الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

إدراک الخیر فی کل ما یحدث

                                                           

إدراک الخیر فی کل ما یحدث

 

 

      فی الواقع إنّ عبارة ” فی کل أمر خیر“جملة شائعة کثیرا فی المجتمع. ففی مسار حیاتهم الیومیة عادة ما یردد الناسُ کلمات من قبیل ”لعلّ هذا الأمر خیر لنا" أو "لعل هذا الأمر نعمة من الله".

       لکن الناس عامة ینطقون بهذه الجمل دون أن یفهموا مدلولها الحقیقی, أو هم یفعلزن ذلک لمجرد اتباعهم عرفا اجتماعیا بلا معنى. وأکثرهم لا ینجح فی فهم معناها الأساسی, أوحتى کیفیة تطبیق فهمها على حیاتهم الیومیة. فالأمر الجوهری أن هؤلاء لا یدرکون أن تلک الجمل هی أکثر من مجرد کلمات تطلقها أفواهم بل هی تکشف لنا ببصیرة باطن أحداثنا الیومیة.

       إن الحقیقة فی رؤیة الخیر فی کل حدث مهما کانت طبیعته, إیجابیا أم سلبیا إنما ینبع من میزة أخلاقیة مهمة ناتجة من إخلاص الإیمان بالله تعالى. وأخیرا, فإنّ التمسک بهذه الحقیقة مهم جدا فی توجیه الواحد منا لیس لخیر هذه الدنیا فحسب, ولکن لنیل نعیم الآخرة کذلک.

إنّ الشعور بالرّضا لکل ما یصیبنا فی مسار هذه الحیاة هو دلیل قاطع على الفهم الحقیقی لمعنى الإیمان. وفی المقابل، فعجزنا عن رؤیة الخیر فیما یحدث لنا یجعلنا مشحونین خوفا وجزعا وقنوطا وأسى وانفعالیة، وذلک دلیل على نقص فی صدق هذا الإیمان. إنّ هذا التشویش یجب إزالته فورا,  لنلبی بذلک نداء البهجة المنبثق من الإیمان الصحیح کجزء أساسی فی هذه الحیاة. وإن المؤمن یعلم تمام العلم أن کل ما یبدو للوهلة الأولى حدثا غیر إیجابی, حتى لو کان بسبب خطأ ارتکبه هو بنفسه, فهو فی النهایة سوف یعود علیه بالفائدة.

فهو إن قال "یا لسوء حظی", "یا للمصیبة", "لو أن....", فسیقولها  فقط لیستخلص العبر من هذه التجربة. أی بمعنى آخر, إن المؤمن یعلم أن هناک خیرا فی کل ما یحدث له, فهو یتعلم من أخطائه و یسعى لتصحیحها. وحتى إن وقع فی الخطأ نفسه ثانیة, فانه سیبقى مدرکا أن ما وقع فهو لغایة, وبکل بساطة یقرر أن "یتصرف بما هو أصح فی المرة القادمة". من ناحیة أخرى, حتى إذا تکرر ذلک الحدث مرات عدیدة, على المسلم  أن یبقى مدرکا أنّ فی المحصلة خیرا له. فهذا هو ناموس الله الذی لا یتغیر.

      عند إدراکنا, أن الله ما خلق شیئا إلا لخیر مؤکد وهدف محدد, عندئذ فقط یجد القلب الأمن و السلام. والتمسک بهذه الحقیقة هی نعمة عظیمة للمؤمن. والإنسان البعید عن الإسلام یعانی من العذاب المستمر؛ فهو یعیش فی خوف دائم وقلق لا ینتهی. بینما -على العکس من ذلک- یدرک المؤمن حقیقة أن هناک هدفا وغایة ما من وراء إحداث الله تعالى لکل الأمر.

     ومن هنا, فعندما لا نحسم أمرنا؛ ونبقى نعانی من القلق المستمر للترقب الدائم لکل من الخیر والشر, فان ذلک قد یصبح عائقا للمؤمن فی بلوغ الآخرة. فحجته أنه یجهل تلک الحقیقة الواضحة والبسیطة, بسبب عدم اکتراثه وکسله, وهذا یسبب له العذاب فی الدنیا والآخرة. لذا علینا أن نتذکر دوما أن قضاء الله وقدره هو حتما خال من النقائص والعیوب. والإنسان إذا ما عزم على إدراک الخیر فی کل أمره, فإنه لن یجد سوى النّعم, وتلک هی الغایة المخبوءة فی کل تلک الأحداث المتشابکة من حوله. وبالرغم من  انشغاله بأمور حیاته, إلا أنه بفضل قوة  إیمانه واستنارته بالحکمة والضمیر الحی لن یسمح للشیطان بأن یغویه بحیله. فمهما نزل به من أمر، وفی أی مکان و زمان, لن ینسى أن هناک خیرا مخبوءا وراءه. وبالرغم من عدم رؤیته لهذا الخیر فی الحال, إلا أن  ما یهمه فعلا, هو إدراکه وجود هدف نهائی من هذا الأمر.

    بسبب تهوّرهم وسرعة حکمهم على الأمور, فإن الناس فی بعض الأحیان لا یملکون الصبر الکافی لیتبینوا الخیر فی أمورهم. ونتیجة لذلک, قد یصبحون عدائیین یصرون على الشیء بالرغم من کونه ضد الفائدة التی یرجونها. وقد بین القرآن الکریم هذه الحقیقة: (وَ یَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَیْرِ وَکَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً)(سورة الإسراء :11)

    مع ذلک, على الإنسان أن یستبسل لیکتشف الخیر, ویدرک الهدف الإلهی من کل واقعة  تنزل به, بدلا من الإلحاح على أمر یعتبره بمفهومه إیجابیا, ولا یطیق صبرا فی الحصول علیه. فمثلا, قد یناضل إنسان للإحراز وضع مالی أفضل فی هذه الحیاة, وهذا التغییر قد لا یحدث أبدا. والإنسان الذی یعتبر أن هذا الوضع محنة فهو مخطئ. بالطبع یستطیع الإنسان أن یدع الله أن یرزقه المال الوفیر لینفقه فی سبیل الله مثلا، ولکنه علیه أن یعلم أنه إن لم یحصل على هذه الأمنیة, فلابد وأن یکون لسبب ما. فمن الممکن  أن اکتساب الثراء  قبل إحراز النضوج الروحی قد یحول هذا الإنسان إلى فریسة سهلة للشیطان. وهناک الأسباب المشابهة العدیدة الأخرى لکل هدف إلهی مخبوء وراء الحدث, وقد لا یُدرک الکثیر منها فی الحال, أو قد لا تنجلی حکمة ذلک إلاّ فی الآخرة. فمثلا, رجل أعمال فاته اجتماع لطالما اعتبره خطوة مهمة فی مهنته. ولکن, فیما لو ذهب الرجل إلى ذلک الاجتماع کان سیصاب بحادث سیر أو کانت ستتحطم به الطائرة فی إحدى رحلاته الجویة.

         لا یوجد من هو محصن من الوقوع فی هذه الأحداث, إذا فانه لیس من الأمر غیر الاعتیادی  أن نتوسم الخیر فی شیء یُظن به السّوء للوهلة الأولى. ومع ذلک, یحتاج کلّ واحد منا أن یعرف أنه قد لا یستطیع  دائما الإمساک بالقصد من الحدث الذی بدا له سلبیا. والسبب کما قلنا آنفا, أنه قد لا نملک  الفرصة لنشهد تلک النتیجة الإیجابیة. فقد یظهر الله  ذاک القصد الإلهی فقط  فی الآخرة. ولهذا السبب,  فإن ما یجب على الإنسان الذی خضع لقدر الله و وضع ثقته فیه هو الرضى بکل أمر- مهما کان- مع الاستعداد التام للاعتراف بوجود الخیر فیه وأن یکون حامدا لله علیه.

من الضروری التنبیه إلى أنّ "إدراک الخیر فی کل شیء" لا یقتضی تجاهل حقیقة تلک الأحداث والتظاهر بعدم حدوثها, أوأن نبالغ فی الشعور بالمثالیة. بل على العکس تماما, فالمؤمن مکلف بالتصرف المناسب واللجوء إلى کل الطرق اللازمة لحل أی مشکلة.

إنّ تسلیم المؤمن لهذا الحدث, یجب أن لا یلتبس مع نهج أولئک  الذین یبقون غیر مکترثین لکل ما یحدث حولهم متفائلین بلا واقعیة، بسبب قصر فهمهم للموضوع. وهؤلاء عادة ما یوصفـون بـ"أصحاب النظارات الوردیة". فهم یفشلون فی اتخاذ القرارات العقلانیة, أو حتى تطبیقها على أرض الواقع. وهؤلاء غیر واعین, وهم غارقون فی تفاؤل صبیانی, ولذلک لا یسعون للبحث عن حلول لمشکلاتهم. فمثلا, إذا حدث وأصیب شخص بمرض یستدعی الاهتمام, فانّ حالته مع الوقت ستتدهور للدرجة التی یصبح معها مرضه ممیتا, حیث أنه یهمل أخذ الدواء المناسب. ومثال ذلک أیضا من لا یرى ضرورة  للاحتیاط فی الحفاظ على حاجیاته فیترکها سائبة, مع أنه سبق أن سرق. فهو معرض لیصبح مرة أخرى ضحیة لحدث مماثل.

      دون أدنى شک, فهذا النهج هو نهج بعید من مفهوم " التوکل على الله" و "إدراک الخیر فـی کل أمر". فهذه التصرفات تصرفات غیر مبالیة مستهترة. و فی المقابل, على المؤمنین أن یبذلوا أقصى ما بوسعهم لعلاج  الوضع بطریقة عملیة. فالسلوک الحسن الذی یتبعونه, هو أساسا شکل من أشکال "العبادة", وذلک لأنهم فی خضم انغماسهم  فی هذه الأوضاع,عقولهم مشغولة بدوام تذکر الحقیقة، وهی أن الله  تعالى قدر وما شاء فعل.

فی القرآن الکریم, یقص الله تعالى علینا نماذج من قصص الأنبیاء والمؤمنین الصادقین الذین أدرکوا هذه الحقیقة, وعلى المؤمنین بدورهم أن یسعوا للسیر على طریقهم. فالأسلوب الذی ردّ به سیدنا هود علیة السلام على قومه, موضحا لهم خضوعه التام لله تعالى وثقته الثابتة به, بالرغم من تهدیداتهم  له, نموذج ناصع من هذه الأمثلة.

قال تعالى: ”قَالُوا یَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَیِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِکِی آلِهَتَنَا عَنْ قَوْلِکَ وَمَا نَحْنُ لَکَ بِمُؤْمِنینَ*إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاکَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّی أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّی بَرِیءٌ مِمَّا تُشْرِکُونَ *مِنْ دُونِهِ فَکِیدُونِی جَمِیعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونَ *إِنِّی تَوَکَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّی وَ رَبِّکُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِیَتِهَا إِنَّ رَبِّی عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ *فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُکُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَیْکُمْ وَ یَسْتَخْلِفُ رَبِّی قَوْمًا غَیْرَکُمْ وَ لاَ تَضُرُّونَهُ شَیْئًا إِنَّ رَبِّی عَلَى کُلِّ شَیْءٍ حَفِیظٌ *" (سورة هود، 53-57)

    

نظرات 0 + ارسال نظر
برای نمایش آواتار خود در این وبلاگ در سایت Gravatar.com ثبت نام کنید. (راهنما)
ایمیل شما بعد از ثبت نمایش داده نخواهد شد