الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

کیف نُدرک الخیر فیما یحدث

کیف نُدرک الخیر فیما یحدث

 

 

 

           إدراک أن الله هو الذی قد قدر کل شیء بکل جزئیاته...

          إنّ معظم الناس یفرحون عندما تحدث الأشیاء وفقا لرغباتهم, ولکنهم سرعان ما یثارون للحدث الصغیر الذی لا یوافق هواهم. لکن على المؤمن أن لا یمیل لهذه المشاعر. ففی القرآن الکریم, یوضح الله سبحانه و تعالى ما یسرنا, وهو أنّه قد وضع الخیر لعباده الصادقین فی کل أمر, فما من شیء یمکن أن یهمهم أو یزعجهم.

           والمدرک لهذه الحقیقة فی صمیم قلبه, یستطیع أن یکون راضیا بکل ما یواجهه من أحداث, ویرى النعمة من ورائها.

           البعض, لا یأبهون حتى لمجرد التفکیر فی کیفیة خلقهم و سببه. مع أن ضمیرهم یدلّهم على أن لهذا الکون المدهش المتسق خالقا عظیما, إلا أن حبهم المبالغ فیه لهذه الحیاة الدنیا, أو عدم رغبتهم فی مواجهة الحقیقة, یجعلهم ینکرون حقیقة وجود الخالق و العیاذ بالله ویتجاهلون حقیقة أن کلّ واقعة فی حیاتهم قد قدرت ضمن خطة وهدف, بل یعزونها لمفهوم خاطئ, وهو الحظ أو المصادفة. فهذه نظرة  تعیق صاحبها عن رؤیة الخیر فی الأحداث و استخلاص العبر منها.

وهناک البعض الآخر, یدرکون وجود الله تعالى, ویوقنون أنه هو خالق هذا الکون، ویعترفون بحقیقة أن الله هو مُنزل الغیث وهو الذی یأتی بالشمس من المشرق. فهم مقرین أنه لا مسبب لکل ذلک إلا الله, ولکن عندما نصل إلى الأحداث التی تمر بهم فی حیاتهم, وإلى التفاصیل الصغیرة التی تشکل جزءا من المشهد  الیومی الاعتیادی یجدون صعوبة فی الاعتقاد بخضوعها لله تعالى. و مع ذلک, فالله  هو الذی یقضی بدخول لص إلى بیت أحدنا لیلا, أو عائق یوقعنا أرضا, وهو الذی ینبت أرضًا ویثمرها ویجعل أخرى جدباء قاحلة, وهو الذی یکتب لصفقة أن تکون ناجحة, أو لقدر أن یُنسى على الموقد فیحترق ما فیه. کل حدث یقع ضمن حکمة الله اللانهائیة, فی خطة سامیة. فقطرة الوحل التی تلطخ سروال أحدنا, والثقب الذی یحدث فی إطار عجلة السیارة, والبثور الظاهرة على الوجه, والاعتلال فی الصحة, أو أی شیء آخر لا نرغب فی حدوثه,  کلها أمور متداخلة فی حیاة الواحد منا ضمن خطة محددة.

لا یوجد أبدا ما هو خارج عن إرادة الله تعالى فی کل ما یصیب الإنسان فی هذه الدنیا, منذ اللحظة التی یفتح فیها عینیة. فکل الکائنات جمیعا خلقها الله تعالى, الواحد الأحد المسیطر على هذا الکون. إن کل ما خلق الله کامل وتام وملیء بالحکم والأهداف, وهو جزء من القضاء والقدر الذی خلقه  الله  تعالى؛ لا یجب على أیّ منا أن یمیز بین الوقائع بقوله جیدة لبعضها وسیئة للبعض الآخر. فما یجب على الإنسان هو أن یدرک ویقدر الکمال والمثالیة فی جمیع الأحداث, ویؤمن بکل ثقة بأن الخیر فیها, وأن یبقى واعیا بحقیقة أن الله بحکمته المطلقة, رتب کل شیء لیؤدی فی النهایة إلى النتائج المثلى.  حقا, إنّ کل من یؤمن ویسلم بالخیر فی کل ما یحدث, تصبح له الدنیا جزءا من نعیم لا ینتهی.

فی القرآن الکریم, ینبهنا الله إلى تلک الحقیقة التی ذکرناها فی هذه الصفحات، لذا فإن القصور فی تذکر أن کل شیء هو وفق قدر سماوی یعتبرا خسرانًا مبینا للمؤمن. وإنّ القضاء المقدر من الله تعالى بدیع , فهو یصیب الإنسان کما سبق وقدره الله  تماما. فالإنسان العادی یفهم الإیمان بالقضاء والقدر کطریقة فقط " للمواساة فی أوقات المحن". بینما المؤمن یحقق الفهم الصحیح للقضاء والقدر, متفهما تماما أنه المنهاج الوحید المثالی المرسوم له بدقة.

القضاء و القدر هو ذلک البرنامج الذی لا تشوبه شائبة الذی وضع لیعدّ الإنسان للفردوس. فهو مفعم بالخیر کما أنه أعد لغایة إلهیة, فکل ضائقة تمر بالمؤمن فی هذه الدنیا, ستکون مصدر سعادة و نعمة و سلام لا نهائی فی الآخرة. والآیة الکریمة: "إِنَّ مَعَ العُسْر یُسْرًا" ( سورة الشرح: 6 ) تجلب تشدنا إلى هذه الحقیقة؛ إنّ الصبر الذی یبدیه المؤمن لما یصیبه من قضاء وقدر, قد سبق و قدر له معها  الجزاء الحسن فی الآخرة.

قد یحدث مع الأیام أن المؤمن یصبح قلقا لبعض ما یحدث له, والسبب لما یشعر به هو قصوره فی تذکر أن هذا الحدث بالذات هو جزء من قدره الذی خلقه الله تعالى خاصا به. إلا أنه, سیهدأ   و یرتاح عندما یُذَکّرُ بهدف الله تعالى من خلق مثل هذا الحدث. لذا على المؤمن أن یتعلم أن یتذکر دوما أنّ کل شیء قد قدر سلفا, وأن یذکر غیره بذلک. علیه أن یصبر فی وجه تلک الأحداث التی قدرها الله له. وهناک أسرار غیر محدودة وراء الأحداث, وعلى المؤمن أن یتوکل على الله تعالى ویکافح لإدراک هذه الأسرار. والذی یبذل ما فی وسعه لتفهم تلک الأسباب, سیکون, بإذن الله تعالى, من الفائزین فی النهایة. ولکن ینبغی أن نفهم أنه قد لا یمکنه دائما إدراک أسباب هذه الأحداث وأسرارها. وعلیه أن یبقى واثقا, أن ما یحدث من أمر هو بالتأکید لخیر وغایة.

 

      فهم أن کل مخلوق, حیا کان أو غیر حی, خلق خاضعا لقدر معین...

      القدر هو علم الله التام بکل الأحداث الماضیة والقادمة, وکأنها لحظة واحدة. وهذا یظهر سلطة الله المطلقة على جمیع الکائنات والأحداث. فالناس لا یستطیعون أن یدرکوا حدثا معینا إلا عندما یعاینوه. ولکن الله تعالى یعلم کل الأحداث قبل حدوثها. فبالنسبة إلى الله تعالى, الماضی والحاضر والمستقبل أمر واحدا, فالزمن کله خاضع لعلم الله تعالى فهو خالقه وموجده.

وکما تبین الآیة الکریمة أیضا: "إِنَّا کُلَّ شَیْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ"(سورة القمر 49 )، فکل شیء فی هذا العالم له دور فی هذا القدر. وأغلب الناس لا یعطون لحظة اعتبار واحدة لطبیعة القدر, وبالتالی, یفشلون فی فهم قدرة الله اللانهائیة الکامنة وراء هذا النظام المتناسق الکامل. والبعض یعتبر أن القضاء والقدر یشمل فقط بنی الإنسان. بینما فی الحقیقة, کل شیء فی هذا الکون, ابتداء من الأثاث الذی فی بیتک, إلى الحصاة الملقاة فی الطریق, أو تلک القشة الیابسة, وقطعة الفاکهة أو العلبة الموضوعة على رف متجر, کلها جزء من القدر الذی سبق وحدده الله تعالى. إنّ مصیر کل شیء مما خلق الله تعالى قد قدر فی حکمته تعالى المطلقة.

إنّ کل حدث یراه الإنسان, وکل صوت یسمعه, له دور فی هذه الحیاة حسب الحاجة إلیه، فالحیاة وحدة متناسقة کل شیء فیها بنظام. فلیس ثمة حدث, سواء کان أساسیا أم ثانویا, یحدث فی هذا الکون  بالمصادفة. فما من وردة تزهر أو تذبل بمجرد المصادفة. وما من إنسان یبعث إلى الحیاة أو یموت لمحض المصادفة. وما من رجل یصبح علیلا لخطاْ, ولا حتى عندما یتطور مرضه لوضع غیر قابل للسیطرة. ففی کل من تلک الحالات, أعد الله تعالى هذه الأحداث خصیصا وقدرها منذ اللحظة التی أوجد الموجودات. إنّ کل کائن کان, فی أعماق الأرض أو فی المحیطات, وکل ورقة تسقط من مکانها, کلها تحدث طوعا للقدر. وکما یقول الله تعالى: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَیْبِ لاَ یَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَ یَعْلَمُ مَا فِی البَرِّ وَ الْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ یَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِی ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ یَابِسٍ إِلاَّ فِی کِتَابٍ مُبِینٍ" (سورة الأنعام: 59)

لکن الناس عامة غیر مدرکین لحقیقة أن کل لحظة من حیاتهم قد قدرها الله تعالى, فالبعض لم یتفکروا یوما کیف خلقوا, أو کیف أن کل هذه النعم التی یعیشون بها قد أوجدت. والبعض, بالرغم  من معرفتهم بأن الله هو خالق الحیاة والموت, یؤمنون بأن المصادفة هی وراء تلک الأحداث الثانویة الصغیرة. غیر أن الله تعالى فی القرآن الکریم, أخبرنا بأن أعمالنا بتفاصیلها مهما صغرت قد قدرها الله تعالى بحکمته المطلقة, وطبقا لهدف إلهی قال تعالى: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِیبَةٍ فِی الأَرْضِ وَلاَ فِی أَنْفُسِکُمْ إِلاَّ فِی کِتَابٍ  مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنِّ ذَلِکَ عَلَى اللهِ یَسِیرٌ" (سورة الحدید: 22).

إنه من الضروری أن یعی الإنسان هذه الحقیقة. ولأن مصیر کل شیء فی هذا الکون معلوم لله تعالى, العلیم  الحکیم, فهذا یعنی أنّ کل جزئیة وضعت بإتقان مطلق ولهدف. إن الإنسان الذی یحقق الفهم التام لهذه الحقیقة سینعم بالسعادة  فی کل لحظة من حیاته؛ سواء منها ما کان حسنا أو ما بدا له منها سیئا. وسبب ذلک هو أن عباده المؤمنین الصادقین نجحوا فی إدراک أن الله هو الذی أوجد قضاءهم و قدرهم دون نقص أو عیب. فهم یعرفون أنه من الجهل بمکان أن ینظروا إلى أمر على أنه مکروه بینما لا بد وأن یکون له غایة فی حساب الله تعالى. هذا الفهم العمیق لتلک الحقیقة یمکنهم من تبین النعم والبرکات فی جمیع الأشیاء التی تحدث.

         إنّ الاعتقاد بأن ما یمر به الواحد منا, لیس من خلق الله تعالى, بل الاعتقاد أن أحدا أو شیئا آخر ساهم فی حدوثه إنما یدل على قصور فی إدراک  ماهیة القضاء والقدر. وکل ما لا یبدو متفقا مع رغباتنا هو, فی الواقع, "درس فی القضاء والقدر". وعلى کل إنسان أن ینطلق لیدرک الخیر والغایة الإلهیة فی الأحداث بکل ما أوتی من عقل وحکمة. فالناس یمیلون دائما إلى ترکیز الاهتمام على کل ما یبدو سلبیا ویعتبرونه "محنة", بالرغم من وجود خیر وهدف فی ما قد یبدو فی ظاهره "محنة". فهی "محنة " فقط لأننا اخترنا أن ننظر إلیها کذلک ؛ ففی الواقع, هی أفضل ما قد یحدث لنا, لأنها الأمر الذی قدّر لنا.

لو أن الله تعالى بین الخیر و الغایة فی الأحداث التی تبدو سلبیة ,أو المشاکل التی تقلق و تغضب  الناس ,لکانوا سیتفهمون  کم کانت خیبة أملهم بلا معنى. و بإدراک النعمة و البرکة فی کل الأمور ,الإنسان المؤمن بالمقابل یشعر بالبهجة لا بالقلق . فالقضیة إذن , أن ما یتحتم على المرء عمله هو أن یسعى للتعرف على الخیر و المنافع فی القدر ,أو الحدث , التی هی   فی الحقیقة,جزء من الغایة من  خلق  الله لذلک الحدث ,وأن یشعر بالامتنان لما تجلبه له هذه النظرة من فائدة.

    

      

إدراک أن الشّر قد یکون فی أحداث ظاهرها حسن

وأن الخیر قد یکون فی أحداث ظاهرها شرّ ...

       فی الأجزاء السابقة, أکدنا على أن الله تعالى الحکیم، یخلق کل حدث وفقا لخطة محددة. ومن هنا, فإن موضوعا آخر یستحق أن نخصه بالنظر؛ وهو أن الله وحده یعلم الأحداث المناسبة والمواتیة من غیرها. فحکمة الله تعالى مطلقة, بینما نظر البشر محدود, فالبشر لا یستطیعون أن یروا سوى المظهر الخارجی للأحداث, ویعتمدون فقط على إدراکهم المحدود للحکم علیها. فمعلوماتهم أو إدراکهم غیر الکافی, فی بعض الأحیان, قد یجعلهم یکرهون شیئا بینما هو خیر لهم, ویحبون شیئا بینما هو شر لهم. إذن, على المؤمن لکی یتمکن من تمییز الخیر, أن یضع ثقته فی حکمة الله المطلقة, واثقا من أن هناک  خیرا فی کل ما یحدث له. یقول الله تعالى: ”وَعَسَى أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئًا وَ هُوَ خَیْرٌ لَکُمْ وَ عَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَیْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَکُمْ وَاللهُ یَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (سورة البقرة :216).

     یعلمنا  الله تعالى هنا, أن حدثا یعتبره المرء منا خیرا قد لا یسبب له إلا  خیبة الأمل, فی هذه الحیاة الدنیا و فی الآخرة. وفی المقابل, فما یسعى بحماس لتجنبه, معتقدا ضرره, قد یکون سببا للسعادة ووالخیر. فتقدیر أی حدث فعلیا, إنما هو علم لله وحده. فکل شیء مهما بدا خیرا أو شرا, یحدث بأمر الله تعالى. فما یصیبنا إلا ما کتبه وأراده الله لنا. و یذکرنا الله تعالى بهذه الحقیقة کما یلی: ”وَإِنْ یُمْسِسْکَ اللهُ بِضُرِّ فَلاَ کَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ یُرِدْکَ بِخَیْر فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ یُصِیبُ بِهِ مَنْ یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِیمُ" (سورة یونس: 107).

    إذن, فما یصیبنا فی هذه الحیاة, مهما بدا خیرا أو شرا, هو فی الحقیقة خیر, إذ أنه ما قدره خالقنا لنا. وکما ذکرنا سابقا, فإن الذی  قد قضى بالحدث على هذا النحو, لیس إنسان مقید بمکان وزمان, بل هو الله تعالى, الذی یعلو على الزمان والمکان, خالق الإنسان وخالق الزمان والمکان أیضا. (ولمزید من المعلومات الرّجاء العودة إلى کتاب ”اللازمان وحقیقة القدر“ لهارون یحیى).   

     

 

نظرات 0 + ارسال نظر
برای نمایش آواتار خود در این وبلاگ در سایت Gravatar.com ثبت نام کنید. (راهنما)
ایمیل شما بعد از ثبت نمایش داده نخواهد شد