الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

فی کلّ شیءٍ خیر للمؤمنین

فی کلّ شیءٍ خیر للمؤمنین

 

       کل واحد منا یمر بأوقات صعبة فی حیاته. وهذه الصعاب تحبط وتقلق أو تزعج غالبیة من هم بعیدون عن الأخلاق الموصوفة فی القرآن. لهذا, فهم سرعان ما یصبحون قلقی البال, مضطربین ومتوترین. ولأنهم لا یؤمنون بالمثالیة الکامنة فی القضاء المقدر من الله تعالى, فهم لا یبحثون عن النعمة أو الخیر فی ما یصیبهم. وفی الحقیقة, ففقدانهم للإیمان، یجعلهم یشعرون أنّ کل لحظة تنقضی تسیر ضدهم. وبهذه الحالة, یصبحون مثقلین تحت وطأة الهم والقلق, وهکذا یمضون فی سیر حیاتهم. 

بینما المؤمنون, یعلمون أن الصعاب إنما تأتی من الله تعالى لیُختبر بها الإنسان. فهم یفهمون جیدا أنّ هذه الصعاب طریقة مثلى فی تمییز المؤمنین الصادقین من "هؤلاء الذین فی قلوبهم مرض", الذین هم غیر صادقین فی إیمانهم. و الله تعالى یذکر ذلک بکل وضوح فی القرآن الکریم, ویؤکد أنه سیختبر المؤمنین لیمحّص الصادقین منهم: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا یَعْلَم اللهُ الَّذِینَ جَاهَدُوا مِنْکُمْ وَ یَعْلَم الصَّابِرِینَ" (سورة آل عمران :142).

 وقال تعالى: "مَا کَانَ اللهُ لِیَذَرَ المُؤْمِنِینَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَیْهِ حَتَّى یَمِیزَ الخَبِیثَ مِنَ الطَّیِّبِ وَ مَا کَانَ اللهُ  لِیُطْلِعَکُمْ عَلَى الْغَیِْبِ وَ لَکِنَّ اللهَ یَجْتَبِی مِنْ رُسُلِهِ مَنْ یَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَ رُسُلِهِ وِإِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَکُمْ أَجْرٌ عَظِیمٌ". (سورة آل عمران :179).

ویقدم القرآن الکریم الحادثة التالیة التی وقعت فی زمن النبی صلى الله علیه کمثال على ذلـک: "وَمَا أَصَابَکُمْ یَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَ لِیَعْلَمَ المُؤْمِنِینَ *وَ لِیَعْلَمَ الَّذِینَ نَافَقُوا وَ قِیلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِی سَبِیلِ اللهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاًً لاتَّبَعْنَاکُمْ هُمْ لِلْکُفْرِ یَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِیمَانِ یَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ وَ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا یَکْتُمُونَ" ( سورة آل عمران :166-167).

والآیات المذکورة توضح تماما ما ذکرناه حتى الآن. ففی عصر النبی محمد صلى الله علیه وسلم, واجه المسلمون الظلم وعانوا ظروفا شاقة. ولکن, ومثلما تشیر إلى ذلک الآیة, فما عانوه وکابدوه کان بإرادة الله تعالى, فأعان ذلک على کشف المنافقین الذین حاولوا أن یسببوا الأذى للمؤمنین. أی بمعنى آخر, کل شیء فی النهایة أفضى إلى مصلحة المؤمنین.

     المسلمون, الذین یفهمون العبر والدروس الموضحة فی هذه الآیات, یعتبرون الحدث الذی یبدو سیئا, أو لحظات المصاعب فرصة من خلالها, یُوضع إخلاصهم وإیمانهم وصدقهم لربهم تحت الاختبار. لا ینسون أبدا، أن الصعاب أو النعم هی لامتحانهم و اختبارهم. بل على العکس, لصدقهم وإذعانهم لربهم وحده , یغیر الله ما یبدو سیئا فیکون خیرا لعباده المخلصین.

فی الصفحات التالیة, سوف نتحدث عن المصاعب التی من الممکن أن تعترض سبیل المؤمن والمحن التی کثیرا ما تصیب المؤمنن فی هذه الدنیا. وهدفنا هو تذکیر المؤمنین بالنعم المخبوءة و المکافآت التی ینالونها بصبرهم, فی هذه الدنیا وفی الآخرة.

   

ابتلاء الله للإنسان بفقدان ثروته

إنّ هدف أکثر الناس فی الحیاة هو جمع أکبر ثروة ممکنة. و للوصول إلى هذه الغایة, فهم یلجئون إلى کل طریق, ویتبعون کل سبیل حتى لو کان محظورا أو غیر شرعی. إن الأهمیة التی یعطیها الإنسان للممتلکات وصفت فی القرآن الکریم ب"حبّ" لـ "زینة الحیاة الدنیا"، قال تعالى: "زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَ البَنِینِ وَ القَنَاطِیرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَیْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَ الْحَرْثِ ذَلِکَ مَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَ اللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" (سورة آل عمران: 14).

وقال تعالى: "الْمَالُ وَ الْبَنُونَ زِینَةُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَ الْبَاقِیَاتُ الصَّالِحَاتُ خَیْرٌ عِنْدَ رَبِّکَ ثَوَابًا وَخَیْرٌ أَمَلاً" (سورة الکهف: 46).

و فی آیة أخرى, یصف الله تعالى أولئک الناس البعیدین عن الأخلاق الدینیة بـقوله: "وَ تُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا" (سورة الفجر :20).

وما ینبغی علینا فهمه من هذه الآیة, هو أن الجاهل یتوق بشدة للغنى لأن الغنى هو أحد أهم  مقاییس المکانة والمنزلة فی المجتمعات ذات القیم البعیدة عن الدین. ففی هذه المجتمعات التائهة, یوقر الناس الثریّ ویحترمونه ویجلونه لغناه. وإحراز مثل هذا الثراء یجعل أصحابه یخطئون معتقدین أنه أصبحت لهم سلطة هائلة. وفی هذه الحالة یصبح امتلاک الثروة الهدف الرئیسی فی الحیاة.  

وهذه الرغبة الجامحة فی امتلاک الثروة تقود إلى حیاة ملؤها الخوف من فقدانها. فهؤلاء الذین یملکون مثل هذه النظرة کثیرون ما یقنطون عند فقدانهم لثرائهم, وعندها یصبحون متمردین إزاء خالقهم. ولکونهم جاهلین بأن ما أصابهم هو عبارة عن ابتلاء، فإنهم یصبحون مُحبطین تماما بسبب فقدانهم لثروتهم.

   وفی المقابل یأمر الله تعالى الإنسان بقوله: " لِکَیْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَکُمْ وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاکُمْ وَ اللهُ لاَ یُحِبُّ کُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" (سورة الحدید :23).  فهو تعالى یأمر الإنسان أن یقود نفسه باعتدال و یتبنى الأخلاق الحمیدة. فالقنوط لفقدان الثراء والابتهاج فی أوقات البحبوحة, هو دلیل على الکفران والجحود تجاه الله تعالى.

تحت تأثیر هذه النظرة المنحرفة، فإن أفراد المجتمعات الجاهلة یعتبرون أنه من المقبول تماما الشعور بخیبة الأمل لفقدانهم ممتلکاتهم. فالأمان الاقتصادی الذی یستمتع به صاحبه مثلا والذی یتمثل فی الغنى و الثراء, قد یختفی فجأة  بسبب کارثة طبیعیة, أو بسبب حریق یأتی علیه فی لحظات. وقد ینتهی الأمر بالمرء أحیانا إلى أن یدمر بیتا جمیلا شراه بعد سنوات من الادخار والجهد لأن زلزالا هزه من قواعده. فالأمر المهم هنا, أن الإنسان غیر المدرک لطبیعة هذه الحیاة  سیشعر بالارتباک عندما یصاب بخسارة کهذه؛ فیصبح بذلک مثقلا بالتشاؤم مشحونا التمرد.

إنّ هؤلاء البعیدون عن أخلاق القرآن الکریم یفشلون فی أن یدرکوا أن فقدانهم لثرائهم قد یکون لخیر ومنفعة. ومن الطبیعی-  بسبب نظرتهم هذه و تقصیرهم فی التوکل على الله - أنّ العلو الذی یشعرون به بسبب غناهم وثرائهم سوف یجلب لهم التعب والمشقة النفسیة.

أما أولئک الذی یوقنون أن مع العسر یسرا وأن الخیر مع الشدّة، فحالهم لیست على هذا النحو. فهم یدرکون أنّ فقدان الثراء والمتاع هو لهدف وغایة, حتى وإن لم یتمکنوا فورا من التوصل إلى الحکمة من ذلک الأمر. فقد یکون وکأنه تذکرة من الله تعالى لعباده الذین غرهم الثراء و غلبتهم متع الدنیا الزائفة. فأی نقص فی المال إنما یذکرنا بقدرة الله المطلقة وفقرنا الکبیر إلیه, وبالتالی یدفعنا إلى ترکیز اهتمامنا به وحده. أو لعل الله تعالى قد ادخر لعباده الذین صبروا فی الضائقات الألیمة وتوکلوا علیه ما هو أفضل. فعوضا عن متع الحیاة الدنیا الزائلة, یمنحهم الله تعالى ما لا یعد و لا یحصى من نعم الجنة الأبدیة ؛ وبکل تأکید , فإن نعم الجنة الخالدة أعظم من نعم الدنیا الزائلة.

على کل حال, فإن تلک التغیرات فی الأرزاق قد تأمن هدفا عاجلا و فوریا. فمثلا, قد یکون هناک من خیر فی إصابة أحدهم بحادث طریق بسیارته الجدیدة , لأنه بذلک قد حفظه الله من حادثة أکثر خطورة لربما کانت ستسبب له أذى أکبر. فالإنسان بضمیره الحی یدرک أن هذه الحادثة هی بمثابة تذکرة, وإنذار, فیسأل الله تعالى المغفرة و یرضى بالقضاء المقدر له من الله تعالى.

  

" عسى أن تحبوا شیئا وهو شر لکم..."

کما قلنا سابقا, فالله تعالى یعلمنا فی سورة البقرة , الآیة 216, أن بعض الوقائع التی تبدو لنا سلبیة هی فی الحقیقة جیدة و إیجابیة. و بالمثل, وکما تشیر إلى ذلک الآیة الکریمة نفسها, فالله تعالى أیضا یوضح لنا أن ما قد یحبه الناس فی هذه الدنیا قد یکون وراءه شر کبیر لهم. وفی القرآن الکریم, یضرب الله تعالى المثل  بالکافرین الأغنیاء الذین یثقل علیهم الإنفاق من ثروتهم. فهم یعتقدون أن توفیر المال "ذکاء" وفطنة, وظنهم أنه بادخاره و عدم إنفاقه فی سبیل الله سوف یجلب لهم بعض النفع, بینما هو جهل وغفلة. وفی القرآن أیضا, یخبرنا الله تعالى أن مثل هذا الغنى, هو الشر بعینه و لن یجلب لصاحبه إلا العذاب فی جهنم.           

قال تعالى: "وَ لاَ یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ یَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَیْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَیُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ وَ للهِ مِیرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ وَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِیرٌُ" ( سورة آل عمران:180).

فی سورة القصص, یحکی الله تعالى لنا  قصة قارون. لقد وهب الله تعالى قارون الثراء الفاحش لکنه أصبح مختالا مغرورا لسعة ثروته, وعظمت غطرسته إزاء ربه. ففی حادثة قارون, الذی أُهلک لأنه بقی غافلا عن النذر, عبرة للناس. وقد قص علینا القرآن الکریم قصة قارون کما یلی: ”إِنَّ قَارُونَ کَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَیْهِمْ وَ آتَیْنَاهُ مِنَ الکُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِی القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ یُحِبُّ الفَرِحِینَ * وَابْتَغِ فِیمَا آتَاکَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَ لاَ تَنْسَ نَصِیبَکَ مِنَ الدُّنْیَا وَ أَحْسِنْ کَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَیْکَ وَ لاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِی الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ یُحِبُّ المُفْسِدِینَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِیتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِی أَوَ لَْم یَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَکَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَکْثَر جَمْعًا وَ لاَ یُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمُونَ“. (سورة القصص:76-78).

وکما توضح لنا الآیات السابقة, فإن قارون قد اعتقد أن کنوزه ستجلب له الخیر. لذا ابتهج وغدا متعالیا ومتکبرا بها. لکنه, فی النهایة عانى من خیبة أمل عظیمة.

ومن جانب آخر فإنّ نظرة المؤمنین إلى أموالهم تختلف کثیرا عن هذا الفهم الخاطئ. والاموال والثروات عند المؤمن الملتزم بتعالیم القرآن, لا تمثل غایة فی حد ذاتها ولا یولیها ذلک الاهتمام المبالغ فیه. فالمؤمن یقود نفسه بنبل؛ فهو لا یسمح لنفسه ان تقوده کما تشاء فتجعله یلهث وراء المال بلا توقف. إنّ المؤمن یکرس کل حیاته فقط لکسب رضى الله تعالى، ولا یسمح لنفسه أبدا أن تأسره برغبات أنانیة؛ فهو یتوق لثواب الآخرة الأبدی و لیس لمتاع الحیاة الدنیا. فالله تعالى یَعدُ المؤمنین الذین عرفوا طریقهم وحددوا نظرتهم إلى المال والدنیا بالجنة، قال تعالى: "إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُم الجَنَّةَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللهِ فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْرَاةِ وَ الإِنْجِیلِ وَ القُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمْ الذِی بَایَعْتُمْ بِهِ وَ ذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ العَظِیمُ". (سورة التوبة :111) .

إنّ الأنبیاء والرسل والمؤمنین الصادقین المخلصین اعتبروا أن ما عندهم هو بمثابة نعمة من ربهم، فهم یعلمون من أعماق قلوبهم أن کل ما یملکون یرجع فی النهایة إلى الله وحده. لهذا فهم ینفقون من مالهم وممتلکاتهم فی سبیل الله. وهذا الخلق السامی والشعور النبیل تجاه الآخرین ذکره القرآن الکریم فی قوله تعالى: "لَیْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لَکِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَ الیَوْمِ الآخِرِ وَ المَلاَئِکَةِ وَ الکِتَابِ وَ النَّبِیِّینَ وَ آتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِی القُرْبَى وَ الْیَتَامَى وَ المَسَاکِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ وَ السَّائِلِینَ وَفِی الرِّقَابِ وَ أَقَامَ الصَّلاَةَ وَ آتَى الزَّکَاةَ ..."(سورة البقرة :177).

کذلک فإن المؤمنین لا ینفقون  للتفاخر، فنیتهم الصادقة من الإنفاق هی کما تبینه الآیة الکریمة: ”وَمَثَلُ الذِینَ یُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَ تَثْبِیتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...“ (سورة البقرة:265)

وهم عندما یفقدون بعض ممتلکاتهم, یتصرفون بشکل مختلف کثیراعن أولئک الجاهلین. ففی واقع الأمر, هم یعرفون أنه امتحان من الله تعالى. فیصبرون و یسعون لإدراک ما قد یظهر من خیر من وراء تلک الخسارة أو الفقدان. والنظرة النبیلة التی ینظر بها المؤمن إلى الأحداث یعکسها هذا الدعاء الذی یعلمنا القرآن الکریم أن ندعو به: "قُلْ اللَّهُمَّ مَالِکَ المُلْکِ تُؤْتِی المُلْکَ مَنْ تَشَاءُ وَ تَنْزِعُ المُلْکَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِیَدِکَ الخَیْرُ إِنَّکَ عَلَى کُلِّ  شَیْءٍ قَدِیرٌ". (سورة آل عمران :26)

     وتبعا لذلک, فالمؤمنون یعلمون جیدا أنّ الثراء و المال الذی یملکه غیر المؤمنین فی هذه الحیاة الدنیا لن یجلب لهم سوى العذاب والخسران، وهذا وعد من الله تعالى: ”فّلاَ تُعْجِبْکَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا یُرِیدُ اللهُ لِیُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِی الحَیَاةِ الدُّنْیَا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ کَافِرُونَ“. سورة التوبة:55)

 

      الحکم الإلهیة من وراء الأمراض

 

إن الناس الذین یعیشون فی مجتمعات الجهل  یخططون باستمرار للمستقبل و یأملون أن تتقدم خططهم کما یرغبون.

و هنا تکمن المشکلة, فحدوث مرض غیر متوقع أو حادثة معینة تلقی بحیاتهم فی فوضى تامة, حیث أن تلک الأحداث لم تکن داخلة فی خططهم المستقبلیة. وعندما کانوا یتمتعون بکامل عافیتهم, لم یفکر الکثیر منهم أبدا أن مثل تلک الأحداث –مع أنها تحصل للآلاف کل یوم – قد تحدث لهم.

لهذا, عندما یُواجه الجاهلون بمثل تلک الأحداث غیر المتوقعة, فإنهم یفقدون فورا صوابهم ولا یعرفون ما یفعلون. فهم ینکرون حقیقة القدر و یقولون ,"لماذا حصل لی هذا ؟ " والسبب أن هؤلاء البعیدین عن التمسک بالأخلاق القرآنیة, ینزعون إلى عدم التوکل على الله فی أوقات الشدة أو المرض, أولا یبحثون عن الخیر فیما یحصل لهم.

إنّ هؤلاء الذین لا یدرکون حقیقة القدر, یعزون سبب المرض لمجرد الفیروسات أو البکتریا. وبالمثل, عند تورطهم فی حادث سیر, فهم یعتبرون أن سائق السیارة الأخرى هو السبب فی الحادثة. بینما الحقیقة لها صورة مختلفة تماما. فکل ما یسبب المرض, من بکتیریا أو میکروب أو أی شیء یسبب الأذى للإنسان, فی الواقع مخلوقات خلقها الله تعالى وهی مجرد أسباب. فلا شیء من هذ الأشیاء أسباب "عشوائیة"؛ فهی تمتثل لحکم الله تعالى. و الإنسان قابل للتأثر بالمیکروبات لأن الله أراده کذلک. وإذا حل بإنسان مرض خطیر بسبب فیروس ما, فذلک یحدث لأن هذا ضمن علم الله و إرادته.

لو أن سیارة صدمت إنسانا, فترکته مقعدا, فهو أیضا حدث أوجد بإرادة الله. وهو لن یستطیع أبدا أن یغیر مجریات تلک الأحداث؛ ولا حتى واحدة منها مهما ناضل لتجنبها. فهو لا یستطیع أن یمحو لحظة واحدة من قدره, هذا لأن القدر قد خلق کوحدة واحدة. ولإنسان مستسلم لربه العظیم, واثق  فی حکمته ورحمته المطلقة, حدث أو مرض کهذا أو ما شابهه, ما هو إلا محنة مؤقتة توصل للنعیم المطلق فی الجنة

إنّ الصفات الأخلاقیة الحسنة التی یتمسک بها الإنسان فی ظروف کتلک, هی الأمر المهم.  فالأمراض و الحوادث هی الوقائع التی یملک المؤمنون الفرصة لیقدموا إزاءها البرهان على صبرهم  وحسن أخلاقهم, وبواسطتها یستطیعون أیضا التقرب من الله تعالى. وفی القرآن الکریم, یتحدث الله تعالى عن الأمراض فی حین أنه تعالى یسرد لنا أهمیة الصبر فی تلک الأوقات.            

قال تعالى:" لَیْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَ المَغْرِبِ وَ لَکِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَ الیَوْمِ الآخِرِ وَ المَلاَئِکَةِ وَ الکِتَابِ وَ النَّبِیِّینَ وَ آتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِی القُرْبَى وَ الیَتَامَى وَ المَسَاکِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ وَالسّّائِلِینَ وَ فِی الرِّقَابِ وَ أَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّکَاةَ وَ المُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَ الصَّابِرِینَ فِی البَأْسَاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِینَ البَأْسِ أُولَئِکَ الذِینَ صَدَقُوا وَ أُولَئِکَ هُمْ المُتَّقُونَ" (سورة البقرة:177).

إنّ حقیقة اعتبار الأمراض فی هذه الآیة من ضمن المحن یستحق بعض التأمل والتفکیر. فالإنسان عندما تواجهه مشکلة صحیة علیه أن یتذکر دوما أنها امتحان له, وأن الله تعالى هو فقط من یجلب الأمراض و یشفی منها. هذا هو المنطق اللازم للحفاظ على سلوک أخلاقی سلیم. فالإنسان ینتفع من تفکیره بالخیر و الهدف الإلهی من وراء المرض الذی یعانی منه, أو الحادثة التی ألمت به, مع أنه قد لا یتمکن من فهمها فی الحال.  لربما کان علیه أن یمر بصعاب مؤقتة, ولکن هذا الإنسان، وهو العبد الذی أذعن لله بصدق، سوف یفوز بالنعیم المطلق.

فعلینا جمیعا أن نبقى ذاکرین, مع ذلک, أنه من المهم إدراک هذه الحقیقة فی أعماق قلوبنا و أن نحافظ على الأخلاق العالیة فور إصابتنا بحدث ما. و للوصول إلى هذه الغایة, من الضروری أ ن نعلم أن کل الأمراض وجدت لهدف. و لو أراد الله تعالى لما أصابنا أی مرض، ولبقی الواحد منا صحیحا لا یمرض أبدا. ولکن, هذه الأمراض هی لغایة ما، فإذا ما ابتلی الإنسان بمحنة ما, فعلیه أن یدرک أنها لهدف, وهذا یساعده فی فهم زوال هذه الحیاة الدنیا و قدرة الله المطلقة.

 

       الأمراض تذکر الإنسان بضعفه وحاجته إلى الله تعالى

فی أوقات المرض, تهجم البکتیریا والفیروسات على الجسم القوی فتجعله منهکا متعبا. و کما هو معلروف, فإن کثیرا من الأمراض تسبب الألم و تترک الجسم واهنا ضعیفا. وفی بعض الأحیان, قد لا یقوى الإنسان على النهوض من فراشه أو القیام بأعماله الیومیة. ولأن هذا الإنسان غیر قادر على مقاومة فیروس صغیر غیر مرئی,  یزداد بالتالی  فهمه لمدى ضعفه وکیف أنه فی حاجة مستمرة إلى الله تعالى. وعندما تتراجع صحة الشخص بعد أن کان قویا جلدا، وبعد أن کان یتجرأ على الله أحیانا فیعصی أوامره وینسى نُذره ویتفاخر بأمواله وممتلکاته, یدرک تمام الإدراک هذه الحقیقة. وبالتالی یحسن تقدیر العظمة الإلهیة, عظمة الله الخالق لکل شیء.

    

 

      الأمراض تُشعر الفرد بأن العافیة نعمة و فضل من الله تعالى     

 

هناک أمر طالما نفشل فی تقدیره خلال صخب حیاتنا الیومیة، وهو الغفلة عن الانتباه إلى أن الصحة والعافیة من أکبر النّعم.

إنّ الإنسان الذی لم یعان من مرض لفترة طویلة, و بالتالی لم یکابد الألم, سیعتاد على حالته تلک. ولکن, عندما یباغته مرض مفاجئ یدرک أن الصحة نعمة عظیمة من الله تعالى. هذا لأن الحرمان  من شیء أو فقدانه یجعل الواحد منا یحسن تقدیر قیمته. وکما وضعها لنا سعید النورسی المعروف أیضا ببدیع الزمان: ”اتّفق أهل الحق على القول "إنما تُعرف الأشیاء بأضدادها ..." فمثلا: لولا الظلمة لما عُرف النور, ولظل دون معنى. و لولا البرودة لما عرفت الحرارة و لبقیت دون طعم، ولولا الجوع لما  أحس الإنسان بلذة الأکل، و لولا حرارة المعدة لما کان للماء ذوقا, و لولا العلة لکانت العافیة بلا ذوق، ولولا المرض لکانت الصحة عدیمة اللذة." اللمعة الخامسة و العشرون, الدواء السابع".

 

المرض الخطیر یذکّر الإنسان بعجزه وحاجته إلى الله

 

إنّ أغلب الناس یعتبرون أنّ إصابتهم بمرض ممیت أو فقدانهم لعضو فی جسدهم أمر یدعو إلى الغضب والامتعاض. بینما, بالعکس من ذلک ینبغی النظر إلیه نظرة مختلفة بحیث یفهم على أنه وسیلة للنجاة فی الآخرة ودعوة إلى مزید توثیق الصلة بالله تعالى. فالإنسان المبتلى بمرض خطیر یصبح أکثر حذرا ویقظة, ولذلک فإن معاناته وآلامه تساعده على إدراک لا مبالاته التی طالما أعاقت ضمیره وقلبه, وتحثه بذلک على التبصر فی حقیقة الحیاة الآخرة. ففی مثل هذه اللحظات ینتبه الإنسان إلى حیاة العبث التی کان یعیشها ویدرک مدى قرب لحظة الموت. وبدلا من أن یحیى حیاته بلا مسؤولیة, فإن انقضاض المرض علیه فجأة, یجعله یدرک أهمیة کسب رضى الله تعالى والفوز بنعیم الآخرة, و بالتالی یکون المرض سبیلا للنّجاة.

 

الأمراض تزید من تضرع الإنسان  إلى الله و قربه منه

 

عندما تزید تأثیرات المرض فتصبح أکثر خطورة, یبدأ الإنسان التفکیر فی الموت, تلک الفکرة التی تعمد تجنبها لوقت طویل. وعندئذ یدعو الله بکل ما أوتی من إخلاص وصدق, أن یمنحه الشفاء من ذلک الدّاء. فحتى الإنسان الذی لم یدع الله یوما, قد یشعر فجأة بحاجته للتوسل إلى الله عندما یبتلى بمرض عضال. فهو یتوجه إلى الله بأصدق الدعوات وأخلصها ؛ وهذا ما یکون سببا فی زیادة قربه من الله تعالى. وإذا لم یظهر الجحود و کفران الجمیل بعد شفائه بل استمر فی الصلاة والدعاء بصدق وإخلاص, فإن مرضه هذا یصبح خیرا وبدایة لحیاة ملؤها الإیمان.

والله سبحانه یذکر الناس الذین یتوجهون إلیه فی تلک المحن بقوله تعالى: "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِیضٍ" (سورة فصلت: 51) 

ویقول تعالى: "وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا کَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ کَأَنْ لَمْ یَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ کَذَلِکَ زُیِّنَ لِلْمُسْرِفِینَ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ" (سورة یونس: 12).

وقال تعالى: "وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِیبِینَ إِلَیْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةٌ إِذَا فَرِیقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ یُشْرِکُونَ" (سورة الروم :33) .

وکما تشیر إلى ذلک الآیات السابقة, على الإنسان أن لا یدعو الله فقط فی أوقات الصعاب والمحن، بل علیه أن یلجأ إلى إلیه کذلک بعد أن یرفع عنه مصابه. عندئذ یمکن أن یکون هذا المرض دافعا للإنسان لکی یعترف بضعفه أمام الله تعالى فیتوب إلیه, وبالتالی یقوی صلته بالله تعالى ویشدّه إلى طاعته أکثر.

 

قد تکون الجنّة هی جزاء الصبر على المرض

 

هناک هدفا آخر من تکبد عناء الأمراض ألا وهو امتحان صبر الإنسان بالله وثقته به. فعندما یمتحن المسلمون بمرض یتمیزون جلیا عن غیرهم من أقوام الجهل, بالصبر و الثقة بالله تعالى وإخلاصهم له وحده. وذلک لأنهم أدرکوا الفهم الصحیح الذی یثبتون علیه فی أوقات الشدة، فهم یستحقون رضى الله تعالى. فغایتهم هو کسب الجزاء العظیم فی الآخرة. فالإنسان الذی فشل فی إخضاع نفسه لله قبل مرضه قد یکتسب تلک الصفات النبیلة خلال مسار معاناته, وقد یحرز النعیم المطلق فی الجنة مقابل تلک المشکلات المؤقتة فی الدنیا.

إن سیدنا إبراهیم بدعائه الصادق المخلص عند مواجهة المرض هو مثال جید لکل المؤمنین, قال تعالى: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهْوَ یَشْفِینِ *وَ الَّذِی یُمِیتُنِی ثُمَّ یُحْیِینِ" (سورة الشعراء:80-81).

إن الموقف النبیل الذی اتخذه سیدنا أیوب علیه السلام هو مثل آخر جید للمؤمنین. وکما یخبرنا القرآن الکریم, فأیوب علیه السلام عانى من مرض شدید جدا؛ ولکن مرضه عزز إخلاصه وثقته بالله تعالى و توکله علیه, فجعلته خصاله تلک من بین الأنبیاء الذی أُثنی علیهم فی القرآن الکریم.

وبالإضافة إلى کل ما عانى سیدنا أیوب علیه السلام من أمراض، یخبرنا القرآن الکریم,أنه کان أیضا معرضا لوساوس الشیطان الخبیثة. فقد استغل الشیطان لحظة الضعف تلک, وحاول أن یصرفه عن وضع ثقته بالله والتوکل علیه. وفی أوقات کتلک, من الصعب على إنسان مریض أن یرکز انتباهه,  وبذلک یصبح عرضة لوساوس الشیطان؛ ولکن إخلاصه لله وثقته به وتوکله علیه حق التوکل عصم سیدنا أیوب علیه السلام من مکائد الشیطان. وقد تضرع إلى الله بإخلاص وسأله العون والتثبیت.

وقد قص علینا القرآن الکریم دعاء سیدنا أیوب علیه السلام لکی نأخذ منه العبرة والعظة، قال تعالى: ”وَأَیُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ "أَنِّی مَسَّنِی الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِینَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَکَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَیْنَاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدَنَا وَ ذِکْرَى لِلْعَابِدِینَ“ (سورة الأنبیاء: 83-84).

واستجاب الله لدعاء سیدنا أیوب لأنه کان صادقا مخلصا, قال تعالى:

”وَاذْکُرْ عَبْدَنَا أَیُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّی مَسَّنِیَ الشَّیْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ* اُرْکُضْ بِرِجْلِکَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَ شَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِکْرَى لأُِولِی الأَلْبَابِ وَخُذْ بِیَدِکَ ضِغْثًا فَاُضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ“ (سورة ص:41-44). فسیدنا أیوب علیه السلام تلقى المکافأة على عظمة أخلاقه وحسن توکله على الله تعالى وصدق لجوئه إلیه. وأصبح مثلا طیبا یحتذى به عند المؤمنین کافة. 

 

   فی أخطاء المؤمنین أیضا خیر

 

إن ارتکاب الخطإ هی من الأمور التی یفزع  الناس منها فزعا شدیدا فی المجتمعات التی یکثر فیها الجهل. فعندما یرتکب الإنسان خطأ یتعرض للإهانة ویصبح عرضة للسخریة. أو لعل خطأه ذاک قد یجعله یفقد فرصا ربما رآها مهمة. فارتکاب الخطإ فی المجتمعات الجاهلیة هو بمثابة الکابوس الذی ینبغی عدم الوقوع فیه.

أما القرآن الکریم فینظر إلى هذه المسألة من زاویة أخرى مختلفة. فالمؤمن لا یحکم على الناس من خلال أخطائهم، لأنه یعرف أن الذی أخطأ إنسان وکل الناس خطائین. ولذلک فالمؤمن، على العکس یشعر بالرحمة والشفقة على المخطئین.

عندما یرتکب المؤمن خطأ, یتأمله جیدا ویدرک بضمیره الحی مواطن الخطإ؛ فمخافته من الله تعالى وضمیره ینبهانه على الفور. فهو یناضل لیصحح أخطاءه, ویدعو الله الحلیم ویسأله التوبة. ففی الواقع, إن ما یشعر به المؤمن من ندم بعد ارتکابه للخطأ, لن یقوده إلا إلى خیر. وذلک لأن شعوره لیس من نوع الندم المشوب برثاء النفس الذی یشعر به غیر المؤمن, بل هو إقدام و تصمیم على عدم تکراره مجددا. إن الإذعان الذی یظهره المؤمن لله, وتوکله علیه والعمل مع الإدراک أن کل الأحداث إنما هی جزء من قضائه وقدره کلها عوامل مهمة بالنسبة إلیه، فهی تقربه أکثر من خالقه.

 

"کل نفس ذائقة الموت ..."

حسب اعتقاد الغافل الجاهل, فإن أسوء ما قد یحدث لإنسان هو الموت. هذا لأن أقصى ما یخافه هو الدنو من الموت أو فقدان حبیب. فهو یتجنب حتى مجرد الحدیث فی الموت. ومع أن الجاهل قد یدرک الخیر فی أحداث معینة, إلا أن الموت بالنسبة إلیه, لا یمکن أبدا أن یکون شیئا جیدا.

إن نظرة المجتمعات غیر المؤمنة إلى الموت ثابتة لا تتغیر؛ فهی لن تتمکن أبدا من النظر إلیه بطریقة مختلفة. الموت فی هذه المجتمعات هو بمثابة الفناء والزوال الکامل, أما الآخرة فهی مجرد تخمین.

إن الأقوام التی تعیش بعیدة عن الحیاة الدینیة الحقیقیة تعتقد أن هذه الدنیا هی المبدأ والمآل، وهی الحیاة الوحیدة ولاشیء بعدها. وبالموت, تنتهی هذه الفرصة الوحیدة. وهنا المشکلة التی تقود إلى المعاناة, فهم یحزنون أشد الحزن لفقدان عزیز. بل والأسوء من ذلک, ففقدان عزیز فجأة فی سن الشباب قد یقود الجاهل لکی یکفر بالله أکثر ویغضب منه ومن القضاء والقدر.

لکن هؤلاء ینسون بعض الحقائق المهمة: الأولى, لا أحد على وجه هذه الأرض یبعث للوجود بإرادته. فحیاة کل واحد منا بید الله تعالى؛ کل واحد منا قد ولد فی وقت سبق وقدر من الله وحسب مشیئته. فالله, الذی له ما فی السماوات و ما فی الأرض و ما بینهما, بإمکانه أن یسترد روح من یشاء, فی أی وقت یشاء. فلا أحد یستطیع أن یؤخر أجله. وهذا ما بینه القرآن الکریم: "وَ مَا کَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ کِتَابًا مُؤَجَّلاً وَ مَنْ یُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْیَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَنْ یُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِی الشَّاکِرِینَ" (سورة آل عمران :145). 

فمهما اتخذ الواحد منا من و سائل الحذر, أو مهما اختار له من مکان آمن محصن, فلن یستطیع أن یتجنب الموت. فالإنسان قد یرحل عن هذه الدنیا فی أی وقت. وبالمقابل, مهما ناضل أحدهم لکی لا یفقد عزیزا أو حبیبا –حتى إن استنفد کل الوسائل الممکنة على الأرض لهذه الغایة-  لا یمکنه أن یمنع الموت. فهذا الإنسان قد یواجه بالموت أینما یکون، وهذا ما تشیر إلیه الآیة الکریمة, قال تعالى: "أَیْنَمَا تَکُونُوا یُدْرِکْکُمْ الْمَوْتُ وَلَوْ کُنْتُمْ فِی بُرُوجٍ مُشَیَّدَةٍ..." ( سورة النساء:78). إذن, فالحل هو أن لا نجتهد فی تجنب الموت,  بل فی أن نکون مستعدین للحیاة الآخرة.

 

     الموت هو البدایة ولیس النّهایة

     إن ضعاف الإیمان أو أولئک الذین لا یؤمنون بالآخرة, لدیهم فهم مشوه للموت و للحیاة التی تأتی بعده. ولهذا, فهم یعتبرون الموت مصیبة وفاجعة ولیس رحمة. فهم یؤمنون أنه عندما یفقدون بالموت أحدا فإنما یفقدونه إلى الأبد؛ ولهذا, فهو یصیر فی باطن الأرض إلى العدم الذی لا رجعة ولا حیاة بعده. 

وفی الحقیقة, فالموت لیس بنهایة أبدیة، بل هو انتقال إلى الحیاة الآخرة , حیث المأوى الأخیر. إنها لحظة نقترب منها جمیعا, إلى الیوم الذی سیکون علینا أن نقدم فیه تقریرا بکل ما فعلنا فی هذه الحیاة الدنیا, إنه یوم الحساب. فکل إنسان, سیجد نفسه وجها لوجه مع لحظة الموت التی تقوده إلى الخلود. قد یحدث هذا فی مقتبل العمر، وقد یحدث مع تقدم السن. لکن فی النهایة الجمیع سوف یرحلون یوما عن هذه الدنیا؛ وکل یوم یمر یقربنا من هذا الموعد أکثر فأکثر. ولذلک فالاجتهاد للهروب من الموت أمر لا یجدی, وتجنب الخوض فی فکرة الموت نفسها أو اعتباره کارثة, أمر غیر منطقی تماما.

وهناک بعض الناس الذین یؤمنون بالآخرة ولکنهم یبدون الحزن والأسى عند فقدان شخص ما. لکنهم ینبغی أن یعرفوا أن الله تعالى لا یظلم أحدا وکل إنسان سوف یحاسب على کل ما عملت یداه فی هذه الدنیا. ولهذا فکل من آمن بالله تعالى وبالآخرة, وعاش حیاة مکرسة لعبادة خالقه, فإنّ الموت یکون بابا من خلاله یمضی إلى حیاة أخرى فی الآخرة ملؤها السعادة. ولکن الموت من وجهة نظر الجاهل الذی ینکر الآخرة ویستخف بیوم الحساب, هو طریق لعذاب أبدی. لهذا السبب, یصعب علیهم اعتبار الموت خیرا لهم. أما بالنسبة للمؤمنین فالموت هو البدایة لنجاة کاملة.

إنّ رد فعل المؤمن إزاء موت مؤمن آخر یختلف یختلف بوضوح عن رد فعل الجاهل لأن الموت الذی ینظر إلیه الجاهل على أنه أسوأ ما یقابل الإنسان هو فی الحقیقة, خیر للمؤمن. ویبین الله تعالى حقیقة الموت عند المؤمنین: "وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِی سَبِیلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَیْرٌ مِمَّا یَجْمَعُونَ" (سورة آل عمران: 157 ).

إن حیاة المؤمن خیر وموته خیر. فالله تعالى یخبرنا أن الجنة أعدت على مراتب ودرجات, وأعلاها خصصت للمؤمنین الذین یموتون جهادا فی سبیله. فالشهادة فی سبیل الله شرف ونعمة ینال بها المؤمن أعلى المراتب فی الآخرة. إنّ الموت یمثل حدثا رائعا عند المؤمن إذا کان سیفضی به إلى الجنة وإلى کسب رضى الله تعالى. والمؤمن یوقن بتلک الأخبار السارة المذکورة فی القرآن الکریم, فالمؤمنون لا یأسفون أبدا لموت مؤمن آخر أفنى حیاته فی ما یرضی الله تعالى. بل على العکس, هم یفرحون لذلک لعلمهم بسعادة المآل الذی أفضى إلیه بعد موته. حقا, إن أعظم جائزة هی الفوز برضى الله تعالى وجنته.

إنّ المؤمن الذی عاش حیاة مدیدة طویلة مبذولة فی خدمته تعالى, یستحق نیل الجائزة. فسیدنا نوح علیه السلام, الذی منحه الله  العمر المدید, هو مثال على ما نقول لأن هذا النبی المخلص ناضل طوال حیاته لکی ینال رضى الله تعالى و رحمته و جنته, فجهوده تلک  زادت من جزائه فی الآخرة. وعلى العکس, هناک وهم تقع فیه المجتمعات غیر المؤمنة؛ فهی تعتبر العمر المدید هبة وهدیة. والآیة التالیة تکشف خطأ هذه النظرة: "وَلاَ یَحْسَبَنَّ الذِینَ کَفَرُوا أَنَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لأِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِینٌ" (سورة آل عمران :178)

هؤلاء الذین  ینتمون إلى  مجتمعات الجاهلین, الذین یجعلون من مطاردة شهوات الدنیا الزائلة عملهم الوحید فی حیاتهم, یعتبرون طول العمر فرصة إضافیة للتمتع بمتع هذه الدنیا. وهکذا, فإن هؤلاء الذین ینسون الله والیوم الآخر, یفشلون فی فهم قیمة الوقت الذی یهدرونه باستهتار. وکما ذکر فی الآیة السابقة, فهذا الوقت الذی منح لهم لیس فیه خیر لهم کما یتوهمون.

 فالإنسان الذی یتأمل ملیا هذه المسائل یفهم بعمق, کیف لنا أن نقرر ما هو "خیر" وما هو "شر", حسب قول الله تعالى: "وَعَسَى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئًا وَهُوَ خَیْرٌ لَکُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَیْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَکُمْ". 

            

              

نظرات 0 + ارسال نظر
برای نمایش آواتار خود در این وبلاگ در سایت Gravatar.com ثبت نام کنید. (راهنما)
ایمیل شما بعد از ثبت نمایش داده نخواهد شد