابَ لَکُمْ أَنِّی مُمِدُّکُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلاَئِکَةِ مُرْدِفِینَ) (سورة الأنفال ).

وقال تعالى: (قَدْ کَانَ لَکُمْ آیَةٌ فِی فِئَتَیْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِی سَبِیلِ اللهِ وَ أُخْرَى کَافِرَةٌ یَرَوْنَهُمْ مِثْلَیْهِمْ رَأْیَ العَیْنِ وَ اللهُ یُؤَیِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ یَشَاءُ إِنَّ فِی ذَلِکَ لَعِبْرَةً لأُولِی الأبْصَارِ) (سورة آل عمران:13).

 

 

      ما من مکیدة نصبت للمسلمین إلا منیت بالفشل فی مهدها

    لقد لجأ الکافرون إلى جمیع الأسالیب المنحرفة فی صراعهم ضد المسلمین. ولعل من أکثر الأسالیب المستخدمة هی التضییق علیهم والتحالف ضدهم . وبهـﺫا یعتقد الکافرون أنهم أقدر على النصر لکثرة عددهم.. أما  هؤلاء الذین نصبوا المکائد سرا، فقد  فشلوا فی تذکر أن الله  یراهم وهو یتآمرون. فهم حتما غافلین عن حقیقة کون الله اقرب إلیهم من حبل الورید. و بالرغم من ذلک، سواء علیهم ما کشفوه و ما أسروه فالله تعالى یعلم "مَا فی قُلُوبهمْ ". فهو تعالى یعلم کل ما توسوس به أفکارهم، و کل مکیدة و خطة یدبرونها.

   وأن الله  العلیم یخبرنا  أنه تعالى أحبط کید الکافرین قبل ان ینفــوه. فمهما  کانت علیه تلک الخطط من خداع و سریة، فإن کل ما نصب ضد المؤمنین من مکائد قد هوى منذ اللحظة الأولى.

 قال تعالى :"ذَلکُمْ وَ أَن اللهَ مُوهنُ کَیْد الکَافرینَ " (سورة الأنفال :18) .

قال تعالى :"وَقَدْ مَکَرُوا مَکْرَهُمْ وَ عنْدَ الله مَکْرُهُمْ وَ إنْ کَانَ مَکْرُهُمْ لتَزَولَ منْهُ الجبَالُ" (سورة إبراهیم :46).

والله یخبرنا أن مثل تلک المکائد لن تضر المؤمنین بل إنها فی النهایة ستنقلب علیهم هم أنفسهم، قال تعالى :"اسْتکْبَارًا فی الأَرْض وَ مَکْرَ السیئ وَ لاَ یَحیقُ المَکْرُ السیئُ إلا بأَهْله فَهَلْ یَنْظُرُونَ إلا سُنةَ الأَولینَ فَلَن تَجدَ لسُنةَ الله تَبدیلاً وَ لَنْ تَجدَ لسُنةَ الله تَحْویلاً "(سورة فاطر:43).

   المؤمنون یضعون کامل ثقتهم فی هذه البشارة الإلهیة (أَن اللهَ مُوهنُ کَیْد الکَافرینَ )، مدرکین لحقیقة أن عون الله ملازمهم، لذلک فهم یعیشون حیاة ملؤها الطمأنینة والراحة. و کما بینا من قبل فبفضل توکلهم الدائم على الله  فهم یدرکون الخیر الخیر والهدف الإلهی فی کل ما یمر بهم من حوادث؛ وحتى ولو لم یتمکنوا من ذلک، فهم یؤمنون بکل ثقة أن ما من حدث إلا وسیخلص فی النهایة لیکون خیرا  للمؤمنین.

 

 

   " إن حزْبَ الله هُم الغَالبُونَ !"

إن جزاء توسم الخیر، حتى فیما یبدو سلبیا، والتوکل على الله تعالى، جزاء عظیم، قال تعالى :"الذینَ قَالَ لَهُمْ الناسُ إن الناسَ قَدْ جَمَعُوا لَکُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إیمَانًا وَ قَالُوا حَسْبُنَا الله وَ نعْمَ الوَکیلُ فَانْقَلَبُوا بنعْمَة منَ الله وَ فَضْل  لَمْ یَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتبَعُوا رضْوانَ الله وَ اللهُ ذُو فَضْل عَظیم " (سورة آل عمران:173-174).

والآن لنذکر أنفسنا أن الغلبة قد تکون من حین إلى آخر مع الکافرین. ولکن، فی الواقع، هذا مجرد امتحان من الله تعالى للمؤمنین . وکما بینا من قبل قد تکون غلبتهم جزءا من خطة سماویة تمیز المؤمنین الصادقین من غیرهم من ضعیفی الإیمان. إن  المؤمنین هم الذین یتوکلون على الله تعالى، و یصبرون و یرون الخیر فی  کل ما یحدث یثبتون بکل وضوح، إخلاصهم و ثقتهم بالله تعالى. ولهذا ، فهم الذین  سیجنون رضى الله تعالى فی هذه الدنیا والآخرة، فالمنتصرون  فی النهایة  هم المؤمنون.

قال تعالى: "وَ مَنْ یتَوَل الله وَ رَسُولَهُ وَ الذینَ آمَنُوا فَإن حزْبَ الله هُمْ الغَالبُونَ " (سورة المائدة :56).

أمثلة من حیاة الأنبیاء و المؤمنین

أمثلة من حیاة الأنبیاء و المؤمنین

 

إن الکفاح ضد الکفر والشرک شکل جزءا کبیرا من جهود الأنبیاء والمؤمنین المخلصین الذین جاؤوا من بعدهم. وعباد الله هؤلاء واجهتهم أحداث جمة کانت فی ظاهرها تبدو سلبیة، ولکن عندما دخلوا فی غمارها وخاضوا تجربة تلک الابتلاءات تبین صدق معدنهم وسلامة إیمانهم؛ فمع شدة البلاء کانوا یحسون بالأمن والطمأنینة، فقد کان الاعتقاد الراسخ لدیهم أنه لاشیء فی الکون یسیر فی استقلال عن مشیئة الله تعالى. وهذه المعرفة هی التی أعانتهم على تبنی موقف إیجابی ...

لقد عاش رسل الله تعالى وأتباعهم من المؤمنین حیاتهم واثقین من أن الله سوف یکون معهم ویشد أزرهم فی أوقات الشدة, وأن کل شیء سوف یسفر عن الخیر لهم, فبنوا على هذه الحقیقة جمیع أعمالهم وتطلعاتهم . إن تلک المیزة السامیة المستمدة من إیمان عمیق, تضع النموذج الأمثل لکافة المؤمنین.

 

اعتداءات الکافرین بألسنتهم

نفهم مما قصه علینا القرآن الکریم أن المؤمنین واجهوا زمرًا من الکافرین والمنافقین الذین اعتمدوا کل وسیلة وطریق لیمنعوهم عن المضی فی طریقهم والعدول عن دعوتهم. والقرآن الکریم ینقل لنا صورة واضحة عن اللغة المهینة التی کانوا یتعاملون بها مع عباد الله المؤمنین:(لَتُبْلَوُنَّ فِی أَمْوَالِکُم وَأَنْفُسِکُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الکِتَابَ مِنْ قَبْلِکُمْ وَ مِنَ الَّذِینَ أَشْرَکُوا أَذًى کَثِیرًا وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِکَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (سورة آل-عمران:186).

فی هذه الآیة یبین الله سبحانه وتعالى أن الکذب والبهتان والوشایة التی بدت سیئة للمؤمنین, هی فی الحقیقة, خیر.

وفی آیة أخرى یورد الله تعالى هذه الحقیقة من خلال نموذج آخر وقع فی عهد نبینا محمد صلى الله علیه وسلم, قال تعالى: (إِنَّ الذِینَ جَاؤُوا بِالإِفْکِ عُصْبَةٌ مِنْکُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَکُمْ بَلْ هُوَ خَیْرٌ لَکُمْ لِکُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اکْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَ الَّذِی تَوَلَّى کِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِیمٌ) (سورة النور:11) .

إنّ تلک الظروف التی واجهها المؤمنون فی الماضی کانت الوسیلة التی استخدمها الکافرون بحرص لیصرفوا بها المؤمنین ویصدوهم عن التمسک بدین الإسلام. ومع ذلک فإن المؤمنین ظلوا ثابتین, مطمئنین إلى حقیقة أن هذه المحاولات السافلة سَتؤُُول فی النهایة لصالحهم, وأن قضیتهم سوف تنتصر. ولهذا فهم ردوا على تلک الوشایات والاعتداءات اللفظیة بکل اعتدال وحکمة؛ لم ینسوا ولو للحظة أن الصبر والثقة بالله کانت هی التی توصلهم إلى الفوز والنجاح.

واقتداء بتلک النماذج من الماضی على المؤمنین الیوم أن یخضعوا أنفسهم لقدر الله, وأن  یوقنوا بحقیقة أنه ما من شیء یحدث إلا وفق غایة إلهیة. فالمؤمن الذی یحیى بهذه المبادئ سینال أیضا أعظم  الجزاء فی الدنیا لأن الله تعالى یعد عباده الذین یتوکلون علیه بالمدد والعون، ویطمئنهم بأنهم لن یقعوا بحوله تعالى فی "مأزق" أبدا, قال تعالى: (إِنْ یَنْصُرْکُمْ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَکُمْ وَإِنْ یَخْذُلْکُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِی یَنْصُرُکُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْیَتَوَکَّل الْمُؤْمِنُونَ ) (سورة آل عمران:160).

 

اعتداءات  الکافرین الفعلیة

على مر التاریخ کانت المجتمعات الضالة الکافرة تعتقد أن التزام المؤمنین بدین الله وتطبیقهم لمبادئه ونشرهم لرسالته تهدیدا لهم. ولهذا, ومن أجل تثبیط المؤمنین وإضعاف معنویاتهم, استخدموا الأسالیب الشریرة مثل القدح والخداع. وفی أحیان کثیرة أخرى, لم یترددوا فی استخدام أسالیب أکثر شدة وقسوة, مثل التهدید والتعذیب والأسر أو إخراج هؤلاء المؤمنین من بیوتهم. 

إنّ ما تعرض له المؤمنون من سوء معاملة فی خضم صراعهم مع الکافرین هو دلیل واضح على غطرسة هؤلاء الکافرین. وولکن المؤمنین کانوا یدرکون دائما الخیر فی ذلک الإیذاء, موقنین أن الله تعالى کتب لهم ذلک لحکمة یعلمها. فهم کانوا على علم تام أنّ البر هو الصبر و التوکل على الله تعالى. والله تعالى یصف لنا شیمتهم تلک على النحو التالی: (لَیْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَکِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالیَوْمِ الآخِرِ وَ الْمَلاَئِکَةِ وَ الکِتَابِ وَ النَّبِیِّینَ وَ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِی القُرْبَى وَالیَتَامَى وَالمَسَاکِینَ وَابْنَ السَّبِیلِ وَالسَّائِلِینَ وَ فِی الرِّقَابِ وَ أَقَامَ الصَّلاَةَ وَ آتَى الزَّکَاةَ وَ المُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِینَ فِی الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِینَ البَأْسِ أُولَئِکَ الذِینَ صَدَقُوا وَأُولَئِکَ هُمْ الْمُتَّقُونَ) (سورة البقرة :177)

إِنَّ بَعض هذه السمات الإیجابیة للشخصیة المؤمنة قد ذکرت من خلال قصة وردت فی سورة الأحزاب, حیث تقص علینا حادثة وقعت فی عهد النبی صلى الله علیه وسلم. ففی معرکة الأحزاب ابتلی المؤمنون ابتلاء شدیدا عندما اجتمع علیهم الکفار من کل جانب. وفی ظروف صعبة کتلک, ابتدع المنافقون والذین فی قلوبهم مرض العدید من الأعذار الواهیة, و بالتالی کشفوا على حقیقتهم. وفی هذه الأوقات العسیرة عرف المنافقون بعد أن  ظلوا لفترة , مندسین فی مجتمع المؤمنین. وتقهقر المنافقون الذین کانوا مثل السرطان الذی ینخر فی الجسم, وتخلص منهم المؤمنون الصادقون, ومع ذلک فقد تواصل دعم  الله تعالى وتأییده لعباده.

فبینما تصرف المنافقون بمهانة, کان المؤمنون على یقین بإدراک الخیر فی النهایة فی ما واجهوه من صعاب. لقد أدرکوا أنهم یمرون بما أخبرتهم به آیات القرآن الکریم, وبالتالی, ازدادوا إیمانا وإخلاصا لله تعالى: (وَ لَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِیمَانًا وَ تَسْلِیمًا) (سورة الأحزاب: 22).

إنّ هذا النموذج یشیر أیضا إلى أمر مهم وهو أن الظرف القاسی الصعب قد یخلص فی النهایة إلى أن یکون نعمة عظیمة للمؤمنین بینما یقود الضالّین الذین فشلوا فی إدراک الخیر إلى مزید من الجحود. وهنا فإن هذه الأحداث قد ساهمت فی إحباط جهود الکافرین, إضافة إلى تمییز الخبیث من الطیب من المؤمنین. فسورة الأحزاب تبین کیف أنّ الکافرین فشلوا فی إحراز النصر وعادوا أدراجهم فقط بما یحملوه من حنق وکره بغیض, قال تعالى: (وَ رَدَّ الله الَّذِینَ کَفَرُوا بِغَیْظِهِمْ لَمْ یَنَالُوا خَیْرًا وَ کَفَى اللهُ المُؤْمِنینَ القِتَالَ وَ کَانَ الله قَوِیًّا عَزِیزًا) (سورة الأحزاب: 25)  

 

   هجرة المسلمین

    إنّ التخلّی عن المال والممتلکات إذا لزم الأمر, والهجرة إلى مکان آخر هی نوع من أنواع العبادة کما ذکر فی القرآن الکریم ولهذا, فإن المسلمین الذین یهاجرون فی سبیل الله یرون دائما الخیر فی ذلک الإخراج القمعی لهم من بیوتهم. فالذین یهاجرون فی سبیل الله قد ذکروا فی القرآن الکریم من بین هؤلاء الذین بإمکانهم أن یرجوا رحمة ربهم, قال تعالى: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَالَّذِینَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِی سَبِیلِ اللهِ أُولَئِکَ یَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَ اللهُ غَفَورٌ رَحِیمٌ) (سورة البقرة:218).

من مظاهر الجهل الاعتقاد بأن الفرار من الموطن بسبب الظّلم والاغتراب فی بلد آخر بسبب القهر, هو بلیّة ومصیبة، وهو ما یلقی بحیاته فی الفوضى. والمؤمنون منذ البدایة کانوا على قناعة بأنهم سوف لن یلقوا القبول من قبل الکافرین والمنافقین. فمثل هذا الاضطهاد هو فی الحقیقة تجلّ لحقیقة  آیات الله تعالى. ومن هنا فإن المؤمنین الذین یهاجرون أو الذین یلقى بهم بعیدا عن أوطانهم یواجهون دوما ظروفا کتلک بحماس کبیر.

إنّ الأخلاق العالیة الرفیعة للمؤمنین الذین عاصروا نبی الله سیدنا محمد صلى الله علیة وسلم, وإیمانهم الراسخ هو أفضل نموذج للمؤمنین فی هذا العصر. فهمّهم کسب رضى الله تعالى من خلال طاعة النبی صلى الله علیه وسلم, وهذا ما جعلهم على استعداد لتحمل جمیع أشکال الصعاب عن طیب خاطر. فهم لم یترددوا فی ترک أوطانهم وتخلیهم عن کل ما یملکون عندما اقتضت مصلحة المسلمین ذلک.

وفی مقابل ذلک, وعدهم الله تعالى بالجنة والرحمة والرضوان وذلک جزاء تمسکهم بأخلاق القرآن الکریم.. ولاشک أن الله سوف یصدق وعده لعباده!  قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّی لاَ أُضِیعَ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْکُمْ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُکُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِینَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ وَأُوذُوا فِی سَبِیلِی وَقَاتَلُوا وَ قُتِلُوا لأُکَفَِّرَنَّ عَنْهُمْ سَیِّئَاتِهِمْ وَلأَدُخْلِنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارِ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَ اللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (سورة آل عمران: 195)

   وإضافة إلى ثواب الله تعالى فی الآخرة, فإن الله تعالى یبشرهم بالرزق الکثیر فی الدنیا. وقد ذکر الله تعالى ذلک فی سورة النساء فقال: (وَ مَنْ یُهَاجِرْ فِی سَبِیلِ اللهِ یَجِدْ فِی الأَرْضِ مُرَاغَمًا کَثِیرًا وَ سَعَةً وَمَنْ یَخْرُجْ مِنْ بَیْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ یُدْرِکُهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَ کَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِیمًا ) (سورة النساء:100).

وقال تعالى: (وَ الَّذِینَ هَاجَرُوا فِی الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِی الدُّنْیَا حَسَنَةً وَ لأَجْرُ الآخِرَةِ أَکْبَرُ لَوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ الَّذِینَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ) (سورة النحل :41-42).

 

سیدنا محمد صلى الله علیه وسلم وتوکّله القُدوة

لقد واجه سیدنا محمد صلى الله علیه وسلم شأنه شأن جمیع الأنبیاء الآخرین, العدید من الصعاب طوال حیاته, فکان النموذج المثالی لکل المسلمین من خلال صبره وإیمانه بالله تعالى. وهناک مواقف کثیرة تبین عن سمو أخلاقه وعلو همته ذکرها لنا القرآن الکریم.

فعندما غادر النبی صلى الله علیه وسلم مکة, تبعه الکافرون بغرض قتله. فلجأ إلى الغار مع صاحبه أبی بکر الصدیق. وأثناء تقصیهم تمکن الکفار أخیرا من الوصول إلى مدخل هذا الغار. وفی هذه اللحظة العصیبة, نصح سیدنا محمد علیه الصلاة والسلام صاحبه بأن لا یحزن وذکره بالتوکل على الله.

قال تعالى: (إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِینَ کَفَرُوا ثَانِیَ اثْنَیْنِ إِذْ هُمَا فِی الْغَارِ إِذْ یَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأْنَزَلَ اللهُ سَکِینَتَهُ عَلَیْهِ وَأَیَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفلى وَ کَلِمَةُ اللهِ هِی العُلْیَا وَ الله عَزِیزٌ حَکِیمٌ) (سورة التوبة: 40).

فالذی جعل النبی صلى الله علیه وسلم لا یشعر بالخوف أو القلق فی تلک اللحظة, وحیاته فی خطر کبیر,إنما هو توکله على الله و ثقته به وإدراکه أن الله تعالى ما قضى شیئا فی قدر أحد إلا لهدف وغایة. وأخیرا وصل سالما لغایته أی المدینة المنورة. ومن هنا بدأت الهجرة التی کانت أعظم حدث فی تاریخ الإسلام.

 

الخلق السامی لموسى علیه السلام

یوضح لنا القرآن الکریم ببیان مفصل صراع سیدنا موسى علیه السلام مع فرعون, الذی تجبر فکان من أکثر الحکام طغیانا فی التاریخ. لقد رد فرعون على رسالة الله التی أوصلها إلیه موسى علیه السلام بالتهدید و الوعید . إنّ سمو أخلاق موسى علیه السلام وثقته بالله وتوکله علیه عندما کان وجها لوجه مع فرعون الذی لجأ إلى کل وسیلة لیبعده عن سبیل الله, لهو خیر مثال یحتذى به للمؤمنین جمیعا. 

  و القرآن الکریم یوضح تلک الفترة من بعثة موسى علیه السلام ، ففرعون الذی حکم مصر فی ذلک الوقت مارس قهر استبدادیا على بنی إسرائیل. ومن ناحیة أخرى, کان سیدنا موسى علیه السلام و قومه أقلیة فی البلاد. وهکذا ومن وجهة نظر الجاهل, الذی یحکم على الأشیاء فقط من ظاهرها لاعتقاده بأن الغلبة دائما للأقوى, قد یتوقع أنّ الفوز لفرعون. لکن, لم یکن الأمر کذلک, بل على النحو الذی وعد به الله تعالى: (کَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِی إِنَّ اللهَ قَوِیٌّ عَزِیزٌ) (سورة المجادلة :21).

والله تعالى حقق وعده الذی وعده لرسله ومنح سیدنا موسى علیه السلام النصر على فرعون. فالله تعالى أیده بنصره وشد أزره بأخیه هارون. وبالإضافة إلى ذلک وهب الله تعالى سیدنا موسى علیه السلام معجزات کثیرة, و میزه عن الخلق کافة بتکلمه تعالى معه. ومن هنا نستطیع أن نستخلص العبر من نضال سیدنا موسى علیه السلام. فهو یکشف بوضوح کیف أن ما قد یبدو سلبیا للمؤمنین, بإمکانه فی لحظة أن ینقلب لمصلحتهم بإذن الله تعالى.

وتأتی هذه الحادثة لتثبت ذلک، حیث انطلق فرعون وجنوده لیمسکوا بموسى علیه السلام ورفاقه بعدما فروا من مصر. وما إن وصل بنو إسرائیل البحر حتى أوشک فرعون وجنوده على الإمساک بموسى ومن معه. و فی تلک اللحظة, کانت کلمات سیدنا موسى علیه السلام  مؤثرة ؛ مع أن فرعون وجنوده کانوا قد أصبحوا غیر عاجزین عن الإمساک بهم, ولم یبق أمامهم من مفر, فهو لم ییئس من نصر الله تعالى لهم, فاحتفظ برباطة جأش کانت حقا مثالا یحتذى. وقد قص علینا القرآن الکریم هذه القصة کما یلی: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِینَ فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَکُونَ قَالَ کَلاَّ إِنَّ مَعِی رَبِّی سَیَهْدِینِ فَأَوْحَیْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اِضْرِبْ بِعَصَاکَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَکَانَ کُلُّ فِرْقٍ کَالطَّوْدِ العَظِیمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِینَ وَأَنْجَیْنَا مُوسَى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِینَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِینَ إِنَّ فِی ذَلِکَ لآیَةً وَمَا کَانَ أَکْثُرُهُمْ مُؤْمِنینَ وَ إِنَّ رَبَّکَ لَهوَ العَزِیزُ الرَّحِیمُ ) (سورة الشعراء :60-68)

لقد لفت الله تعالى نظرنا فی هذه القصة إلى أخلاق سیدنا موسى علیه السلام الممیزة طوال  نضاله الشاق. فقد أبقى عقله على الدوام منشغلا  بذکر نصر الله له, ورأى الخیر فی کل ما حصل له, حتى فی أحلک الظروف والأوقات التی مرت به, تمکن من غرس ثقته بخالقه وحرص على إخلاصه له وحده.

 

سیدنا یوسف علیه السلام وتسلیمه الثابت لله تعالى

إنّ من أروع الأمثلة فی القرآن الکریم التی تُضرب مثلا على تحول حدث ظاهره سلبی لخیر المؤمنین هی قصة حیاة سیدنا یوسف علیه السلام.

  یوسف علیه السلام, منذ صباه و طوال حیاته, عرف بسلوکه الناضج فی المحن وإخلاصه القوی لله تعالى. وسلوکه فی الظروف الصعبة کان أعظم مثل للمؤمنین. سیدنا یوسف علیه السلام، کان الله تعالى یرعاه، وکان هو یلتمس الخیر فی کل ما ألم به، و کان على إدراک أن کل ما یلقاه من عَنَتٍ فهو من الله تعالى. وبالتالی, طوال حیاته, نظر إلى کل مناسبة على أنها اختبار وبقی دوما مخلصا ومتیقظا.

إن أول ما تعرض له سیدنا یوسف علیه السلام هو المعاملة الظالمة من قبل أخوته الذین شعروا بالغیرة منه. لقد ألقوه فی بئر وأبعدوه عن أبیهم. لکن الله تعالى حفظه بمرور رکب من المسافرین, فأنقذوا هذا الشاب الصغیر من البئر وباعوه لسید من أسیاد مصر. تأثرت زوجة هذا السید بجمال یوسف علیه السلام, "فحاولت إغواءه" کما یقص علینا القرآن الکریم. وهکذا, یوسف علیه السلام عومل مجددا  بجور وظلم. وهذه المرة اتهم ظلما من هذه المرأة. ومع أن الاستقصاء الذی أجری فی الموضوع  أظهر براءته علیه السلام إلا أنه سجن: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآیَاتِ لَیَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِینٍ) (سورة یوسف:35).

فیوسف علیه السلام قد أوقع به فقط لأنه عفیف الخلق. ونتیجة لهذا الاتهام, أمضى یوسف علیه السلام  فی السجن مدة طویلة. وصبر فی وجه کل صعوبات الحبس, واضعا ثقته فی الله تعالى. وکما قص علینا القرآن الکریم, فبالطریقة التی قاد بها نفسه وإذعانه الأمثل  لله تعالى , کان حقًّا مَثلا یحتذى به لدى المؤمنین کافة.

حظی یوسف علیه السلام, بالجزاء العظیم, فی هذه الحیاة الدنیا والآخرة, جزاء له على صبره وثقته بالله, وإدراکه للخیر فی کل ما حصل له. فقد میزه الله بسلطة علیا على خزینة الدولة وجعله حاکما على هذه البلاد. وإدراکه للخیر فی کل ما حدث له ودعاؤه الله أخبرنا به الله فی محکم تنزیله: (وَرَفَعَ أَبَوْیهِ عَلَى العَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ یَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِیلُ رُؤْیَایَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّی حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِی إِذْ أَخْرَجَنِی مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِکُمْ مِنَ البَدْوِ مِنْ بَعْدِ مَا نَزَغَ الشَّیْطَانُ بَیْنِی وَ بَیْنَ إِخْوَتِی إِنََّ رَبِّی لَطِیفٌ لِمَا یَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِیمُ الحَکِیمُ رَبِّ قَدْ آتَیْتَنِی مِنَ المُلْکِ وَعَلَّمْتَنِی مِنْ تَأْوِیلِ الأَحَادِیثِ فاَطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أنَْتَ وَلِیِّی فِی الدُّنیَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِی مُسْلِمًا وَ أَلْحِقْنِی بِالصَّالِحِینَ) (سورة یوسف:100-101)

لقد کان فی هذه القصة أعظم مثل للجزاء الذی یناله المؤمنون مقابل إخلاصهم و توکلهم على الله تعالى. فمهما حدث للمؤمن الصادق من أمر, علیه أن یناضل لیمسک بالغایة وراء تلک الأحداث. علیه أن یلجأ إلى الله و یدعوه إلى مثل هذه البصیرة. على المسلم أن لا ینسى أبدا أن أی حدث, صغیرا أو کبیرا, مما قد یقلقه فی مسار حیاته, لابدّ أن تکون وراءه حکمة, فالقضاء والقدر سنة الله فی الأشیاء ولا تبدیل لها. فالله تعالى إنما یضع حکمته فی کل شیء وفیها الخیر للمؤمنین. وقد یکشف الله تعالى, هذه الحکمة وقد یبقیها کامنة والمؤمن الخیر من یوقن بوجودها. وعلى المؤمن أن یصبر على کل حال ویکون لسان حاله یقول "لعله خیر".

    

              

الأسباب التی تمنع من إدراک الخیر فی الوقائع

الأسباب التی تمنع من إدراک الخیر فی الوقائع

 

 

نسیان أن هذه الحیاة هی مجرد امتحان

 

 یعتقد البعض أن  الکثیر من أمور حیاتهم خاضع للمصادفة. ولکن التفکیر بهذه الطریقة لیس بواقعی أو منطقی. إن کل ما فی هذه الحیاة, بما فیها ظهور مرض السرطان مثلا أو التعرض إلى حادث طریق, ومن الطعام الذی یتناوله أحدنا إلى الملابس التی یرتدیها, کلها أمور قد سبق وأن کان علمها عند الله تعالى. وکما ذکرنا ذلک أکثر من مرة فی أثناء هذا الکتاب, فإن کل تلک الأحداث, بکل تفاصیلها, خلقها الله تعالى لیمتحن بها الإنسان.

ومن هنا، وعند هذه النقطة یظهر جلیا ذالک الاختلاف الجوهری بین المؤمنین وغیر المؤمنین. فالمؤمنون لدیهم منظور مختلف جدا لما یحدث لهم وللعالم من حولهم. ومنظورهم هذا ینسجم تماما مع أوامر القرآن الکریم، أی فی رؤیتهم لکل حدث على أنه جزء من امتحان. و من ثم, مدرکین بکونهم تحت الاختبار, فالمؤمنون یکافحون لیقودوا أنفسهم على طریق کسب رضى الله تعالى.

إن الناس الذین یبقون على ما هم علیه من عدم الاکتراث للحقائق التی کشفها الإسلام, واضعین لأنفسهم أهدافا واهمة عدیدة؛ مثل أن یلتحقوا بکلیة مرموقة, أو یحظوا بزواج سعید, واجتیاز أبنائهم للمراحل الدراسیة, وتحسین أوضاعهم المعیشیة, وإحرازهم المکانة العالیة فی المجتمع ...  إن کل تلک الأهداف لدیها قاسم مشترک واحد وهو أنها کلها أمانی ورغبات متعلقة بهذه الدنیا فقط. إنّ خطط وطموح هؤلاء الذین یجعلون من تلک الأهداف غایتهم الوحیدة فی حیاتهم محدود بذلک المنظور السطحی الضحل. هذا لأن الغالبیة من الناس ینحصر اهتمامهم فی فهم هذه الدنیا ومزید إدارک کنهها. والواقع  أن هذا التفکیر غیر سلیم. فحتى وإن حقق أحدهم جمیع الأهداف التی و ضعها لنفسه, فحیاته فی النهایة محکومة بالموت والفناء. و بالتالی, حیاة تجعل الدنیا منطلقها وغایتها الأولى تکون تافهة ولا معنى لها.

إنّ من یتبنى طریقة الحیاة تلک لن ینال أبدا ما یرغب فیه. فهذا قانون الله الثابت الذی لا یتغیر؛ لا شیء على هذه الأرض مستثنى من العطب. لاشیء على هذه الأرض مستثنى من عوامل الزمن.  فالثمرة مثلا تأخذ فی الذبول منذ اللحظة التی تقطف فیها من الغصن، إلى أن تبلى. وذاک البیت الذی بنی بعنایة فائقة یصبح فی مع مرور السنین والأیام غیر قابل للسکن. والأهم من ذلک, أن جسم الإنسان أیضا معرض لعوامل الزمن المتلفة. وکل إنسان منا لا بد وأن ینتبه إلى مؤثرات الزمن فی جسمه. فالشعر یشتعل فیه الشیب, وتضعف الأعضاء, وتتجعد البشرة، إضافة إلى علامات أخرى کثیرة تشیرة إلى قرب النهایة وحتمیتها.

    إلى جانب لهرم, فإن حیاة الإنسان, التی نادرا ما تمتد إلى أکثر من سبعة عقود, قد تنتهی فجأة ودون سابق إنذار؛ فإن حوادث غیر متوقعة, کحادث طریق مثلا, أو مرض عضال, قد یودی فی أیة لحظة بحیاة الإنسان. وکما قلنا فی الجزء السابق, مهما حاول الإنسان أن یناضل لیتجنب فکرة الموت, فه سوف یقابل أخیرا تلک النهایة المحتومة التی لا مفر منها. سواء أکان إنسانا مشهورا أو فتاة جمیلة, فلیس هناک من هو محصن من الموت . فلا الثروة و لا المال و لا الأولاد و لا الأصدقاء, ولا أی شیء فی الدنیا یمکن أن یمنع مخالب الموت من أن تمتد إلیه, قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِی تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِیکُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَیْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَیُنَبِّئؤُکُمْ بِمَا کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (سورة الجمعة: 8)

إن المقصود مما سبق، وکون الحیاة فی هذه الدنیا زائلة وفانیة أن یوجه الإنسان کل طاقاته للحیاة من أجل الفوز بالحیاة الآخرة. قال تعالى: (فَمَا أُوتِیتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَمَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَ مَا عِنْدَ اللهِ خَیْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِینَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ) (سورة الشورى:36).

إذا ما أخذنا بعین الاعتبار حقیقة زوال هذه الدنیا وأن الإنسان معرض للموت, فهذا یقودنا  لموضوع علینا جمیعا أن نتأمّل فیه ملیا؛ وهو الهدف من خلق الإنسان على هذه الأرض. والله تعالى یضع هذا الهدف جلیا فی الآیة التالیة, قال تعالى: (الَّذِی خَلَقَ الْمَوْتَ وَالحَیَاةَ لِیَبْلُوَکُمْ أَیُّکُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِیزُ الغَفُورُ) (سورة الملک: 2).

فی کثیر من آیات القرآن الکریم, یبین الله سبحانه وتعالى أن الإنسان خلق لیکون عبدا لخالقه. کما أنه تم التأکید أیضا على أن الحیاة الدنیا هی امتحان لیمیز به الله الخبیث من الطیب، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضَ زِینَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَیُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (سورة الکهف: 7).

ولأن حیاة الإنسان کاملة هی حلقة فی اختبار عام, فلا شیء مما یحصل للإنسان یکون عرضیا أو غیر مقصود. ومن الخطإ الکبیر الاعتقاد بأن الأحداث التی تقع إنما تحدث على نحو عبثی، فلا شیء یحدث بمعزل عن حکمة الله وتدبیره وتقدیره. فکل ما یقع من أحداث فی مسار هذه الحیاة, ابتلاءات وضعها الله تعالى لیختبره بها. والإنسان بدوره یعتبر مسؤولا عن ردود فعله وسلوکه فی خضم هذه الإبتلاءات. فالطریقة التی یقود بها نفسه, والخلق الذی یبدیه ویثبت علیه, تحدد ثوابه أو عقابه فی الحیاة الآخرة.

      لاشیء – سواء کانت التجربة عظیمة أو بسیطة- یحدث عرضیا, وکل ما یحصل لنا فی حیاتنا هی أحداث کتبت لنا فی قدرنا, وهی کلها حقائق على الإنسان أن یتذکرها دائما. وإذا ما حرص الفرد على تذکر تلک الحقائق, فإنه لن ینسى أبدا أن کل ما یقابله فی الحیاة هو فی النهایة خیر له. أی بمفهوم آخر, إن ما یقابله ویتعرض له هو فقط ما أراده الله تعالى له. ومن هنا نخلص إلى أنه من المهم جدا تذکر أن هذه الدنیا هی دار اختبار من خلالها یقتضی علینا رؤیة الخیر والأهداف الإلهیة لهذه الحیاة.

 

لا یحمل الله تعالى إنسانا فوق طاقته

إن الله تعالى یضع کل إنسان فی محن متفاوتة ذات أحداث متنوعة عدیدة. ولکن, وجب القول أنه تعالى ذو العدل المطلق وأنه عفو عن عباده لأنه هو ”الحلیم“؛ فهو تعالى لن یُحمل أحدا أکثر من طاقته. وهذا هو وعده تعالى ولن یخلف الله عهده, قال تعالى: (وَلاَ نُکَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَ لَدَیْنَا کِتَابٌ یَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ یُظْلَمُونَ) ( سورة المؤمنون: 62).

وقال تعالى: (وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُکَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِکَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ) سورة الأعراف: 42).

إن الأمراض والحوادث وکل أشکال الآلام والأحزان, وکل أنواع المحن الأخرى التی قد تعترض الإنسان فی هذه الحیاة الدنیا, تقع فی دائرة قدرة الشخص على فهمها. لکن إذا ما اختار الإنسان  التمرد والجحود وسلوک الطباع الشیطانیة بدلا من التمسک بأخلاق القرآن العظیمة, مثل الصبر وغیر ذلک فهو الذی یتحمل المسؤولیة على ذلک.

فی بعض الأحیان قد یشعر الإنسان أنه استنفذ کل السبل المتاحة للتغلب على مشکلة ما, فلا یرى منفذا من الوضع الذی هو فیه. وقصوره أیضا فی تذکر وجود الخیر فی مثل ذلک الحدث, قد یدفعه إلى یصبح عاصیا متمردا. وهذه مشاعر فاسدة ألقى بها الشیطان فی نفسه. فعلى المؤمن المخلص مهما واجه فی حیاته أن یبقى مدرکا لحقیقة أنه فی وضع یستطیع معه أن یقود نفسه بأخلاق فاضلة وبکل صبر. أما إذا داخلته الوساوس والشکوک فعلیه أن یفهم أن ذلک من عمل الشیطان. فالله تعالى یأمر عباده بأن لا  یقنطوا، قال تعالى : (أَوَ لَمْ یَعْلَمُوا أَنَّ الله یَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ یَشَاءُ وَ یَقْدِرُ إِنَّ فِی ذَلِکَ لآیَاتٍ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ * قُلْ یَا عِبَادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ الله یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِیمُ * وَ أَنِیبُوا إِلَى رَبِّکُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَکُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ) (سورة الزمر:52-54).  

   والإنسان الذی یلتزم بما أمره الله تعالى, یعلم تمام العلم أن الحسن لا یأتی إلا بالحسن؛ وبالمقابل فالإنسان الذی یقنط سیکون وحیدا فی هذه الدنیا لا مخرج له مما هو فیه. والله تعالى یعلمنا أن هؤلاء الذین یقنطون من رحمته تعالى هم فی الحقیقة, غیر مؤمنین: (وَ الَّذِینَ کَفَرُوا بِآیَاتِ اللهِ وَ لِقَائِهِ أُولَئِکَ یَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِی وَ أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ ) (سورة العنکبوت: 23).

وقال تعالى : (وَ لاَ تَیْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لاَ یَیْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الکَافِرُونَ) (سورة یوسف : 87).

وتطبیقا لأمر الله تعالى, على المسلم أن لا ییأس أبدا, بل یجتهد لیحرز فهما أعمق لکل ما یدور حوله من خلال التفکر والتأمل. وعندما یقابل المؤمن عقبة, فهی ترشده للنظر إلى الخیر الذی یکمن وراءها؛ وعلى المؤمن أن یکون شجاعا صبورا حنونا مخلصا ورعا محبا باذلا نفسه. أی بمعنى آخر, إنها لحظات من الزمن من خلالها, یظهر المؤمن ثقته بالله وتوکله علیه. وعندما یدرک أن أخلاقه تلک سوف تجعله یفوز بالجنة بفضل من الله  تعالى, فإن ذلک سیمنحه مصدرا إضافیا للسعادة والسرور.

فالإنسان الذی امتحن فی الدنیا وتحمل الصعاب بحزم وثبات, یشعر بقیمة أکبر للنعم التی تعطى له فی الجنة, وبالتالی, ینعم بها بلذة أعمق. ومن المهم التذکر أن الذی لم یمر بالعسر لن یستطیع تقدیر الیسر؛ وحتى لو فعل ذلک, فهو لن یشعر أبدا به بذاک العمق الذی یشعر به من قاسى وتحمل المصاعب. وبالتالی, فکل ما یعانیه المؤمن فی هذه الدنیا سیکون له سببا للسعادة فی الآخرة.

والمهم أن یکون الإنسان صبورا حکیما عاقلا متوازنا متسامحا عطوفا، وبإیجاز متحلیا بصفات المؤمن النبیلة. فهی الأخلاق هی التی تجلب له سعادة استثنائیة لا تأتی إلا من الإیمان. ثم یکون جزاؤه بإذن الله تعالى, سعادة أخرى دائمة فی الآخرة.

 

    أیما مصیبة تصیب الإنسان فهی  فمن نفسه

    إنّ الذین یکونون بعیدین عن التمسک بالخلق القرآنی عادة ما یشترکون فی سمة أخلاقیة معینة، فعندما تسیر أمورهم حسبما یریدون, یعتقدون أن ذلک من أنفسهم ویصابون بالغرور. ولکن، عندما تحدث لهم مصیبة, فهم على الفور یبحثون عن جهة ما لیلقوا علیها اللوم. ولکن, الله تعالى هو العادل, وکما تشیر إلى ذلک الآیة الکریمة التالیة, فالإنسان هو المسؤول فی النهایة عن کل ما یصیبه من مصائب، قال تعالى: (مَا أَصَابَکَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَکَ مِنْ سَیّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِکَ وَ أَرْسَلْنَاکَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَ کَفَى بِاللهِ شَهِیدًا) (النساء: 79).

ویمدنا القرآن الکریم بأمثلة کثیرة لیبین لنا ذلک الأسلوب المنحرف الذی ینظر به الکافرون إلى کل ما یحصل لهم.

ففی سورة الأعراف یخبرنا الله تعالى أن فرعون و من والاه  عزوا ما حصل لهم من شرّ إلى موسى علیه السلام و أتباعه. بینما هم أنفسهم کانوا مصدر الشر والخبث: ( فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَیِّئَةٌ یَطَّیَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُم عِنْدَ اللهِ وَ لَکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لاَ یَعْلَمُونَ)  (سورة الأعراف: 131).

وکما یوحی لنا المثال السابق, فهؤلاء البعیدون عن خلق القرآن یبحثون عن أحد ما لیلقوا علیه الوزر ویتجاهلون زلاتهم وعیوبهم، ویحاولون أن یتهموا الصالحین بالسوء والشر. بینما- ومثلما ینبهنا الله تعالى فی الآیة السابقة - هم أنفسهم  المسؤولون عن السوء. وکان هؤلاء ینظرون إلى الشر على أنه خیر و إلى الخیر على أنه شر, إذن فلیس لدیهم إلا أنفسهم لیلوموها. 

سوء الفهم للقدر

یسعى الإنسان طوال حیاته فی التخطیط لمستقبله ولرسم أهداف بعضها بعیدة وبعضها الآخر قریبة. وفی بعض الأوقات, تسیر تلک الخطط کما هو مخطط لها. و لکن, فی أوقات أخرى, قد تتعثر بسبب تطورات غیر متوقعة. و هؤلاء البعیدون عن تعالیم الإسلام یعزون تلک العوائق للمصادفات، بینما فی الحقیقة, لیس هناک شیء اسمه مصادفة. أی إنّ کل ما یقابله الإنسان من أحداث فی هذه الحیاة قد قدره الله تعالى له فی قدره. وهذه الحقیقة جلیة فی قوله تعالى: (یُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ...) (سورة السجدة: 5).  وقال تعالى: (إِنَّا کُلَّ شَیْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (سورة القمر: 49).

فمن الممکن للإنسان أن یفکر تفکیرا خاطئا خلال مسار یومه فیعتقد أنه یفعل فقط ما یخططه لنفسه. بینما الحقیقة أنه یطاوع القدر المحدد له من الله تعالى. فحتى لو اعتقد إنسان ما أنه قد تدخل فی وضع وغیر بالتالی مسار قدره, فهو فی الواقع لا یزال مجددا یتحرک فی لحظة أخرى قد سبق وقدرت له فی قدره. لا شیء من لحظات حیاتنا یحدث خارج إطار القدر. فقد یصاب إنسان بغیبوبة ویموت بسببها على الفور لأن الموت قد قدر له فی ذلک الوقت. والآخر یتعافى بعد شهور بینما الحالة نفسها، وهذا أیضا قدره قد أخر وفاته.

بالنسبة إلى الإنسان الذی لم یع بحق أهمیة القدر, کل الأحداث بالنسبة إلیه هی حصیلة حادثة ما أو مصادفة عبثیة. فهو یعتقد بشکل خاطىء ان کل شیء فی الکون یتحرک مستقلا عن بعضه البعض. وهذا ما یفسر موقفه عندما یصاب بفاجعة, فهو یشیر إلیها مباشرة بکونها "مشؤومة".

فالکائن البشری محدود فی حُکمه وقدرته على التمییز؛ ذلک أنه حبیس الزّمان والمکان. ومن جانب آخر فکل ما یقع للإنسان بلا استثناء قد رتبه الله تعالى, مالک "الحکمة المطلقة" الذی هو سبحانه غیر محدود بزمان أو مکان.        

  قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِیبَةٍ فِی الأَرْضِ وَ لاَ فِی أَنْفُسِکُمْ إِلاَّ فِی کِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِکَ عَلَى اللهِ یَسِیرٌ) (سورة الحدید: 22).

    و بالتالی, فکل ما یتوجب على الإنسان عمله هو أن خضع نفسه للقدر المرسوم له من خالقه, مدرکا أن کل شیء سیرجع بالخیر فی النهایة. وفی الحقیقة, إن هؤلاء ذوی الإیمان الصادق یقضون کل لحظة من حیاتهم بالاعتراف والتسلیم لحقیقة أن کل ما یحدث إنما هو جزء من قدرهم, وأن ذلک الحدث أو الأمر ما وضع إلا لسبب. فهم دائما منتفعون من تلک النظرة الإیجابیة, و فی النهایة سیجدون هذا الخیر. ولقد أوصى الله بهذا الخلق النبیل والإذعان الخالص التام فی قوله تعالى: (قُلْ لَنْ یُصِیبَنَا إِلاَّ مَا کَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَ عَلَى الله فَلْیَتَوَکَّل الْمُؤْمِنُونَ) ( سورة التوبة:51).

وسواء کان الأمر خیرا أم شرا فإنّ الإنسان لن یستطیع أبدا أن یمنع حدوثه وقد قدر وقوعه من قبل. و إذا ما رأى الخیر فی کل ما یحدث, فعندئذ سوف ینتفع کامل حیاته وإلا فهو لن یجنی سوى الندم والأذى لنفسه. إن اللّوعة والتمرد والجحود لن یغیروا من القدر شیئا. فمسؤولیة الإنسان فی هذه الحیاة تتمثل فی الاستسلام والإذعان لعدل الله المطلق وللقدر الذی وضعه تعالى له, وأن ینظر إلى کل الوقائع على أن الخیر فیها على کل حال, وبذلک یستقبل قدره بخضوع واطمئنان.

 

اجتهاد الشیطان لمنع الإنسان من إدراک الخیر

یخبرنا الله تعالى فی القرآن الکریم أن الشیطان جاحد عاص. ومثلما نبهنا القرآن فالشیطان یحاول بکل السبل إزاحة الإنسلن عن طرق الخیر وإردائه فی مهالک الشر والفساد. ولعل من أکثر الطرق التی یستغلها الشیطان هی إعاقته عن رؤیة مواطن الخیر فی الأحوال والأحداث. وهو یعتمد هذا السبیل لیقنطه من ربه ویلقی به فی ظلمات المعصیة والجهل والجحود.

إن الذین یفشلون فی فهم جمال الخلق القرآنی, هم هؤلاء البعیدون عن تعالیم الإسلام الذین یقضون حیاتهم فی الجری خلف أهداف تافهة, وهم غافلون عن الیوم الآخر. وهؤلاء معرضون لوساوس الشیطان وهمزاته.

إنّ الشیطان یطرب لضعف الإنسان، فیهمس له بالحیل المضللة ؛ فیدعوه للتمرد على الله تعالى وعلى القدر. فمثلا, قد لا یجد أحدنا صعوبة فی تذکیر جاره الذی ألم به حادث سیر بحقیقة أنّ ذلک یشکل جزءا من قدره. بینما قد یعجز فی النظر إلى الموقف نفسه هذه النظرة الواعیة عندما یتعلق الامر به هو نفسه أو أحد من أسرته. ومن خلال  تأثیر الشیطان, سیجد أنه من السهل تبنی سلوک متمرد. هذا لأن على الواحد منا أن یدرّب قلبه حتى یستطیع أن یکافح لیرى الخیر فی الأحداث, ویبدی إذعانه ویضع کامل ثقته فی الله تعالى. وأما الفشل فی إقناع الضمیر والقلب بذلک فهو قد یقود إلى اتباع سلوک منحرف تائه.

    إنّ جهود الشیطان لإعاقة الإنسان عن رؤیة الخیر یمکن التعرف علیها فی کل الظروف بأشکالها المختلفة. ووسوسته أیضا تمنع البعض من رؤیة الخیر فیما یقومون به من أعمال. فالشیطان مثلا یسعى جهده لیغرس فی النفس الخوف من الفقر عند من یعزمون على الإنفاق من أموالهم فی سبیل اللهن وقد قال الله تعالى فی هذا الموقف: (الشَّیْطَانُ یَعِدُکُمْ الفَقْرَ وَ یَأْمُرُکُمْ بِالفَحْشَاءِ وَ اللهُ یَعِدُکُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَ الله وَاسِعٌ عَلِیمٌ) (سورة البقرة :268).

لکن فی واقع الأمر فإن کل تلک المشاعر والأحاسیس هی إلا مشاعر عقیمة لأن خطط الشیطان تلک الملیئة بالغدر لن تستطیع بأی وسیلة التأثیر على المؤمن الصادق, حیث أن هدف المؤمن من الإنفاق لیس لمنفعة فی الدنیا ولا لإرضاء نفسه, بل إن هدفه الأسمى هو کسب رضى الله تعالى ورحمته و الفوز بالجنة. و لهذا السبب, فالشیطان لا یستطیع أن یضلل المؤمنین بتطلعات عقیمة بلا فائدة. وقد جاء فی القرآن الکریم أن الشیطان لن یستطیع فرض تأثیره على المؤمنین: (وَ إِمَّا یَنْزَغَنَّکَ مِنَ الشَّیْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ *إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّیْطَانِ تَذَکَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (سورة الأعراف :200-201).

علینا أن نفهم أن الشیطان یستخدم أسلوبین لإعاقة الإنسان عن الإقبال على أعمال الخیر. أولهما, أنه یناضل لیوقف عملا طیبا نافعا ویصور الجری وراء المنافع الدنیویة على أنها الهدف الوحید فی الحیاة. وأما ثانیهما , فهو یجتهد بکل ما أوتی من قوة لیعیق الناس عن إدراک الخیر وفهم الخیر الکامن فی الأحداث خاصة عندما یصاب الإنسان بمحنة, فهو یصورها على أنها "شر", ویغویه لیتخذ سلوکا متمردا تجاه الله تعالى.

إن نعم الله التی أسبغها على الإنسان لا تحصى، فمنذ لحظة ولادته وهو محاط بعنایة الله وفضائله، منها ما بدا ومنها ما خفی. ولهذا فإن المؤمنین الذین یتخذون من خالقهم فقط حافظا یتوکلون علیه ویضعون کامل ثقتهم به, وعندما یصابون بحدث ظاهره شرّ یصبرون لأنهم  یدرکون أن وراءه الخیر حتى وإن لم یستطیعوا أن یتبینوا الغایة الإلهیة فی الحال. ومهما أصابهم من أحداث فهم أبدا لن یتذمروا أو یعصوا، فهم یثقون جیدا أن الحدث الذی یبدو فی ظاهره سیئا سوف یتمخض فی النهایة عن الخیر. وقد یتبین لهم بفضل الله تعالى أنّ تلک الأحداث التی عاشوها کانت تمثل نقطة تحول کبرى فی حیاتهم کلها وهی التی سوف تنجیهم عند الله فی الآخرة.

 

فی کلّ شیءٍ خیر للمؤمنین

فی کلّ شیءٍ خیر للمؤمنین

 

       کل واحد منا یمر بأوقات صعبة فی حیاته. وهذه الصعاب تحبط وتقلق أو تزعج غالبیة من هم بعیدون عن الأخلاق الموصوفة فی القرآن. لهذا, فهم سرعان ما یصبحون قلقی البال, مضطربین ومتوترین. ولأنهم لا یؤمنون بالمثالیة الکامنة فی القضاء المقدر من الله تعالى, فهم لا یبحثون عن النعمة أو الخیر فی ما یصیبهم. وفی الحقیقة, ففقدانهم للإیمان، یجعلهم یشعرون أنّ کل لحظة تنقضی تسیر ضدهم. وبهذه الحالة, یصبحون مثقلین تحت وطأة الهم والقلق, وهکذا یمضون فی سیر حیاتهم. 

بینما المؤمنون, یعلمون أن الصعاب إنما تأتی من الله تعالى لیُختبر بها الإنسان. فهم یفهمون جیدا أنّ هذه الصعاب طریقة مثلى فی تمییز المؤمنین الصادقین من "هؤلاء الذین فی قلوبهم مرض", الذین هم غیر صادقین فی إیمانهم. و الله تعالى یذکر ذلک بکل وضوح فی القرآن الکریم, ویؤکد أنه سیختبر المؤمنین لیمحّص الصادقین منهم: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا یَعْلَم اللهُ الَّذِینَ جَاهَدُوا مِنْکُمْ وَ یَعْلَم الصَّابِرِینَ" (سورة آل عمران :142).

 وقال تعالى: "مَا کَانَ اللهُ لِیَذَرَ المُؤْمِنِینَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَیْهِ حَتَّى یَمِیزَ الخَبِیثَ مِنَ الطَّیِّبِ وَ مَا کَانَ اللهُ  لِیُطْلِعَکُمْ عَلَى الْغَیِْبِ وَ لَکِنَّ اللهَ یَجْتَبِی مِنْ رُسُلِهِ مَنْ یَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَ رُسُلِهِ وِإِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَکُمْ أَجْرٌ عَظِیمٌ". (سورة آل عمران :179).

ویقدم القرآن الکریم الحادثة التالیة التی وقعت فی زمن النبی صلى الله علیه کمثال على ذلـک: "وَمَا أَصَابَکُمْ یَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَ لِیَعْلَمَ المُؤْمِنِینَ *وَ لِیَعْلَمَ الَّذِینَ نَافَقُوا وَ قِیلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِی سَبِیلِ اللهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاًً لاتَّبَعْنَاکُمْ هُمْ لِلْکُفْرِ یَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِیمَانِ یَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ وَ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا یَکْتُمُونَ" ( سورة آل عمران :166-167).

والآیات المذکورة توضح تماما ما ذکرناه حتى الآن. ففی عصر النبی محمد صلى الله علیه وسلم, واجه المسلمون الظلم وعانوا ظروفا شاقة. ولکن, ومثلما تشیر إلى ذلک الآیة, فما عانوه وکابدوه کان بإرادة الله تعالى, فأعان ذلک على کشف المنافقین الذین حاولوا أن یسببوا الأذى للمؤمنین. أی بمعنى آخر, کل شیء فی النهایة أفضى إلى مصلحة المؤمنین.

     المسلمون, الذین یفهمون العبر والدروس الموضحة فی هذه الآیات, یعتبرون الحدث الذی یبدو سیئا, أو لحظات المصاعب فرصة من خلالها, یُوضع إخلاصهم وإیمانهم وصدقهم لربهم تحت الاختبار. لا ینسون أبدا، أن الصعاب أو النعم هی لامتحانهم و اختبارهم. بل على العکس, لصدقهم وإذعانهم لربهم وحده , یغیر الله ما یبدو سیئا فیکون خیرا لعباده المخلصین.

فی الصفحات التالیة, سوف نتحدث عن المصاعب التی من الممکن أن تعترض سبیل المؤمن والمحن التی کثیرا ما تصیب المؤمنن فی هذه الدنیا. وهدفنا هو تذکیر المؤمنین بالنعم المخبوءة و المکافآت التی ینالونها بصبرهم, فی هذه الدنیا وفی الآخرة.

   

ابتلاء الله للإنسان بفقدان ثروته

إنّ هدف أکثر الناس فی الحیاة هو جمع أکبر ثروة ممکنة. و للوصول إلى هذه الغایة, فهم یلجئون إلى کل طریق, ویتبعون کل سبیل حتى لو کان محظورا أو غیر شرعی. إن الأهمیة التی یعطیها الإنسان للممتلکات وصفت فی القرآن الکریم ب"حبّ" لـ "زینة الحیاة الدنیا"، قال تعالى: "زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَ البَنِینِ وَ القَنَاطِیرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَیْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَ الْحَرْثِ ذَلِکَ مَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَ اللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" (سورة آل عمران: 14).

وقال تعالى: "الْمَالُ وَ الْبَنُونَ زِینَةُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَ الْبَاقِیَاتُ الصَّالِحَاتُ خَیْرٌ عِنْدَ رَبِّکَ ثَوَابًا وَخَیْرٌ أَمَلاً" (سورة الکهف: 46).

و فی آیة أخرى, یصف الله تعالى أولئک الناس البعیدین عن الأخلاق الدینیة بـقوله: "وَ تُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا" (سورة الفجر :20).

وما ینبغی علینا فهمه من هذه الآیة, هو أن الجاهل یتوق بشدة للغنى لأن الغنى هو أحد أهم  مقاییس المکانة والمنزلة فی المجتمعات ذات القیم البعیدة عن الدین. ففی هذه المجتمعات التائهة, یوقر الناس الثریّ ویحترمونه ویجلونه لغناه. وإحراز مثل هذا الثراء یجعل أصحابه یخطئون معتقدین أنه أصبحت لهم سلطة هائلة. وفی هذه الحالة یصبح امتلاک الثروة الهدف الرئیسی فی الحیاة.  

وهذه الرغبة الجامحة فی امتلاک الثروة تقود إلى حیاة ملؤها الخوف من فقدانها. فهؤلاء الذین یملکون مثل هذه النظرة کثیرون ما یقنطون عند فقدانهم لثرائهم, وعندها یصبحون متمردین إزاء خالقهم. ولکونهم جاهلین بأن ما أصابهم هو عبارة عن ابتلاء، فإنهم یصبحون مُحبطین تماما بسبب فقدانهم لثروتهم.

   وفی المقابل یأمر الله تعالى الإنسان بقوله: " لِکَیْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَکُمْ وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاکُمْ وَ اللهُ لاَ یُحِبُّ کُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" (سورة الحدید :23).  فهو تعالى یأمر الإنسان أن یقود نفسه باعتدال و یتبنى الأخلاق الحمیدة. فالقنوط لفقدان الثراء والابتهاج فی أوقات البحبوحة, هو دلیل على الکفران والجحود تجاه الله تعالى.

تحت تأثیر هذه النظرة المنحرفة، فإن أفراد المجتمعات الجاهلة یعتبرون أنه من المقبول تماما الشعور بخیبة الأمل لفقدانهم ممتلکاتهم. فالأمان الاقتصادی الذی یستمتع به صاحبه مثلا والذی یتمثل فی الغنى و الثراء, قد یختفی فجأة  بسبب کارثة طبیعیة, أو بسبب حریق یأتی علیه فی لحظات. وقد ینتهی الأمر بالمرء أحیانا إلى أن یدمر بیتا جمیلا شراه بعد سنوات من الادخار والجهد لأن زلزالا هزه من قواعده. فالأمر المهم هنا, أن الإنسان غیر المدرک لطبیعة هذه الحیاة  سیشعر بالارتباک عندما یصاب بخسارة کهذه؛ فیصبح بذلک مثقلا بالتشاؤم مشحونا التمرد.

إنّ هؤلاء البعیدون عن أخلاق القرآن الکریم یفشلون فی أن یدرکوا أن فقدانهم لثرائهم قد یکون لخیر ومنفعة. ومن الطبیعی-  بسبب نظرتهم هذه و تقصیرهم فی التوکل على الله - أنّ العلو الذی یشعرون به بسبب غناهم وثرائهم سوف یجلب لهم التعب والمشقة النفسیة.

أما أولئک الذی یوقنون أن مع العسر یسرا وأن الخیر مع الشدّة، فحالهم لیست على هذا النحو. فهم یدرکون أنّ فقدان الثراء والمتاع هو لهدف وغایة, حتى وإن لم یتمکنوا فورا من التوصل إلى الحکمة من ذلک الأمر. فقد یکون وکأنه تذکرة من الله تعالى لعباده الذین غرهم الثراء و غلبتهم متع الدنیا الزائفة. فأی نقص فی المال إنما یذکرنا بقدرة الله المطلقة وفقرنا الکبیر إلیه, وبالتالی یدفعنا إلى ترکیز اهتمامنا به وحده. أو لعل الله تعالى قد ادخر لعباده الذین صبروا فی الضائقات الألیمة وتوکلوا علیه ما هو أفضل. فعوضا عن متع الحیاة الدنیا الزائلة, یمنحهم الله تعالى ما لا یعد و لا یحصى من نعم الجنة الأبدیة ؛ وبکل تأکید , فإن نعم الجنة الخالدة أعظم من نعم الدنیا الزائلة.

على کل حال, فإن تلک التغیرات فی الأرزاق قد تأمن هدفا عاجلا و فوریا. فمثلا, قد یکون هناک من خیر فی إصابة أحدهم بحادث طریق بسیارته الجدیدة , لأنه بذلک قد حفظه الله من حادثة أکثر خطورة لربما کانت ستسبب له أذى أکبر. فالإنسان بضمیره الحی یدرک أن هذه الحادثة هی بمثابة تذکرة, وإنذار, فیسأل الله تعالى المغفرة و یرضى بالقضاء المقدر له من الله تعالى.

  

" عسى أن تحبوا شیئا وهو شر لکم..."

کما قلنا سابقا, فالله تعالى یعلمنا فی سورة البقرة , الآیة 216, أن بعض الوقائع التی تبدو لنا سلبیة هی فی الحقیقة جیدة و إیجابیة. و بالمثل, وکما تشیر إلى ذلک الآیة الکریمة نفسها, فالله تعالى أیضا یوضح لنا أن ما قد یحبه الناس فی هذه الدنیا قد یکون وراءه شر کبیر لهم. وفی القرآن الکریم, یضرب الله تعالى المثل  بالکافرین الأغنیاء الذین یثقل علیهم الإنفاق من ثروتهم. فهم یعتقدون أن توفیر المال "ذکاء" وفطنة, وظنهم أنه بادخاره و عدم إنفاقه فی سبیل الله سوف یجلب لهم بعض النفع, بینما هو جهل وغفلة. وفی القرآن أیضا, یخبرنا الله تعالى أن مثل هذا الغنى, هو الشر بعینه و لن یجلب لصاحبه إلا العذاب فی جهنم.           

قال تعالى: "وَ لاَ یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ یَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَیْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَیُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ وَ للهِ مِیرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ وَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِیرٌُ" ( سورة آل عمران:180).

فی سورة القصص, یحکی الله تعالى لنا  قصة قارون. لقد وهب الله تعالى قارون الثراء الفاحش لکنه أصبح مختالا مغرورا لسعة ثروته, وعظمت غطرسته إزاء ربه. ففی حادثة قارون, الذی أُهلک لأنه بقی غافلا عن النذر, عبرة للناس. وقد قص علینا القرآن الکریم قصة قارون کما یلی: ”إِنَّ قَارُونَ کَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَیْهِمْ وَ آتَیْنَاهُ مِنَ الکُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِی القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ یُحِبُّ الفَرِحِینَ * وَابْتَغِ فِیمَا آتَاکَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَ لاَ تَنْسَ نَصِیبَکَ مِنَ الدُّنْیَا وَ أَحْسِنْ کَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَیْکَ وَ لاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِی الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ یُحِبُّ المُفْسِدِینَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِیتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِی أَوَ لَْم یَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَکَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَکْثَر جَمْعًا وَ لاَ یُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمُونَ“. (سورة القصص:76-78).

وکما توضح لنا الآیات السابقة, فإن قارون قد اعتقد أن کنوزه ستجلب له الخیر. لذا ابتهج وغدا متعالیا ومتکبرا بها. لکنه, فی النهایة عانى من خیبة أمل عظیمة.

ومن جانب آخر فإنّ نظرة المؤمنین إلى أموالهم تختلف کثیرا عن هذا الفهم الخاطئ. والاموال والثروات عند المؤمن الملتزم بتعالیم القرآن, لا تمثل غایة فی حد ذاتها ولا یولیها ذلک الاهتمام المبالغ فیه. فالمؤمن یقود نفسه بنبل؛ فهو لا یسمح لنفسه ان تقوده کما تشاء فتجعله یلهث وراء المال بلا توقف. إنّ المؤمن یکرس کل حیاته فقط لکسب رضى الله تعالى، ولا یسمح لنفسه أبدا أن تأسره برغبات أنانیة؛ فهو یتوق لثواب الآخرة الأبدی و لیس لمتاع الحیاة الدنیا. فالله تعالى یَعدُ المؤمنین الذین عرفوا طریقهم وحددوا نظرتهم إلى المال والدنیا بالجنة، قال تعالى: "إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُم الجَنَّةَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللهِ فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْرَاةِ وَ الإِنْجِیلِ وَ القُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمْ الذِی بَایَعْتُمْ بِهِ وَ ذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ العَظِیمُ". (سورة التوبة :111) .

إنّ الأنبیاء والرسل والمؤمنین الصادقین المخلصین اعتبروا أن ما عندهم هو بمثابة نعمة من ربهم، فهم یعلمون من أعماق قلوبهم أن کل ما یملکون یرجع فی النهایة إلى الله وحده. لهذا فهم ینفقون من مالهم وممتلکاتهم فی سبیل الله. وهذا الخلق السامی والشعور النبیل تجاه الآخرین ذکره القرآن الکریم فی قوله تعالى: "لَیْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لَکِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَ الیَوْمِ الآخِرِ وَ المَلاَئِکَةِ وَ الکِتَابِ وَ النَّبِیِّینَ وَ آتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِی القُرْبَى وَ الْیَتَامَى وَ المَسَاکِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ وَ السَّائِلِینَ وَفِی الرِّقَابِ وَ أَقَامَ الصَّلاَةَ وَ آتَى الزَّکَاةَ ..."(سورة البقرة :177).

کذلک فإن المؤمنین لا ینفقون  للتفاخر، فنیتهم الصادقة من الإنفاق هی کما تبینه الآیة الکریمة: ”وَمَثَلُ الذِینَ یُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَ تَثْبِیتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...“ (سورة البقرة:265)

وهم عندما یفقدون بعض ممتلکاتهم, یتصرفون بشکل مختلف کثیراعن أولئک الجاهلین. ففی واقع الأمر, هم یعرفون أنه امتحان من الله تعالى. فیصبرون و یسعون لإدراک ما قد یظهر من خیر من وراء تلک الخسارة أو الفقدان. والنظرة النبیلة التی ینظر بها المؤمن إلى الأحداث یعکسها هذا الدعاء الذی یعلمنا القرآن الکریم أن ندعو به: "قُلْ اللَّهُمَّ مَالِکَ المُلْکِ تُؤْتِی المُلْکَ مَنْ تَشَاءُ وَ تَنْزِعُ المُلْکَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِیَدِکَ الخَیْرُ إِنَّکَ عَلَى کُلِّ  شَیْءٍ قَدِیرٌ". (سورة آل عمران :26)

     وتبعا لذلک, فالمؤمنون یعلمون جیدا أنّ الثراء و المال الذی یملکه غیر المؤمنین فی هذه الحیاة الدنیا لن یجلب لهم سوى العذاب والخسران، وهذا وعد من الله تعالى: ”فّلاَ تُعْجِبْکَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا یُرِیدُ اللهُ لِیُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِی الحَیَاةِ الدُّنْیَا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ کَافِرُونَ“. سورة التوبة:55)

 

      الحکم الإلهیة من وراء الأمراض

 

إن الناس الذین یعیشون فی مجتمعات الجهل  یخططون باستمرار للمستقبل و یأملون أن تتقدم خططهم کما یرغبون.

و هنا تکمن المشکلة, فحدوث مرض غیر متوقع أو حادثة معینة تلقی بحیاتهم فی فوضى تامة, حیث أن تلک الأحداث لم تکن داخلة فی خططهم المستقبلیة. وعندما کانوا یتمتعون بکامل عافیتهم, لم یفکر الکثیر منهم أبدا أن مثل تلک الأحداث –مع أنها تحصل للآلاف کل یوم – قد تحدث لهم.

لهذا, عندما یُواجه الجاهلون بمثل تلک الأحداث غیر المتوقعة, فإنهم یفقدون فورا صوابهم ولا یعرفون ما یفعلون. فهم ینکرون حقیقة القدر و یقولون ,"لماذا حصل لی هذا ؟ " والسبب أن هؤلاء البعیدین عن التمسک بالأخلاق القرآنیة, ینزعون إلى عدم التوکل على الله فی أوقات الشدة أو المرض, أولا یبحثون عن الخیر فیما یحصل لهم.

إنّ هؤلاء الذین لا یدرکون حقیقة القدر, یعزون سبب المرض لمجرد الفیروسات أو البکتریا. وبالمثل, عند تورطهم فی حادث سیر, فهم یعتبرون أن سائق السیارة الأخرى هو السبب فی الحادثة. بینما الحقیقة لها صورة مختلفة تماما. فکل ما یسبب المرض, من بکتیریا أو میکروب أو أی شیء یسبب الأذى للإنسان, فی الواقع مخلوقات خلقها الله تعالى وهی مجرد أسباب. فلا شیء من هذ الأشیاء أسباب "عشوائیة"؛ فهی تمتثل لحکم الله تعالى. و الإنسان قابل للتأثر بالمیکروبات لأن الله أراده کذلک. وإذا حل بإنسان مرض خطیر بسبب فیروس ما, فذلک یحدث لأن هذا ضمن علم الله و إرادته.

لو أن سیارة صدمت إنسانا, فترکته مقعدا, فهو أیضا حدث أوجد بإرادة الله. وهو لن یستطیع أبدا أن یغیر مجریات تلک الأحداث؛ ولا حتى واحدة منها مهما ناضل لتجنبها. فهو لا یستطیع أن یمحو لحظة واحدة من قدره, هذا لأن القدر قد خلق کوحدة واحدة. ولإنسان مستسلم لربه العظیم, واثق  فی حکمته ورحمته المطلقة, حدث أو مرض کهذا أو ما شابهه, ما هو إلا محنة مؤقتة توصل للنعیم المطلق فی الجنة

إنّ الصفات الأخلاقیة الحسنة التی یتمسک بها الإنسان فی ظروف کتلک, هی الأمر المهم.  فالأمراض و الحوادث هی الوقائع التی یملک المؤمنون الفرصة لیقدموا إزاءها البرهان على صبرهم  وحسن أخلاقهم, وبواسطتها یستطیعون أیضا التقرب من الله تعالى. وفی القرآن الکریم, یتحدث الله تعالى عن الأمراض فی حین أنه تعالى یسرد لنا أهمیة الصبر فی تلک الأوقات.            

قال تعالى:" لَیْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَ المَغْرِبِ وَ لَکِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَ الیَوْمِ الآخِرِ وَ المَلاَئِکَةِ وَ الکِتَابِ وَ النَّبِیِّینَ وَ آتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِی القُرْبَى وَ الیَتَامَى وَ المَسَاکِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ وَالسّّائِلِینَ وَ فِی الرِّقَابِ وَ أَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّکَاةَ وَ المُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَ الصَّابِرِینَ فِی البَأْسَاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِینَ البَأْسِ أُولَئِکَ الذِینَ صَدَقُوا وَ أُولَئِکَ هُمْ المُتَّقُونَ" (سورة البقرة:177).

إنّ حقیقة اعتبار الأمراض فی هذه الآیة من ضمن المحن یستحق بعض التأمل والتفکیر. فالإنسان عندما تواجهه مشکلة صحیة علیه أن یتذکر دوما أنها امتحان له, وأن الله تعالى هو فقط من یجلب الأمراض و یشفی منها. هذا هو المنطق اللازم للحفاظ على سلوک أخلاقی سلیم. فالإنسان ینتفع من تفکیره بالخیر و الهدف الإلهی من وراء المرض الذی یعانی منه, أو الحادثة التی ألمت به, مع أنه قد لا یتمکن من فهمها فی الحال.  لربما کان علیه أن یمر بصعاب مؤقتة, ولکن هذا الإنسان، وهو العبد الذی أذعن لله بصدق، سوف یفوز بالنعیم المطلق.

فعلینا جمیعا أن نبقى ذاکرین, مع ذلک, أنه من المهم إدراک هذه الحقیقة فی أعماق قلوبنا و أن نحافظ على الأخلاق العالیة فور إصابتنا بحدث ما. و للوصول إلى هذه الغایة, من الضروری أ ن نعلم أن کل الأمراض وجدت لهدف. و لو أراد الله تعالى لما أصابنا أی مرض، ولبقی الواحد منا صحیحا لا یمرض أبدا. ولکن, هذه الأمراض هی لغایة ما، فإذا ما ابتلی الإنسان بمحنة ما, فعلیه أن یدرک أنها لهدف, وهذا یساعده فی فهم زوال هذه الحیاة الدنیا و قدرة الله المطلقة.

 

       الأمراض تذکر الإنسان بضعفه وحاجته إلى الله تعالى

فی أوقات المرض, تهجم البکتیریا والفیروسات على الجسم القوی فتجعله منهکا متعبا. و کما هو معلروف, فإن کثیرا من الأمراض تسبب الألم و تترک الجسم واهنا ضعیفا. وفی بعض الأحیان, قد لا یقوى الإنسان على النهوض من فراشه أو القیام بأعماله الیومیة. ولأن هذا الإنسان غیر قادر على مقاومة فیروس صغیر غیر مرئی,  یزداد بالتالی  فهمه لمدى ضعفه وکیف أنه فی حاجة مستمرة إلى الله تعالى. وعندما تتراجع صحة الشخص بعد أن کان قویا جلدا، وبعد أن کان یتجرأ على الله أحیانا فیعصی أوامره وینسى نُذره ویتفاخر بأمواله وممتلکاته, یدرک تمام الإدراک هذه الحقیقة. وبالتالی یحسن تقدیر العظمة الإلهیة, عظمة الله الخالق لکل شیء.

    

 

      الأمراض تُشعر الفرد بأن العافیة نعمة و فضل من الله تعالى     

 

هناک أمر طالما نفشل فی تقدیره خلال صخب حیاتنا الیومیة، وهو الغفلة عن الانتباه إلى أن الصحة والعافیة من أکبر النّعم.

إنّ الإنسان الذی لم یعان من مرض لفترة طویلة, و بالتالی لم یکابد الألم, سیعتاد على حالته تلک. ولکن, عندما یباغته مرض مفاجئ یدرک أن الصحة نعمة عظیمة من الله تعالى. هذا لأن الحرمان  من شیء أو فقدانه یجعل الواحد منا یحسن تقدیر قیمته. وکما وضعها لنا سعید النورسی المعروف أیضا ببدیع الزمان: ”اتّفق أهل الحق على القول "إنما تُعرف الأشیاء بأضدادها ..." فمثلا: لولا الظلمة لما عُرف النور, ولظل دون معنى. و لولا البرودة لما عرفت الحرارة و لبقیت دون طعم، ولولا الجوع لما  أحس الإنسان بلذة الأکل، و لولا حرارة المعدة لما کان للماء ذوقا, و لولا العلة لکانت العافیة بلا ذوق، ولولا المرض لکانت الصحة عدیمة اللذة." اللمعة الخامسة و العشرون, الدواء السابع".

 

المرض الخطیر یذکّر الإنسان بعجزه وحاجته إلى الله

 

إنّ أغلب الناس یعتبرون أنّ إصابتهم بمرض ممیت أو فقدانهم لعضو فی جسدهم أمر یدعو إلى الغضب والامتعاض. بینما, بالعکس من ذلک ینبغی النظر إلیه نظرة مختلفة بحیث یفهم على أنه وسیلة للنجاة فی الآخرة ودعوة إلى مزید توثیق الصلة بالله تعالى. فالإنسان المبتلى بمرض خطیر یصبح أکثر حذرا ویقظة, ولذلک فإن معاناته وآلامه تساعده على إدراک لا مبالاته التی طالما أعاقت ضمیره وقلبه, وتحثه بذلک على التبصر فی حقیقة الحیاة الآخرة. ففی مثل هذه اللحظات ینتبه الإنسان إلى حیاة العبث التی کان یعیشها ویدرک مدى قرب لحظة الموت. وبدلا من أن یحیى حیاته بلا مسؤولیة, فإن انقضاض المرض علیه فجأة, یجعله یدرک أهمیة کسب رضى الله تعالى والفوز بنعیم الآخرة, و بالتالی یکون المرض سبیلا للنّجاة.

 

الأمراض تزید من تضرع الإنسان  إلى الله و قربه منه

 

عندما تزید تأثیرات المرض فتصبح أکثر خطورة, یبدأ الإنسان التفکیر فی الموت, تلک الفکرة التی تعمد تجنبها لوقت طویل. وعندئذ یدعو الله بکل ما أوتی من إخلاص وصدق, أن یمنحه الشفاء من ذلک الدّاء. فحتى الإنسان الذی لم یدع الله یوما, قد یشعر فجأة بحاجته للتوسل إلى الله عندما یبتلى بمرض عضال. فهو یتوجه إلى الله بأصدق الدعوات وأخلصها ؛ وهذا ما یکون سببا فی زیادة قربه من الله تعالى. وإذا لم یظهر الجحود و کفران الجمیل بعد شفائه بل استمر فی الصلاة والدعاء بصدق وإخلاص, فإن مرضه هذا یصبح خیرا وبدایة لحیاة ملؤها الإیمان.

والله سبحانه یذکر الناس الذین یتوجهون إلیه فی تلک المحن بقوله تعالى: "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِیضٍ" (سورة فصلت: 51) 

ویقول تعالى: "وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا کَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ کَأَنْ لَمْ یَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ کَذَلِکَ زُیِّنَ لِلْمُسْرِفِینَ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ" (سورة یونس: 12).

وقال تعالى: "وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِیبِینَ إِلَیْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةٌ إِذَا فَرِیقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ یُشْرِکُونَ" (سورة الروم :33) .

وکما تشیر إلى ذلک الآیات السابقة, على الإنسان أن لا یدعو الله فقط فی أوقات الصعاب والمحن، بل علیه أن یلجأ إلى إلیه کذلک بعد أن یرفع عنه مصابه. عندئذ یمکن أن یکون هذا المرض دافعا للإنسان لکی یعترف بضعفه أمام الله تعالى فیتوب إلیه, وبالتالی یقوی صلته بالله تعالى ویشدّه إلى طاعته أکثر.

 

قد تکون الجنّة هی جزاء الصبر على المرض

 

هناک هدفا آخر من تکبد عناء الأمراض ألا وهو امتحان صبر الإنسان بالله وثقته به. فعندما یمتحن المسلمون بمرض یتمیزون جلیا عن غیرهم من أقوام الجهل, بالصبر و الثقة بالله تعالى وإخلاصهم له وحده. وذلک لأنهم أدرکوا الفهم الصحیح الذی یثبتون علیه فی أوقات الشدة، فهم یستحقون رضى الله تعالى. فغایتهم هو کسب الجزاء العظیم فی الآخرة. فالإنسان الذی فشل فی إخضاع نفسه لله قبل مرضه قد یکتسب تلک الصفات النبیلة خلال مسار معاناته, وقد یحرز النعیم المطلق فی الجنة مقابل تلک المشکلات المؤقتة فی الدنیا.

إن سیدنا إبراهیم بدعائه الصادق المخلص عند مواجهة المرض هو مثال جید لکل المؤمنین, قال تعالى: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهْوَ یَشْفِینِ *وَ الَّذِی یُمِیتُنِی ثُمَّ یُحْیِینِ" (سورة الشعراء:80-81).

إن الموقف النبیل الذی اتخذه سیدنا أیوب علیه السلام هو مثل آخر جید للمؤمنین. وکما یخبرنا القرآن الکریم, فأیوب علیه السلام عانى من مرض شدید جدا؛ ولکن مرضه عزز إخلاصه وثقته بالله تعالى و توکله علیه, فجعلته خصاله تلک من بین الأنبیاء الذی أُثنی علیهم فی القرآن الکریم.

وبالإضافة إلى کل ما عانى سیدنا أیوب علیه السلام من أمراض، یخبرنا القرآن الکریم,أنه کان أیضا معرضا لوساوس الشیطان الخبیثة. فقد استغل الشیطان لحظة الضعف تلک, وحاول أن یصرفه عن وضع ثقته بالله والتوکل علیه. وفی أوقات کتلک, من الصعب على إنسان مریض أن یرکز انتباهه,  وبذلک یصبح عرضة لوساوس الشیطان؛ ولکن إخلاصه لله وثقته به وتوکله علیه حق التوکل عصم سیدنا أیوب علیه السلام من مکائد الشیطان. وقد تضرع إلى الله بإخلاص وسأله العون والتثبیت.

وقد قص علینا القرآن الکریم دعاء سیدنا أیوب علیه السلام لکی نأخذ منه العبرة والعظة، قال تعالى: ”وَأَیُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ "أَنِّی مَسَّنِی الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِینَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَکَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَیْنَاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدَنَا وَ ذِکْرَى لِلْعَابِدِینَ“ (سورة الأنبیاء: 83-84).

واستجاب الله لدعاء سیدنا أیوب لأنه کان صادقا مخلصا, قال تعالى:

”وَاذْکُرْ عَبْدَنَا أَیُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّی مَسَّنِیَ الشَّیْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ* اُرْکُضْ بِرِجْلِکَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَ شَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِکْرَى لأُِولِی الأَلْبَابِ وَخُذْ بِیَدِکَ ضِغْثًا فَاُضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ“ (سورة ص:41-44). فسیدنا أیوب علیه السلام تلقى المکافأة على عظمة أخلاقه وحسن توکله على الله تعالى وصدق لجوئه إلیه. وأصبح مثلا طیبا یحتذى به عند المؤمنین کافة. 

 

   فی أخطاء المؤمنین أیضا خیر

 

إن ارتکاب الخطإ هی من الأمور التی یفزع  الناس منها فزعا شدیدا فی المجتمعات التی یکثر فیها الجهل. فعندما یرتکب الإنسان خطأ یتعرض للإهانة ویصبح عرضة للسخریة. أو لعل خطأه ذاک قد یجعله یفقد فرصا ربما رآها مهمة. فارتکاب الخطإ فی المجتمعات الجاهلیة هو بمثابة الکابوس الذی ینبغی عدم الوقوع فیه.

أما القرآن الکریم فینظر إلى هذه المسألة من زاویة أخرى مختلفة. فالمؤمن لا یحکم على الناس من خلال أخطائهم، لأنه یعرف أن الذی أخطأ إنسان وکل الناس خطائین. ولذلک فالمؤمن، على العکس یشعر بالرحمة والشفقة على المخطئین.

عندما یرتکب المؤمن خطأ, یتأمله جیدا ویدرک بضمیره الحی مواطن الخطإ؛ فمخافته من الله تعالى وضمیره ینبهانه على الفور. فهو یناضل لیصحح أخطاءه, ویدعو الله الحلیم ویسأله التوبة. ففی الواقع, إن ما یشعر به المؤمن من ندم بعد ارتکابه للخطأ, لن یقوده إلا إلى خیر. وذلک لأن شعوره لیس من نوع الندم المشوب برثاء النفس الذی یشعر به غیر المؤمن, بل هو إقدام و تصمیم على عدم تکراره مجددا. إن الإذعان الذی یظهره المؤمن لله, وتوکله علیه والعمل مع الإدراک أن کل الأحداث إنما هی جزء من قضائه وقدره کلها عوامل مهمة بالنسبة إلیه، فهی تقربه أکثر من خالقه.

 

"کل نفس ذائقة الموت ..."

حسب اعتقاد الغافل الجاهل, فإن أسوء ما قد یحدث لإنسان هو الموت. هذا لأن أقصى ما یخافه هو الدنو من الموت أو فقدان حبیب. فهو یتجنب حتى مجرد الحدیث فی الموت. ومع أن الجاهل قد یدرک الخیر فی أحداث معینة, إلا أن الموت بالنسبة إلیه, لا یمکن أبدا أن یکون شیئا جیدا.

إن نظرة المجتمعات غیر المؤمنة إلى الموت ثابتة لا تتغیر؛ فهی لن تتمکن أبدا من النظر إلیه بطریقة مختلفة. الموت فی هذه المجتمعات هو بمثابة الفناء والزوال الکامل, أما الآخرة فهی مجرد تخمین.

إن الأقوام التی تعیش بعیدة عن الحیاة الدینیة الحقیقیة تعتقد أن هذه الدنیا هی المبدأ والمآل، وهی الحیاة الوحیدة ولاشیء بعدها. وبالموت, تنتهی هذه الفرصة الوحیدة. وهنا المشکلة التی تقود إلى المعاناة, فهم یحزنون أشد الحزن لفقدان عزیز. بل والأسوء من ذلک, ففقدان عزیز فجأة فی سن الشباب قد یقود الجاهل لکی یکفر بالله أکثر ویغضب منه ومن القضاء والقدر.

لکن هؤلاء ینسون بعض الحقائق المهمة: الأولى, لا أحد على وجه هذه الأرض یبعث للوجود بإرادته. فحیاة کل واحد منا بید الله تعالى؛ کل واحد منا قد ولد فی وقت سبق وقدر من الله وحسب مشیئته. فالله, الذی له ما فی السماوات و ما فی الأرض و ما بینهما, بإمکانه أن یسترد روح من یشاء, فی أی وقت یشاء. فلا أحد یستطیع أن یؤخر أجله. وهذا ما بینه القرآن الکریم: "وَ مَا کَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ کِتَابًا مُؤَجَّلاً وَ مَنْ یُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْیَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَنْ یُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِی الشَّاکِرِینَ" (سورة آل عمران :145). 

فمهما اتخذ الواحد منا من و سائل الحذر, أو مهما اختار له من مکان آمن محصن, فلن یستطیع أن یتجنب الموت. فالإنسان قد یرحل عن هذه الدنیا فی أی وقت. وبالمقابل, مهما ناضل أحدهم لکی لا یفقد عزیزا أو حبیبا –حتى إن استنفد کل الوسائل الممکنة على الأرض لهذه الغایة-  لا یمکنه أن یمنع الموت. فهذا الإنسان قد یواجه بالموت أینما یکون، وهذا ما تشیر إلیه الآیة الکریمة, قال تعالى: "أَیْنَمَا تَکُونُوا یُدْرِکْکُمْ الْمَوْتُ وَلَوْ کُنْتُمْ فِی بُرُوجٍ مُشَیَّدَةٍ..." ( سورة النساء:78). إذن, فالحل هو أن لا نجتهد فی تجنب الموت,  بل فی أن نکون مستعدین للحیاة الآخرة.

 

     الموت هو البدایة ولیس النّهایة

     إن ضعاف الإیمان أو أولئک الذین لا یؤمنون بالآخرة, لدیهم فهم مشوه للموت و للحیاة التی تأتی بعده. ولهذا, فهم یعتبرون الموت مصیبة وفاجعة ولیس رحمة. فهم یؤمنون أنه عندما یفقدون بالموت أحدا فإنما یفقدونه إلى الأبد؛ ولهذا, فهو یصیر فی باطن الأرض إلى العدم الذی لا رجعة ولا حیاة بعده. 

وفی الحقیقة, فالموت لیس بنهایة أبدیة، بل هو انتقال إلى الحیاة الآخرة , حیث المأوى الأخیر. إنها لحظة نقترب منها جمیعا, إلى الیوم الذی سیکون علینا أن نقدم فیه تقریرا بکل ما فعلنا فی هذه الحیاة الدنیا, إنه یوم الحساب. فکل إنسان, سیجد نفسه وجها لوجه مع لحظة الموت التی تقوده إلى الخلود. قد یحدث هذا فی مقتبل العمر، وقد یحدث مع تقدم السن. لکن فی النهایة الجمیع سوف یرحلون یوما عن هذه الدنیا؛ وکل یوم یمر یقربنا من هذا الموعد أکثر فأکثر. ولذلک فالاجتهاد للهروب من الموت أمر لا یجدی, وتجنب الخوض فی فکرة الموت نفسها أو اعتباره کارثة, أمر غیر منطقی تماما.

وهناک بعض الناس الذین یؤمنون بالآخرة ولکنهم یبدون الحزن والأسى عند فقدان شخص ما. لکنهم ینبغی أن یعرفوا أن الله تعالى لا یظلم أحدا وکل إنسان سوف یحاسب على کل ما عملت یداه فی هذه الدنیا. ولهذا فکل من آمن بالله تعالى وبالآخرة, وعاش حیاة مکرسة لعبادة خالقه, فإنّ الموت یکون بابا من خلاله یمضی إلى حیاة أخرى فی الآخرة ملؤها السعادة. ولکن الموت من وجهة نظر الجاهل الذی ینکر الآخرة ویستخف بیوم الحساب, هو طریق لعذاب أبدی. لهذا السبب, یصعب علیهم اعتبار الموت خیرا لهم. أما بالنسبة للمؤمنین فالموت هو البدایة لنجاة کاملة.

إنّ رد فعل المؤمن إزاء موت مؤمن آخر یختلف یختلف بوضوح عن رد فعل الجاهل لأن الموت الذی ینظر إلیه الجاهل على أنه أسوأ ما یقابل الإنسان هو فی الحقیقة, خیر للمؤمن. ویبین الله تعالى حقیقة الموت عند المؤمنین: "وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِی سَبِیلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَیْرٌ مِمَّا یَجْمَعُونَ" (سورة آل عمران: 157 ).

إن حیاة المؤمن خیر وموته خیر. فالله تعالى یخبرنا أن الجنة أعدت على مراتب ودرجات, وأعلاها خصصت للمؤمنین الذین یموتون جهادا فی سبیله. فالشهادة فی سبیل الله شرف ونعمة ینال بها المؤمن أعلى المراتب فی الآخرة. إنّ الموت یمثل حدثا رائعا عند المؤمن إذا کان سیفضی به إلى الجنة وإلى کسب رضى الله تعالى. والمؤمن یوقن بتلک الأخبار السارة المذکورة فی القرآن الکریم, فالمؤمنون لا یأسفون أبدا لموت مؤمن آخر أفنى حیاته فی ما یرضی الله تعالى. بل على العکس, هم یفرحون لذلک لعلمهم بسعادة المآل الذی أفضى إلیه بعد موته. حقا, إن أعظم جائزة هی الفوز برضى الله تعالى وجنته.

إنّ المؤمن الذی عاش حیاة مدیدة طویلة مبذولة فی خدمته تعالى, یستحق نیل الجائزة. فسیدنا نوح علیه السلام, الذی منحه الله  العمر المدید, هو مثال على ما نقول لأن هذا النبی المخلص ناضل طوال حیاته لکی ینال رضى الله تعالى و رحمته و جنته, فجهوده تلک  زادت من جزائه فی الآخرة. وعلى العکس, هناک وهم تقع فیه المجتمعات غیر المؤمنة؛ فهی تعتبر العمر المدید هبة وهدیة. والآیة التالیة تکشف خطأ هذه النظرة: "وَلاَ یَحْسَبَنَّ الذِینَ کَفَرُوا أَنَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لأِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِینٌ" (سورة آل عمران :178)

هؤلاء الذین  ینتمون إلى  مجتمعات الجاهلین, الذین یجعلون من مطاردة شهوات الدنیا الزائلة عملهم الوحید فی حیاتهم, یعتبرون طول العمر فرصة إضافیة للتمتع بمتع هذه الدنیا. وهکذا, فإن هؤلاء الذین ینسون الله والیوم الآخر, یفشلون فی فهم قیمة الوقت الذی یهدرونه باستهتار. وکما ذکر فی الآیة السابقة, فهذا الوقت الذی منح لهم لیس فیه خیر لهم کما یتوهمون.

 فالإنسان الذی یتأمل ملیا هذه المسائل یفهم بعمق, کیف لنا أن نقرر ما هو "خیر" وما هو "شر", حسب قول الله تعالى: "وَعَسَى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئًا وَهُوَ خَیْرٌ لَکُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَیْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَکُمْ". 

            

              

کیف نُدرک الخیر فیما یحدث

کیف نُدرک الخیر فیما یحدث

 

 

 

           إدراک أن الله هو الذی قد قدر کل شیء بکل جزئیاته...

          إنّ معظم الناس یفرحون عندما تحدث الأشیاء وفقا لرغباتهم, ولکنهم سرعان ما یثارون للحدث الصغیر الذی لا یوافق هواهم. لکن على المؤمن أن لا یمیل لهذه المشاعر. ففی القرآن الکریم, یوضح الله سبحانه و تعالى ما یسرنا, وهو أنّه قد وضع الخیر لعباده الصادقین فی کل أمر, فما من شیء یمکن أن یهمهم أو یزعجهم.

           والمدرک لهذه الحقیقة فی صمیم قلبه, یستطیع أن یکون راضیا بکل ما یواجهه من أحداث, ویرى النعمة من ورائها.

           البعض, لا یأبهون حتى لمجرد التفکیر فی کیفیة خلقهم و سببه. مع أن ضمیرهم یدلّهم على أن لهذا الکون المدهش المتسق خالقا عظیما, إلا أن حبهم المبالغ فیه لهذه الحیاة الدنیا, أو عدم رغبتهم فی مواجهة الحقیقة, یجعلهم ینکرون حقیقة وجود الخالق و العیاذ بالله ویتجاهلون حقیقة أن کلّ واقعة فی حیاتهم قد قدرت ضمن خطة وهدف, بل یعزونها لمفهوم خاطئ, وهو الحظ أو المصادفة. فهذه نظرة  تعیق صاحبها عن رؤیة الخیر فی الأحداث و استخلاص العبر منها.

وهناک البعض الآخر, یدرکون وجود الله تعالى, ویوقنون أنه هو خالق هذا الکون، ویعترفون بحقیقة أن الله هو مُنزل الغیث وهو الذی یأتی بالشمس من المشرق. فهم مقرین أنه لا مسبب لکل ذلک إلا الله, ولکن عندما نصل إلى الأحداث التی تمر بهم فی حیاتهم, وإلى التفاصیل الصغیرة التی تشکل جزءا من المشهد  الیومی الاعتیادی یجدون صعوبة فی الاعتقاد بخضوعها لله تعالى. و مع ذلک, فالله  هو الذی یقضی بدخول لص إلى بیت أحدنا لیلا, أو عائق یوقعنا أرضا, وهو الذی ینبت أرضًا ویثمرها ویجعل أخرى جدباء قاحلة, وهو الذی یکتب لصفقة أن تکون ناجحة, أو لقدر أن یُنسى على الموقد فیحترق ما فیه. کل حدث یقع ضمن حکمة الله اللانهائیة, فی خطة سامیة. فقطرة الوحل التی تلطخ سروال أحدنا, والثقب الذی یحدث فی إطار عجلة السیارة, والبثور الظاهرة على الوجه, والاعتلال فی الصحة, أو أی شیء آخر لا نرغب فی حدوثه,  کلها أمور متداخلة فی حیاة الواحد منا ضمن خطة محددة.

لا یوجد أبدا ما هو خارج عن إرادة الله تعالى فی کل ما یصیب الإنسان فی هذه الدنیا, منذ اللحظة التی یفتح فیها عینیة. فکل الکائنات جمیعا خلقها الله تعالى, الواحد الأحد المسیطر على هذا الکون. إن کل ما خلق الله کامل وتام وملیء بالحکم والأهداف, وهو جزء من القضاء والقدر الذی خلقه  الله  تعالى؛ لا یجب على أیّ منا أن یمیز بین الوقائع بقوله جیدة لبعضها وسیئة للبعض الآخر. فما یجب على الإنسان هو أن یدرک ویقدر الکمال والمثالیة فی جمیع الأحداث, ویؤمن بکل ثقة بأن الخیر فیها, وأن یبقى واعیا بحقیقة أن الله بحکمته المطلقة, رتب کل شیء لیؤدی فی النهایة إلى النتائج المثلى.  حقا, إنّ کل من یؤمن ویسلم بالخیر فی کل ما یحدث, تصبح له الدنیا جزءا من نعیم لا ینتهی.

فی القرآن الکریم, ینبهنا الله إلى تلک الحقیقة التی ذکرناها فی هذه الصفحات، لذا فإن القصور فی تذکر أن کل شیء هو وفق قدر سماوی یعتبرا خسرانًا مبینا للمؤمن. وإنّ القضاء المقدر من الله تعالى بدیع , فهو یصیب الإنسان کما سبق وقدره الله  تماما. فالإنسان العادی یفهم الإیمان بالقضاء والقدر کطریقة فقط " للمواساة فی أوقات المحن". بینما المؤمن یحقق الفهم الصحیح للقضاء والقدر, متفهما تماما أنه المنهاج الوحید المثالی المرسوم له بدقة.

القضاء و القدر هو ذلک البرنامج الذی لا تشوبه شائبة الذی وضع لیعدّ الإنسان للفردوس. فهو مفعم بالخیر کما أنه أعد لغایة إلهیة, فکل ضائقة تمر بالمؤمن فی هذه الدنیا, ستکون مصدر سعادة و نعمة و سلام لا نهائی فی الآخرة. والآیة الکریمة: "إِنَّ مَعَ العُسْر یُسْرًا" ( سورة الشرح: 6 ) تجلب تشدنا إلى هذه الحقیقة؛ إنّ الصبر الذی یبدیه المؤمن لما یصیبه من قضاء وقدر, قد سبق و قدر له معها  الجزاء الحسن فی الآخرة.

قد یحدث مع الأیام أن المؤمن یصبح قلقا لبعض ما یحدث له, والسبب لما یشعر به هو قصوره فی تذکر أن هذا الحدث بالذات هو جزء من قدره الذی خلقه الله تعالى خاصا به. إلا أنه, سیهدأ   و یرتاح عندما یُذَکّرُ بهدف الله تعالى من خلق مثل هذا الحدث. لذا على المؤمن أن یتعلم أن یتذکر دوما أنّ کل شیء قد قدر سلفا, وأن یذکر غیره بذلک. علیه أن یصبر فی وجه تلک الأحداث التی قدرها الله له. وهناک أسرار غیر محدودة وراء الأحداث, وعلى المؤمن أن یتوکل على الله تعالى ویکافح لإدراک هذه الأسرار. والذی یبذل ما فی وسعه لتفهم تلک الأسباب, سیکون, بإذن الله تعالى, من الفائزین فی النهایة. ولکن ینبغی أن نفهم أنه قد لا یمکنه دائما إدراک أسباب هذه الأحداث وأسرارها. وعلیه أن یبقى واثقا, أن ما یحدث من أمر هو بالتأکید لخیر وغایة.

 

      فهم أن کل مخلوق, حیا کان أو غیر حی, خلق خاضعا لقدر معین...

      القدر هو علم الله التام بکل الأحداث الماضیة والقادمة, وکأنها لحظة واحدة. وهذا یظهر سلطة الله المطلقة على جمیع الکائنات والأحداث. فالناس لا یستطیعون أن یدرکوا حدثا معینا إلا عندما یعاینوه. ولکن الله تعالى یعلم کل الأحداث قبل حدوثها. فبالنسبة إلى الله تعالى, الماضی والحاضر والمستقبل أمر واحدا, فالزمن کله خاضع لعلم الله تعالى فهو خالقه وموجده.

وکما تبین الآیة الکریمة أیضا: "إِنَّا کُلَّ شَیْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ"(سورة القمر 49 )، فکل شیء فی هذا العالم له دور فی هذا القدر. وأغلب الناس لا یعطون لحظة اعتبار واحدة لطبیعة القدر, وبالتالی, یفشلون فی فهم قدرة الله اللانهائیة الکامنة وراء هذا النظام المتناسق الکامل. والبعض یعتبر أن القضاء والقدر یشمل فقط بنی الإنسان. بینما فی الحقیقة, کل شیء فی هذا الکون, ابتداء من الأثاث الذی فی بیتک, إلى الحصاة الملقاة فی الطریق, أو تلک القشة الیابسة, وقطعة الفاکهة أو العلبة الموضوعة على رف متجر, کلها جزء من القدر الذی سبق وحدده الله تعالى. إنّ مصیر کل شیء مما خلق الله تعالى قد قدر فی حکمته تعالى المطلقة.

إنّ کل حدث یراه الإنسان, وکل صوت یسمعه, له دور فی هذه الحیاة حسب الحاجة إلیه، فالحیاة وحدة متناسقة کل شیء فیها بنظام. فلیس ثمة حدث, سواء کان أساسیا أم ثانویا, یحدث فی هذا الکون  بالمصادفة. فما من وردة تزهر أو تذبل بمجرد المصادفة. وما من إنسان یبعث إلى الحیاة أو یموت لمحض المصادفة. وما من رجل یصبح علیلا لخطاْ, ولا حتى عندما یتطور مرضه لوضع غیر قابل للسیطرة. ففی کل من تلک الحالات, أعد الله تعالى هذه الأحداث خصیصا وقدرها منذ اللحظة التی أوجد الموجودات. إنّ کل کائن کان, فی أعماق الأرض أو فی المحیطات, وکل ورقة تسقط من مکانها, کلها تحدث طوعا للقدر. وکما یقول الله تعالى: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَیْبِ لاَ یَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَ یَعْلَمُ مَا فِی البَرِّ وَ الْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ یَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِی ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ یَابِسٍ إِلاَّ فِی کِتَابٍ مُبِینٍ" (سورة الأنعام: 59)

لکن الناس عامة غیر مدرکین لحقیقة أن کل لحظة من حیاتهم قد قدرها الله تعالى, فالبعض لم یتفکروا یوما کیف خلقوا, أو کیف أن کل هذه النعم التی یعیشون بها قد أوجدت. والبعض, بالرغم  من معرفتهم بأن الله هو خالق الحیاة والموت, یؤمنون بأن المصادفة هی وراء تلک الأحداث الثانویة الصغیرة. غیر أن الله تعالى فی القرآن الکریم, أخبرنا بأن أعمالنا بتفاصیلها مهما صغرت قد قدرها الله تعالى بحکمته المطلقة, وطبقا لهدف إلهی قال تعالى: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِیبَةٍ فِی الأَرْضِ وَلاَ فِی أَنْفُسِکُمْ إِلاَّ فِی کِتَابٍ  مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنِّ ذَلِکَ عَلَى اللهِ یَسِیرٌ" (سورة الحدید: 22).

إنه من الضروری أن یعی الإنسان هذه الحقیقة. ولأن مصیر کل شیء فی هذا الکون معلوم لله تعالى, العلیم  الحکیم, فهذا یعنی أنّ کل جزئیة وضعت بإتقان مطلق ولهدف. إن الإنسان الذی یحقق الفهم التام لهذه الحقیقة سینعم بالسعادة  فی کل لحظة من حیاته؛ سواء منها ما کان حسنا أو ما بدا له منها سیئا. وسبب ذلک هو أن عباده المؤمنین الصادقین نجحوا فی إدراک أن الله هو الذی أوجد قضاءهم و قدرهم دون نقص أو عیب. فهم یعرفون أنه من الجهل بمکان أن ینظروا إلى أمر على أنه مکروه بینما لا بد وأن یکون له غایة فی حساب الله تعالى. هذا الفهم العمیق لتلک الحقیقة یمکنهم من تبین النعم والبرکات فی جمیع الأشیاء التی تحدث.

         إنّ الاعتقاد بأن ما یمر به الواحد منا, لیس من خلق الله تعالى, بل الاعتقاد أن أحدا أو شیئا آخر ساهم فی حدوثه إنما یدل على قصور فی إدراک  ماهیة القضاء والقدر. وکل ما لا یبدو متفقا مع رغباتنا هو, فی الواقع, "درس فی القضاء والقدر". وعلى کل إنسان أن ینطلق لیدرک الخیر والغایة الإلهیة فی الأحداث بکل ما أوتی من عقل وحکمة. فالناس یمیلون دائما إلى ترکیز الاهتمام على کل ما یبدو سلبیا ویعتبرونه "محنة", بالرغم من وجود خیر وهدف فی ما قد یبدو فی ظاهره "محنة". فهی "محنة " فقط لأننا اخترنا أن ننظر إلیها کذلک ؛ ففی الواقع, هی أفضل ما قد یحدث لنا, لأنها الأمر الذی قدّر لنا.

لو أن الله تعالى بین الخیر و الغایة فی الأحداث التی تبدو سلبیة ,أو المشاکل التی تقلق و تغضب  الناس ,لکانوا سیتفهمون  کم کانت خیبة أملهم بلا معنى. و بإدراک النعمة و البرکة فی کل الأمور ,الإنسان المؤمن بالمقابل یشعر بالبهجة لا بالقلق . فالقضیة إذن , أن ما یتحتم على المرء عمله هو أن یسعى للتعرف على الخیر و المنافع فی القدر ,أو الحدث , التی هی   فی الحقیقة,جزء من الغایة من  خلق  الله لذلک الحدث ,وأن یشعر بالامتنان لما تجلبه له هذه النظرة من فائدة.

    

      

إدراک أن الشّر قد یکون فی أحداث ظاهرها حسن

وأن الخیر قد یکون فی أحداث ظاهرها شرّ ...

       فی الأجزاء السابقة, أکدنا على أن الله تعالى الحکیم، یخلق کل حدث وفقا لخطة محددة. ومن هنا, فإن موضوعا آخر یستحق أن نخصه بالنظر؛ وهو أن الله وحده یعلم الأحداث المناسبة والمواتیة من غیرها. فحکمة الله تعالى مطلقة, بینما نظر البشر محدود, فالبشر لا یستطیعون أن یروا سوى المظهر الخارجی للأحداث, ویعتمدون فقط على إدراکهم المحدود للحکم علیها. فمعلوماتهم أو إدراکهم غیر الکافی, فی بعض الأحیان, قد یجعلهم یکرهون شیئا بینما هو خیر لهم, ویحبون شیئا بینما هو شر لهم. إذن, على المؤمن لکی یتمکن من تمییز الخیر, أن یضع ثقته فی حکمة الله المطلقة, واثقا من أن هناک  خیرا فی کل ما یحدث له. یقول الله تعالى: ”وَعَسَى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئًا وَ هُوَ خَیْرٌ لَکُمْ وَ عَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَیْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَکُمْ وَاللهُ یَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (سورة البقرة :216).

     یعلمنا  الله تعالى هنا, أن حدثا یعتبره المرء منا خیرا قد لا یسبب له إلا  خیبة الأمل, فی هذه الحیاة الدنیا و فی الآخرة. وفی المقابل, فما یسعى بحماس لتجنبه, معتقدا ضرره, قد یکون سببا للسعادة ووالخیر. فتقدیر أی حدث فعلیا, إنما هو علم لله وحده. فکل شیء مهما بدا خیرا أو شرا, یحدث بأمر الله تعالى. فما یصیبنا إلا ما کتبه وأراده الله لنا. و یذکرنا الله تعالى بهذه الحقیقة کما یلی: ”وَإِنْ یُمْسِسْکَ اللهُ بِضُرِّ فَلاَ کَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ یُرِدْکَ بِخَیْر فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ یُصِیبُ بِهِ مَنْ یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِیمُ" (سورة یونس: 107).

    إذن, فما یصیبنا فی هذه الحیاة, مهما بدا خیرا أو شرا, هو فی الحقیقة خیر, إذ أنه ما قدره خالقنا لنا. وکما ذکرنا سابقا, فإن الذی  قد قضى بالحدث على هذا النحو, لیس إنسان مقید بمکان وزمان, بل هو الله تعالى, الذی یعلو على الزمان والمکان, خالق الإنسان وخالق الزمان والمکان أیضا. (ولمزید من المعلومات الرّجاء العودة إلى کتاب ”اللازمان وحقیقة القدر“ لهارون یحیى).   

     

 

نظرة المجتمع الجاهلی إلى الأحداث

نظرة المجتمع الجاهلی إلى الأحداث

 

  

یمیل الناس بصفة عامة إلى تقسیم  الأحداث على أنها  جیدة و سیئة. هذا التقسیم غالبا ما یعتمد على عاداتهم أو میولهم. کما أن ردود أفعالهم على تلک الأحداث تتبدل حسب خطورة و هیئة ذلک الحدث؛ ومع ذلک, فما  یشعرون به و ما یواجهونه فی النهایة, یکون محکوما بتقالیدهم الاجتماعیة.

کل واحد منا فی الغالب لدیه بقایا من أحلام الطفولة, حتى فی حیاته المتقدمة, مع أن هذه الخطط   قد لا تتحقق دوما کما توقعها أو خطط لها الواحد منا. فنحن دائما عرضة لأحداث غیر متوقعة فی حیاتنا, وحدث کهذا غیر متوقع, فی لحظة, یمکن أن یلقی بحیاتنا فی فوضى تامة. وبینما یکون الواحد  منا منکبا على سیر حیاته المعتادة, قد یواجه بسلسة تغییرات, قد تظهر للوهلة الأولى على أنها سلبیة. فمثلا, یمکن لإنسان معافى أن یستسلم لمرض ممیت, أو یفقد قدرته على الحرکة فی أحد الحوادث. أیضا, فقد یفقد رجل ثریّ کل ثروته فجأة.

إنّ ردود فعل الناس على هذا التغیر فی دولاب الأحداث یختلف اختلافا کبیرا. فردة فعلهم تکون جیدة طالما أن هذا الحدث مرغوبٌ فیه. بینما عندما یواجهون بما هو غیر متوقع یمیلون للشعور بخیبة الأمل, أو حتى الغضب. و حسب أهمیة تعلقهم بتلک الأحداث, ومحصلتها النهائیة, فانّ غضبهم قد یصبح شدیدا جدا. إنّ هذا الاتّجاه کثیرا ما یشیع فی المجتمعات التی ینتشر فیها الجهل.

وهناک البعض من هؤلاء یقولون عند حدوث ما یخیّب أملهم " لا بدّ وأن  یکون هناک خیر فی هذا". ولکنها مجرّد کلمات یتفوهون بها دون أدنى فهم لمعناها الحقیقی, إنما فقط لاتباعهم عرفا اجتماعیا.

وهناک مجموعة أخرى من الناس الذین هم على استعداد لینظروا فی حقیقة الهدف الإلهی وراء أحداث بسیطة. ولکن عندما یُواجهون بأحداث جسیمة قد تعود علیهم بالضرر، فإنهم ینسون مثل هذا العزم أو النیة. فمثلا، من الممکن لشخص ما أن لا ینزعج لتعطل محرک سیارته وهو فی طریقه إلى العمل, ویبدی استعداده لتفهم الخیر الممکن فی ذلک. ولکن, إذا ما کان تأخره عن العمل یثیر غضب مدیره ویعرضه للفصل من عمله, عنذئذ یکون ذلک سببا کافیا للاحتجاج. وقد یتصرف بأسلوب شبیه بهذا فیما لو فقد قطعة ثمینة من المجوهرات بدلا من ساعة ید زهیدة الثمن. وکما تشیر هذه الأمثلة, فهناک أحداث ثانویة معینة, یتفاعل معها الناس بعقلانیة, أو یولون استعدادهم لفهم الخیر منها؛ بینما الأحداث الأکثر إیلاما تسوقهم لیثبتوا تهورهم وغضبهم.

وبعض الناس یطلقون هذه العبارات بهدف البحث عن المواساة, دون أن یدرکوا حقا المدلول الصحیح لـ "توسّم الخیر فی کل شیء". وبهذا النمط, فهم یؤمنون بکونه طریقة  لمد ید العون للمهمومین, لفرد من العائلة خسر مشروعا تجاریا مثلا, أو لصدیق رسب فی امتحان. ولکن,عندما  تکون مصالحهم فی دائرة الخطر, عندها لا یبدون أدنى داع لرؤیة "الخیر" فیه, کاشفین بذلک الستار عن قمة جهلهم.

إنّ القصور فی رؤیة الخیر فیما یمر على الفرد من أحداث, ینبع من القصور فی إیمانه. فقصوره   فی إدراک أن الله تعالى هو الذی سبق وقدر کل حدث فی حیاة کلّ منا, وأن کل شیء إنّما یحدث وفقا لقدر معین قد سبق إعداده, وأنّ هذه الحیاة الدنیا لیست سوى امتحان, هو الذی یحجب العین عن رؤیة الخیر وإدراکه فی ما یحدث لنا.

فی الجزء التالی, سوف نستطلع هذا المعنى. وهو, أن نؤمن بأنّ هناک خیرا فی کل ما یحدث لنا, ونستطلع الحقائق المتعلقة بهذا الأمر.

       

إدراک الخیر فی کل ما یحدث

                                                           

إدراک الخیر فی کل ما یحدث

 

 

      فی الواقع إنّ عبارة ” فی کل أمر خیر“جملة شائعة کثیرا فی المجتمع. ففی مسار حیاتهم الیومیة عادة ما یردد الناسُ کلمات من قبیل ”لعلّ هذا الأمر خیر لنا" أو "لعل هذا الأمر نعمة من الله".

       لکن الناس عامة ینطقون بهذه الجمل دون أن یفهموا مدلولها الحقیقی, أو هم یفعلزن ذلک لمجرد اتباعهم عرفا اجتماعیا بلا معنى. وأکثرهم لا ینجح فی فهم معناها الأساسی, أوحتى کیفیة تطبیق فهمها على حیاتهم الیومیة. فالأمر الجوهری أن هؤلاء لا یدرکون أن تلک الجمل هی أکثر من مجرد کلمات تطلقها أفواهم بل هی تکشف لنا ببصیرة باطن أحداثنا الیومیة.

       إن الحقیقة فی رؤیة الخیر فی کل حدث مهما کانت طبیعته, إیجابیا أم سلبیا إنما ینبع من میزة أخلاقیة مهمة ناتجة من إخلاص الإیمان بالله تعالى. وأخیرا, فإنّ التمسک بهذه الحقیقة مهم جدا فی توجیه الواحد منا لیس لخیر هذه الدنیا فحسب, ولکن لنیل نعیم الآخرة کذلک.

إنّ الشعور بالرّضا لکل ما یصیبنا فی مسار هذه الحیاة هو دلیل قاطع على الفهم الحقیقی لمعنى الإیمان. وفی المقابل، فعجزنا عن رؤیة الخیر فیما یحدث لنا یجعلنا مشحونین خوفا وجزعا وقنوطا وأسى وانفعالیة، وذلک دلیل على نقص فی صدق هذا الإیمان. إنّ هذا التشویش یجب إزالته فورا,  لنلبی بذلک نداء البهجة المنبثق من الإیمان الصحیح کجزء أساسی فی هذه الحیاة. وإن المؤمن یعلم تمام العلم أن کل ما یبدو للوهلة الأولى حدثا غیر إیجابی, حتى لو کان بسبب خطأ ارتکبه هو بنفسه, فهو فی النهایة سوف یعود علیه بالفائدة.

فهو إن قال "یا لسوء حظی", "یا للمصیبة", "لو أن....", فسیقولها  فقط لیستخلص العبر من هذه التجربة. أی بمعنى آخر, إن المؤمن یعلم أن هناک خیرا فی کل ما یحدث له, فهو یتعلم من أخطائه و یسعى لتصحیحها. وحتى إن وقع فی الخطأ نفسه ثانیة, فانه سیبقى مدرکا أن ما وقع فهو لغایة, وبکل بساطة یقرر أن "یتصرف بما هو أصح فی المرة القادمة". من ناحیة أخرى, حتى إذا تکرر ذلک الحدث مرات عدیدة, على المسلم  أن یبقى مدرکا أنّ فی المحصلة خیرا له. فهذا هو ناموس الله الذی لا یتغیر.

      عند إدراکنا, أن الله ما خلق شیئا إلا لخیر مؤکد وهدف محدد, عندئذ فقط یجد القلب الأمن و السلام. والتمسک بهذه الحقیقة هی نعمة عظیمة للمؤمن. والإنسان البعید عن الإسلام یعانی من العذاب المستمر؛ فهو یعیش فی خوف دائم وقلق لا ینتهی. بینما -على العکس من ذلک- یدرک المؤمن حقیقة أن هناک هدفا وغایة ما من وراء إحداث الله تعالى لکل الأمر.

     ومن هنا, فعندما لا نحسم أمرنا؛ ونبقى نعانی من القلق المستمر للترقب الدائم لکل من الخیر والشر, فان ذلک قد یصبح عائقا للمؤمن فی بلوغ الآخرة. فحجته أنه یجهل تلک الحقیقة الواضحة والبسیطة, بسبب عدم اکتراثه وکسله, وهذا یسبب له العذاب فی الدنیا والآخرة. لذا علینا أن نتذکر دوما أن قضاء الله وقدره هو حتما خال من النقائص والعیوب. والإنسان إذا ما عزم على إدراک الخیر فی کل أمره, فإنه لن یجد سوى النّعم, وتلک هی الغایة المخبوءة فی کل تلک الأحداث المتشابکة من حوله. وبالرغم من  انشغاله بأمور حیاته, إلا أنه بفضل قوة  إیمانه واستنارته بالحکمة والضمیر الحی لن یسمح للشیطان بأن یغویه بحیله. فمهما نزل به من أمر، وفی أی مکان و زمان, لن ینسى أن هناک خیرا مخبوءا وراءه. وبالرغم من عدم رؤیته لهذا الخیر فی الحال, إلا أن  ما یهمه فعلا, هو إدراکه وجود هدف نهائی من هذا الأمر.

    بسبب تهوّرهم وسرعة حکمهم على الأمور, فإن الناس فی بعض الأحیان لا یملکون الصبر الکافی لیتبینوا الخیر فی أمورهم. ونتیجة لذلک, قد یصبحون عدائیین یصرون على الشیء بالرغم من کونه ضد الفائدة التی یرجونها. وقد بین القرآن الکریم هذه الحقیقة: (وَ یَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَیْرِ وَکَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً)(سورة الإسراء :11)

    مع ذلک, على الإنسان أن یستبسل لیکتشف الخیر, ویدرک الهدف الإلهی من کل واقعة  تنزل به, بدلا من الإلحاح على أمر یعتبره بمفهومه إیجابیا, ولا یطیق صبرا فی الحصول علیه. فمثلا, قد یناضل إنسان للإحراز وضع مالی أفضل فی هذه الحیاة, وهذا التغییر قد لا یحدث أبدا. والإنسان الذی یعتبر أن هذا الوضع محنة فهو مخطئ. بالطبع یستطیع الإنسان أن یدع الله أن یرزقه المال الوفیر لینفقه فی سبیل الله مثلا، ولکنه علیه أن یعلم أنه إن لم یحصل على هذه الأمنیة, فلابد وأن یکون لسبب ما. فمن الممکن  أن اکتساب الثراء  قبل إحراز النضوج الروحی قد یحول هذا الإنسان إلى فریسة سهلة للشیطان. وهناک الأسباب المشابهة العدیدة الأخرى لکل هدف إلهی مخبوء وراء الحدث, وقد لا یُدرک الکثیر منها فی الحال, أو قد لا تنجلی حکمة ذلک إلاّ فی الآخرة. فمثلا, رجل أعمال فاته اجتماع لطالما اعتبره خطوة مهمة فی مهنته. ولکن, فیما لو ذهب الرجل إلى ذلک الاجتماع کان سیصاب بحادث سیر أو کانت ستتحطم به الطائرة فی إحدى رحلاته الجویة.

         لا یوجد من هو محصن من الوقوع فی هذه الأحداث, إذا فانه لیس من الأمر غیر الاعتیادی  أن نتوسم الخیر فی شیء یُظن به السّوء للوهلة الأولى. ومع ذلک, یحتاج کلّ واحد منا أن یعرف أنه قد لا یستطیع  دائما الإمساک بالقصد من الحدث الذی بدا له سلبیا. والسبب کما قلنا آنفا, أنه قد لا نملک  الفرصة لنشهد تلک النتیجة الإیجابیة. فقد یظهر الله  ذاک القصد الإلهی فقط  فی الآخرة. ولهذا السبب,  فإن ما یجب على الإنسان الذی خضع لقدر الله و وضع ثقته فیه هو الرضى بکل أمر- مهما کان- مع الاستعداد التام للاعتراف بوجود الخیر فیه وأن یکون حامدا لله علیه.

من الضروری التنبیه إلى أنّ "إدراک الخیر فی کل شیء" لا یقتضی تجاهل حقیقة تلک الأحداث والتظاهر بعدم حدوثها, أوأن نبالغ فی الشعور بالمثالیة. بل على العکس تماما, فالمؤمن مکلف بالتصرف المناسب واللجوء إلى کل الطرق اللازمة لحل أی مشکلة.

إنّ تسلیم المؤمن لهذا الحدث, یجب أن لا یلتبس مع نهج أولئک  الذین یبقون غیر مکترثین لکل ما یحدث حولهم متفائلین بلا واقعیة، بسبب قصر فهمهم للموضوع. وهؤلاء عادة ما یوصفـون بـ"أصحاب النظارات الوردیة". فهم یفشلون فی اتخاذ القرارات العقلانیة, أو حتى تطبیقها على أرض الواقع. وهؤلاء غیر واعین, وهم غارقون فی تفاؤل صبیانی, ولذلک لا یسعون للبحث عن حلول لمشکلاتهم. فمثلا, إذا حدث وأصیب شخص بمرض یستدعی الاهتمام, فانّ حالته مع الوقت ستتدهور للدرجة التی یصبح معها مرضه ممیتا, حیث أنه یهمل أخذ الدواء المناسب. ومثال ذلک أیضا من لا یرى ضرورة  للاحتیاط فی الحفاظ على حاجیاته فیترکها سائبة, مع أنه سبق أن سرق. فهو معرض لیصبح مرة أخرى ضحیة لحدث مماثل.

      دون أدنى شک, فهذا النهج هو نهج بعید من مفهوم " التوکل على الله" و "إدراک الخیر فـی کل أمر". فهذه التصرفات تصرفات غیر مبالیة مستهترة. و فی المقابل, على المؤمنین أن یبذلوا أقصى ما بوسعهم لعلاج  الوضع بطریقة عملیة. فالسلوک الحسن الذی یتبعونه, هو أساسا شکل من أشکال "العبادة", وذلک لأنهم فی خضم انغماسهم  فی هذه الأوضاع,عقولهم مشغولة بدوام تذکر الحقیقة، وهی أن الله  تعالى قدر وما شاء فعل.

فی القرآن الکریم, یقص الله تعالى علینا نماذج من قصص الأنبیاء والمؤمنین الصادقین الذین أدرکوا هذه الحقیقة, وعلى المؤمنین بدورهم أن یسعوا للسیر على طریقهم. فالأسلوب الذی ردّ به سیدنا هود علیة السلام على قومه, موضحا لهم خضوعه التام لله تعالى وثقته الثابتة به, بالرغم من تهدیداتهم  له, نموذج ناصع من هذه الأمثلة.

قال تعالى: ”قَالُوا یَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَیِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِکِی آلِهَتَنَا عَنْ قَوْلِکَ وَمَا نَحْنُ لَکَ بِمُؤْمِنینَ*إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاکَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّی أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّی بَرِیءٌ مِمَّا تُشْرِکُونَ *مِنْ دُونِهِ فَکِیدُونِی جَمِیعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونَ *إِنِّی تَوَکَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّی وَ رَبِّکُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِیَتِهَا إِنَّ رَبِّی عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ *فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُکُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَیْکُمْ وَ یَسْتَخْلِفُ رَبِّی قَوْمًا غَیْرَکُمْ وَ لاَ تَضُرُّونَهُ شَیْئًا إِنَّ رَبِّی عَلَى کُلِّ شَیْءٍ حَفِیظٌ *" (سورة هود، 53-57)