الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

الإسلام العربی

دعوة إلی الحقیقة

منشأ التطور الطفری

منشأ التطور الطفری

لقد بذل أتباع داروین مساعی حثیثة من أجل التمکن من رؤیة نماذج التطور التدریجی على مراحل ـ الذی  یدعیه داروین ـ  فی السجلات الحفریة. وکان داروین قد علق عدم العثور على هذه النماذج على “ عدم کفایة السجلات الحفریة “ . وکانت السجلات الحفریة ـ فی حقیقة الأمرـ قد قدمت أشمل نماذجها حتى فی عهده ، وکشفت عن وجود کل الکائنات الحیة المعقدة فی أقدم العصور التاریخیة مثل عصر الانفجار الکمبری . واستمر التطوریون فی البحث فی هذه السجلات أملاً فی العثور على معجزة . وکان الهدف من وراء هذا هو إظهار داروین على حق ، وإثبات أن السجلات الحفریة کانت فی الحقیقة غیر کافیة على عهده ، والعثور على أدلة تتعلق بتطور الکائنات الحیة ، أی العثور على نماذج التحول البینی .غیر أن السجلات الحفریة أظهرت نتائج مختلفة عن توقعات داروین . وکان قد جرى تفتیش سطح الأرض فی أغلب مناطقه ، أی أن السجلات أصبحت کافیة . وثبُتَ أن داروین کان واهماً حینما قال أنه یؤمن بأن أتباعه سوف یعثرون فی المستقبل على نماذج التحول البینی المنتظرة ؛ فالسجلات الحفریة لا تشتمل حتى على نموذج واحد للتحول البینی . والحقیقة التی کشفت عنها السجلات الحفریة بدلا من هذا هی أن کائنات حیة کثیرة لم تمر بأی تغیر على الإطلاق ، وأنها عاشت قبل ملایین السنین ببنیات معقدة . ولقد کذَّبت السجلات الحفریة داروین. فعدم وجود نموذج للتحول البینی ، وحقیقة الثبات کانا لا یعطیان دلیلاً قاطعاً على التطور التدریجی على مراحل.

لم تعش “ الکائنات الحیة البینیة “ ـ التی یُدعى أنها تحمل سمات نوعین حیین متباینین ـ فی أی عصر من عصور التاریخ .

وقد رأى بعض التطوریین بوضوح أن نموذج التحول التدریجی على مراحل لداروین قد مُنی بهزیمة ساحقة أمام حقیقة الثبات ، وأقرّوا بها . فطرحوا الرأی القائل “ بأن التطور یعمل بشکل مختلف “ فی مواجهة هذه الحقیقة . وقام ستیفن جای جولد Stephen Jay Gould   ـ عالم الحفریات من جامعة هارورد ـ ونیلز إلدردج Niles Eldredge من المتحف الأمریکی للتاریخ الطبیعی بصیاغة نظریة بدیلة باسم التطور الطفری (التوازن الذی تعرض للانقطاع ـ Punctuated Equilibrim ) . وقاما بنشرها عام 1972م. والهدف الوحید هنا إنما کان المجیء بتفسیر لحقیقة الثبات .

وکانت هذه النظریة فی الأساس صیاغة جدیدة لنظریة “الوحش المأمول” Hopeful Moster التی سبق أن طرحها أوتو شیندیولف Otto Schindewolf ـ عالم الحفریات الأوربی ـ فی الثلاثینیات من القرن العشرین . وکان شیندیولف هذا قد ادعى أن الکائنات الحیة تطورت ـ لیست نتیجة لتراکم الطفرات الطفیفة على مر الزمان ـ وإنما بفعل طفرات فجائیة وجسیمة . وفیما کان یضرب مثلا لنظریته کان قد زعم أن أول طائر فی التاریخ خرج من بیضة کائن زاحف “بطفرة کلیة “ أی بتغیر جسیم حدث محض صدفة فی الترکیبة الجینیة . ووفقا للنظریة ذاتها فإن بعض الحیوانات البریة ربما تکون قد تحولت فجأة إلى “حیتان بال” ضخمة بتأثیر تغیر فجائی وشامل مرت به . وتتجافی هذه الادعاءات مع کل القواعد الجینیة والبیوفیزیقیة والبیوکیمیائیة ، ونصیبها من الصحة العلمیة قدر ما لأساطیر الأطفال التی تحکی عن تحول الضفادع إلى أمراء . ونظریة “الشبح المأمول” الخیالیة هذه لشیندیولف تبناها ونافح عنها ریتشارد جولدیشمیدت  Richard Goldschmidt   عالم الحفریات من جامعة بیرکلی Berkley فی الأربعینیات من القرن العشرین . غیر أن النظریة کانت على درجة من التناقض بحیث هُجرت فی فترة قصیرة .  أما الدافع وراء احتضان جولد Gould وإلدرج Eldredge   هذه النظریة من جدید إنما کان ـ مثلما أوضحنا فی مستهل حدیثنا ـ إظهار السجلات الحفریة أنه لا یوجد أی “ نموذج بینی “ على الإطلاق . وکانت حقیقة “ الثبات “ و” الظهور فجأة “ واضحة لدرجة اضطرت هذین الاسمین إلى الاستیلاء على “ الوحوش المأمولة “ من جدید بغیة تفسیر هذا الوضع . والمقال الشهیر لجولد ـ الذی یحمل عنوان “ عودة الوحوش    المأمولة “ ـ کان تعبیراً عن الردة الاضطراریة هذه .32

Stephen Jay Gould

بالطبع لم یکرر  جولد Gould وإلدردج Eldredge نظریة شیندیولف Schindewolf الخیالیة بنصها وبحذافیرها . وکیما یُکسِبا نظریتهما هویة علمیة سعیا لصیاغة نوع من الآلیات یتفق مع “ الطفرات التطوریة الفجائیة “ . ولقد کان المصطلح المثیر “ التوازن الذی تعرض للانقطاع Punctuated equilibrium ” ـ الذی اختاروه للنظریة ـ تعبیراً عن هذا السعی العلمی. وقد تبنى بعض علماء الحفریات فی السنوات المتقدمة نظریة جولد وإلدردج ، وشرحوا تفاصیلها . غیر أن نظریة التطور الطفری هذه حافلة بتناقضات جسیمة ـ على أقل تقدیر ـ قدر نظریة التطور التدریجی لداروین .
ولقد کان أنصار التطور التدریجی على مراحل یغضون الطرف عن الثبات ، غیر أن السجلات الحفریة تعرض باستمرار نماذج الثبات ، وتبدی للعیان أن الکائنات الحیة لم تتغیر على مدى ملایین السنین . والفارق الوحید لـ س. ج. جولد S . J . Gould   و ن. إلدردج N . Eldredge عن غیرهما من الداروینیین إنما کان إدراکهما أنهما لن یستطیعا البقاء مکتوفی الأیدی أمام حقیقة قاطعة ومطلقة مثل الثبات الموجود فی السجلات الحفریة . وبدلا من أن یعترفا بحقیقة الخلق التی تثبتها الحفریات ، شعرا بأنهما مرغمین على صیاغة مفهوم جید للتطور . وکان ستیفن جای جولد Stephen Jay Gould یصرّح حول هذه الموضوع  بقوله:


Niles Eldredge

“ کیف یمکن للنقص (الذی فی السجلات الحفریة) تأویل الثبات ؟... فالثبات مُعْطى . ولقد أصبتُ أنا وإلدردج Eldredge بخیبة أمل إزاء عدم فهم وإدراک الکثیرین من زملائنا لهذه الحقیقة الواضحة إلى أقصى درجة ، حتى إننا شجّعنا على جمع مجموعة المفردات الصغیرة هذه فیما یشبه شعار .علیکم تردیده عشر مرات قبل الإفطار على مدى أسبوع . حینئذ سوف یرسخ هذا الموضوع لا شعوریاً فی أذهانکم: الثبات مُعْطى .. الثبات مُعْطى ...”33

وینتقد جولد وإلدردج وسائر أنصار التطور الطفری بضراوة المدافعین عن التطور التدریجی بسبب عدم رؤیتهم لحقیقة الثبات . والشیء الذی فعلوه لم یکن یختلف فی الحقیقة عما فعله غیرهم من الداروینیین . حیث بدلوا فی شکل التطور الخیالی ، إذ لم تسفر السجلات الحفریة عن النتیجة التی کانوا یطمحون إلیها. وقاموا بالتنظیر لهذا بشکل تفصیلی نوعا ما . أما السبب الوحید وراء حنقهم على مؤیدی التطور التدریجی وانتقاداتهم المکثفة لهم ، فهو أن زملاءهم هؤلاء سیکونون سببا فی أن تفقد نظریة التطور مصداقیتها المزعومة لدى الرأی العام ما داموا یقرون بالثبات الذی فی السجلات الحفریة . ومن هنا ـ وإزاء الحقائق التی تکشف عنها السجلات الحفریة ـ یسعون لإعطاء انطباع بأنهم “ قد وجدوا الحقیقة منذ هذا الحین “ .  بید أن نظریة التطور الطفری ـ على أقل تقدیر ـ نظریة ملفقة ، وبلا بیّنة ،وداحضة بقدر نظریة التطور التدریجی . وتُعد اعترافات ستیفن جای جولد Stephen Jay Gould حول “ وجهة النظر الخاطئة فی الماضی “ انتقاداً موّجهاً إلى أنصار التطور التدریجی ، حیث یقول فیها:

“ کنا على وعی منذ زمن طویل بموضوع الثبات والظهور فجأة . ولکن آثرنا أن نعلقه على السجلات الحفریة غیر الکافیة . “34

أما نیلز إلدردج Niles Eldredge فیبین أن أنصار التطور التدریجی یتجاهلون هذه الحقیقة الهامة بقوله:

“ لا یزال یبحث علماء الحفریات منذ داروین ـ عادة فی غیر طائل ـ عن سلاسل الحفریات التی یعتقد داروین أنها نتاج طبیعی لوتیرة تطوریة ،والتی تجسد نماذج التغیر الکلی للأنواع والتی تحولت فیما بینها بشکل لن یُدرک . ولقد ظلت أغلب الأنواع ـ على مدى الفترة التی وُجدت فیها فی الطبقات الجیولوجیة التی ترجع إلى العصور الجیولوجیة المتنوعة ـ على ذات الشکل تماماً، ولم تتغیر على الإطلاق . وعلى الرغم من کون هذا حقیقة مذهلة ، فإن قلة من علماء الحفریات یراه مبرراً للاعتراض على البحث الحفری.35

ویشدد نیلز إلدردج Niles Eldredge وإیان تاترسال Ian Tattersall ـ عالم الآثار من المتحف الأمریکی للتاریخ الطبیعی ـ على أن زعم التطور لداروین قد دُحض بسبب الثبات الموجود فی السجلات الحفریة إذ یقولا:

“ لقد دُحض ادعاء داروین القائل بالتغیر ـ حتى ولو على مراحل ـ والذی یؤثّر على کل السلالات المنتشرة والموجودة حتى الآن . والسجلات الحفریة ضدنا ، وهی تکشف عن حصانة تشریحیة غیر عادیة . ولا یوجد فی السجلات الحفریة التغیر بالمعنى الذی کان ینتظره داروین “36

ویذکر ستیفن جای جولد Stephen Jay Gould فی مقولة أخرى له کیف تعامى أنصار التطور عن الثبات الذی ینهض دلیلا على “ عدم التطور” إذ یقول:

“لقد کان إظهار کثیر من الأنواع ـ التی تحفَّرت ـ للثبات أو عدم التغیر على مدى جمیع فترات الحیاة الجیولوجیة حقیقة لم یفصح عنها کل علماء الحفریات ولکنهم کانوا یعرفونها . غیر أن هذا الوضع یکاد لم یُبحث بشکل صریح فی أی وقت قط . حیث کانت النظریة السائدة ترى الثبات دلیلا غیر حیوی على عدم التطور . وأصبح شیوع الثبات بدرجة غیر عادیة بمثابة خاصیة مخجلة فی السجلات الحفریة . ومن هنا ولهذا السبب کان ینبغی التعامی عن هذه الحقیقة تحت مبرر أنها لا تمثل أی شیء قط (أی لأنها تمثل عدم التطور).37

وکانت کافة مساعی جولد Gould وإلدردج Eldredge ترمی إلى التمکن من تعدیل نظریة التطور ـ التی لم یتخلیا عنها ـ بما یتماشى مع السجلات الحفریة . ولهذا السبب طرحا الثبات باعتباره أهم دلیل على ادعاءات التطور البدیل . وکان عدم الثبات الموجود فی السجلات الحفریة یُطوّع کدلیل بشتى الطرق . وحینما أصبحت السجلات الحفریة فی وضع لا یوافق النظریة،عُدّلت النظریة بما یوافق السجلات الحفریة . وهکذا طُرحت نظریة التطور الطفری بهذا المفهوم .


تبدو فی الصورة حفریة لسلحفاة یبلغ عمرها 120 ملیون سنة ، وهی تنهض دلیلا على أن السلاحف لم تنجم أو تتطور عن أحیاء أخرى ، ولم تمر بأی مرحلة بینیة ، وإنما وُجدت ببنیاتها نفسها منذ ملایین السنین .


وهناک مقال لتوم س. کیمب Tom S . Kemp   مدیر المجموعات الحیوانیة لمتحف جامعة أکسفورد Oxford نُشر فی مجلة New Scientist أشار فیه إلى “ کیفیة تطویع الاکتشافات کیما تصبح بمثابة دلیل على التطور “ بقوله:

“ ... حینما لا توافق الوتائر التطوریة المفترضة النماذج الحفریة ـ التی یتعین أن تکون قد أتت بها هذه الوتائر ـ یُعرّف هذا النموذج عادةً بأنه “ نموذج خاطئ” . وحتى یمکنک تلفیق دلیل زائف قم بتفسیر السجلات الحفریة وفقاً لنظریة التطور ، ونقِّح هذا التفسیر ، وسجِّل تأییده للنظریة . الآن هو یؤیدها . ألیس کذلک ؟! “38

ووفقاً لأنصار التطور الطفری فإن الثبات الموجود فی السجلات الحفریة کان یشکل “ التوازن “ الموجود فی النظریة والذی عُبِّر عنه بمصطلح “التوازن الذی تعرض للانقطاع “ (Punctuated equilibrium ) . ووفقا لزعم التطور الطفری کانت الأنواع تتطور فی غضون فترة قصیرة مثل عدة آلاف من السنین ،ثم تدخل فی فترة ثبات ، وتظل دون تغیر على مدى ملایین السنین.ومن ثم کانوا یعتقدون أن هذا الزعم الذی طرحوه یفسر حقیقة الثبات التی تبدو فی شطر عظیم من الکائنات الحیة . وکانت حقیقة السجلات الحفریة ـ التی تتحدى التطور ـ تُطمس بهذا الشکل من وجهة نظرهم . فی حین کان هذا خدیعة کبرى .

آلیة الطفرة
تسلِّم نظریة التطور الطفری بأن المجموعات الحیة ـ بحالها الراهن ـ لم تتغیر على مدى فترات طویلة للغایة ، وأنها ظلت فی حالة توازن نوعی (equilibrium ) . ووفقاً لهذا الزعم فإن التغیرات التطوریة تحدث فی فواصل زمنیة قصیرة للغایة وفی إطار مجموعات محدودة جداً (بما یُعرّض التوازن للانقطاع ) . ولأن المجموعة محدودة للغایة تُنتخب الطفرات العظیمة فی فترة شدیدة القصر عن طریق الانتخاب الطبیعی . وهکذا یتشکل نوع جدید .

وطبقا لهذه النظریة یمکن مثلاً أن یمارس نوع زاحف حیاته على مدى ملایین السنین دون أن یتعرض لأی تغیر . ولکن یمکن أن تنسل مجموعة من داخل هذا النوع الزاحف بشکل ما وتتعرض لطفرات کثیفة وسریعة لا یمکن تفسیرها . والذین یجنون فائدة هذه الطفرات (لیس هناک نموذج واحد لطفرة مفیدة على الإطلاق أمکن رصدها ) یتم انتخابهم بشکل سریع من بین هذه المجموعة المحدودة . وسرعان ما تتطور هذه المجموعة ، وتتحول فی فترة وجیزة إلى نوع زاحف آخر ، بل ربما تتحول کذلک إلى ثدییات . ولما کانت هذه الوتائر سریعة للغایة وتحدث فی مجموعة محدودة ، فإن ما یتخلف عنها من آثار حفریة یکون قلیل للغایة .

وإذا ما أُمعن النظر ، یُلاحظ أن هذه النظریة فی حقیقة الأمر کانت قد طُرحت رداً على سؤال هو: “ کیف یمکن تخیل وتیرة تطور سریعة لدرجة أنها لا تخلِّف أثراً حفریاً یدل علیها ؟ “ وفی أثناء صیاغة هذا الرد یُسلّم بفرضین جوهرین هما:
1ـ فرض “الطفرات واسعة النطاق” ، أی الطفرات الشاملة التی تحدِث تغیرات فی المکّون الجینی للکائنات الحیة ، وتحقق فائدة لها ، وتنتج مکونات جینیة جدیدة .

2ـ فرض المجموعات الحیوانیة محدودة العدد وهی أکثر انتفاعا من الناحیة الجینیة .
بید أن کلا هذین الفرضین یتناقضان بوضوح مع الاکتشافات العلمیة . 

وهم الطفرات واسعة النطاق:
تفترض نظریة التطور الطفری أن الطفرات التی تؤدی إلى تشکل النوع ـ مثلما أوضحنا منذ قلیل ـ تحدث بمقاییس عظیمة أو أن بعض الأفراد یتعرضون لطفرات کثیفة واحدة تلو الأخرى . إلا أن هذا الفرض مناف لکل المعطیات النظریة لعلم الجینات والوراثة .

وهناک قاعدة وضعها ر. أ. فیشر R . A . Fisher ـ من علماء الجینات والوراثة المشاهیر للقرن (العشرین) ـ استناداً على التجارب والملاحظات ، تدحض هذا الفرض . ویفید فیشر فی کتابه ـ الذی یحمل اسم “ النظریة الجینیة للانتخاب الطبیعی The Genetical Theory of Natural Selection ـ بأن إمکانیة بقاء طفرة فی مجموعة حیة یتناسب عکسیا مع تأثیر الطفرة على النسق الجینی (Genotype ) .39 وبتعبیر آخر فإنه بقدر ما تکون الطفرة عظیمة ، فإن إمکانیة بقائها فی هذه الجماعة تقل بالتبعیة بذلک القدر . ولیس من الصعب إدراک السبب فی هذا ؛ فالطفرات قد تحدِث تغیرات عشوائیة فی المعلومة الجینیة للکائن الحی ، إلا أنه لیس لها ذلک التأثیر الذی یطوِّر هذه المعلومة على الإطلاق . بل على العکس من ذلک فالأفراد الذین یتأثرون بالطفرة یکونوا عرضة للإصابة بالأمراض والتشوهات الخطیرة . ولهذا السبب فإنه بقدر ما یتأثر فرد بشکل زائد بالطفرة ، فإن إمکانیة عیشه سوف تتناقص بتلک الدرجة.

ویدلی إرنست مایر Ernest Mayr ـ عالم الأحیاء التطوری بجامعة هارورد Harvard ومن المدافعین باستماتة عن الداروینیة ـ بالتعلیق التالی حول هذا الموضوع:

“ إن تکوّن الوحوش الجینیة نتیجة للطفرات إنما هو فی الحقیقة واقع مشهود . ولکنها کائنات حیة غریبة لدرجة أنه یمکن أن تُعرّف بأنها “ وحوش غیر مأمولة” ، اختل توازنها لدرجة لا تمکنها من النجاة من الغربلة (الإسقاط) عن طریق آلیة الانتخاب الطبیعی ... وفی الحقیقة فإنه بقدر ما تؤثِّر طفرة ما على نسق توزیع الصبغیات على الجین Phenotype بشکل کبیر ، فإنها تُنقِص بذلک القدر من توافقه ـ (الذی هو فی المتوسط الطبیعی) ـ مع البیئة الطبیعیة .والإیمان بأن طفرة جذریة من هذا النمط یمکن أن تشکل نسقاً جدیداً لتوزیع الصبغیات على الجین  Phenotype من شأنه أن یحقق تکیفاً مختلفا ، إنما یعنی الإیمان بمعجزة ... وعثور هذا الوحش المأمول على زوجة مناسبة ، وعزلهما عن الأفراد الطبیعیین لمجموعتهما التی ینتمیان إلیها ، یُعد ـ من وجهة نظری ـ عقبات لا یمکن تجاوزها على الإطلاق .40

وهکذا یتضح أن الطفرات لا یمکنها تحقیق نمو تطوری .الأمر الذی یُعد حقیقة تضع نظریة التطور الطفری فی مأزق . ووفقاً لکون الطفرة آلیة تخریب وتشویه ، فإنه من المتعین أن تحدِث الطفرات واسعة النطاق ـ التی تحدث عنها المدافعون عن التطور الطفری ـ تخریباً واسع النطاق . وکان بعض التطوریین یعلقون الأمل على الطفرات التی تطرأ على الجینات الضابطة Regulatory Genes الموجودة فی الحامض النووی DNA   إلا أن الصفة التخریبیة التی تنطبق على الطفرات الأخرى ، تنطبق بدورها على هذه الطفرات . والقضیة هی قضیة حدوث تغیر عشوائی للطفرة . وأی تغیر عشوائی من أی نوع یطرأ على بنیة معقدة مثل المعلومة الجینیة سوف یؤدی إلى نتائج وخیمة .

وقد شرح “لان لاستر” Lane Lester عالم الجینات والوراثة و”رایموند بوهلین” Raymond Bohlin عالم الجینات والوراثة الجمعیة فی کتابهما الذی یحمل اسم “ الحدود الطبیعیة للتغیر البیولوجی The Natural Limits to Biological Change مأزق الطفرة الذی نحن بصدد الحدیث عنه ، حیث قالا:

“إن النقطة الجوهریة والمحوریة هی تکوّن طفرة جذریة مطلقة لأی تغیر فی أی نمط تطوری . وینزعج بعضهم من نتائج فکرة تراکم الطفرات التطوریة ، ویتجه إلى الطفرات واسعة النطاق لتفسیر أصل المستجدات التطوریة . ولقد عادت فی الحقیقة “ الوحوش المأمولة “ لجولدیشمیدت Goldschmidt . غیر أن المجموعات التی تأثرت بالطفرات واسعة النطاق ستصبح فی الحقیقة بمثابة مجموعات مهزومة فی صراع العیش .أما تحقیق الطفرات واسعة النطاق لزیادة التعقید (تطویر المعلومة الجینیة) ، فلیس له من أثر . ولو عجزت الطفرات البنیویة الضئیلة عن إحداث التغیرات اللازمة ، فإن الطفرات التی تعمل على الجینات الضابطة هی الأخرى لن تجدی نفعاً . حیث إنها سوف تأتی بتأثیرات لا تحقق التکیف ، وإنما تکون مدمرة . وهذه النقطة واضحة تماماً .  والأطروحة القائلة بأن الطفرات ـ سواء کانت کبیرة أو صغیرة ـ تستطیع أن تُحْدِث تغیراً بیولوجیا غیر محدود لا تزال باقیة کعقیدة أکثر منها واقع .41

وفی الوقت الذی تبین فیه الملاحظات والتجارب أن الطفرات لا تطور المعلومة الجینیة ، وإنما تدمر الکائنات الحیة ، فإن انتظار المدافعین عن التطور الطفری لما یمکن أن تحققه الطفرات من إنجازات عظیمة ، إنما هو تناقض واضح وصریح .

وَهْم الجماعات المحدودة

والمفهوم الثانی الذی یشدد علیه المدافعون عن التطور الطفری هو مفهوم “ الجماعات المحدودة “ . ووفقاً لهذا المفهوم یشیرون إلى أن تکوّن نوع جدید إنما یحدث فی الجماعات التی تأوی عددا قلیلا للغایة من الحیوانات أو النباتات . وبحسب هذا الادعاء فإن الجماعات التی تأوی أعداد کثیرة من الحیوانات لا تبدی نمواً تطوریاً ، وتحافظ على حالة الثبات . ولکن قد ینفصل عن هذه الجماعات جماعات صغیرة العدد ، وتتزاوج هذه الجماعات المنفصلة فیما بینها فحسب .(من المفترض أن هذا عادة ما ینشأ عن الظروف الجغرافیة) ویُدعى أن الطفرات واسعة النطاق فی هذه الجماعات التی تتزاوج فیما بینها تکون مؤثرة وفعالة ، وأنه یحدث تنوع سریع للغایة  .

وهنا ثمة سؤال یطرح نفسه: تُرى لماذا یرکّز المدافعون عن التطور الطفری عن مفهوم الجماعات المحدودة ؟ إجابة هذا السؤال واضحة . هی أن هدفهم هو السعی للإتیان “ بتفسیر” لانتفاء وجود النموذج البینی فی السجلات الحفریة . ولهذا السبب یشددون بتعنت على مقولاتهم بأن “ التغیرات التطوریة حدثت وبسرعة فی الجماعات المحدودة “ ، ومن ثم لم تتخلف عنها آثار حفریة قدر الکفایة .

بید أن التجارب والمشاهدات العلمیة التی أجریت فی السنوات الأخیرة أظهرت أن الجماعات المحدودة ـ من الناحیة الجینیة ـ لیست فی الوضع الذی یصب فی صالح نظریة التطور . فالجماعات المحدودة ـ إذا نحینا جانباً التطور بذلک الشکل الذی یؤدی إلى تکوّن نوع جدید ـ فإنها على العکس من ذلک تتسبب فی حدوث اضطرابات جینیة خطیرة . والسبب فی هذا إنما یرجع إلى تزاوج الأفراد فی الجماعات المحدودة داخل حوض جینی ضیق باستمرار . ولهذا السبب فإنه فی الغالب ما یصبح الأفراد ـ الذین کانوا فی حالة تباین بعید ـ تدریجیا فی حالة تشابه شدید . ونتیجة لهذا تصبح الجینات الفاسدة ـ التی کانت متنحیة (resesif )  فی الغالب ـ فی وضع سائد ومسیطر . وهکذا تظهر شیئا فشیئا اضطرابات وأمراض جینیة أکثر فی المجموعة .42

ومن أجل دراسة هذا الموضوع تم وضع مجموعة من الدجاج تحت ملاحظة استمرت 35 عاماً، تبین خلالها أن الدجاج الذی أُبقی داخل جماعة محدودة قد ضعف جینیاً بشکل تدریجی ، وانخفض معدل بیضه من 100% إلى 80% . کما هبط معدل تکاثره من 93% إلى 74% . غیر أنه بالتدخل الواعی للبشر أی بتهجین الجماعة بدجاج آخر جیء به من مناطق أخرى توقف هذا التدهور الجینی وبدأ یعود الدجاج إلى طبیعته .43

ویبیّن هذا وما شابهه من الاکتشافات أن زعم المدافعین عن التطور الطفری الذی لجأوا إلیه والقائل بأن “ الجماعات المحدودة هی مصدر النمو التطوری “ إنما هو زعم عار من الوجاهة العلمیة .

وقد عبَّر جیمس و. فالانتین James W . Valentine و دوجلاس هـ. إروین Douglas H . Erwin   عن استحالة نشأة نوع جدید بآلیات التطور الطفری حیث قالا:

“ إن سرعة التغیر اللازم تعنی عدة خطوات کبیرة أو خطوات صغیر بأعداد هائلة وسریعة بدرجة تتجاوز الحد . والخطوات الکبیرة تعادل الطفرات وتأتی فی رکابها بمشکلة معوقات التوافق . وتوَلِّد فترات الثبات إمکانیة وجود کافة السلالات فی السجلات الحفریة . ولکننا ـ عند اللزوم نکرر ـ لم نعثر على أی من النماذج البینیة التی افترضنا أنها حقیقیة . وأخیرا فإن النوع کثیر العدد ـ الذی یتعین تکاثره من أجل تکوین حوض تُنتخب السلالات الناجحة من داخله ـ لم یتأّت العثور علیه فی أی مکان على الإطلاق. ونتیجة لذلک فإن احتمالات إیجاد انتخاب الأنواع لحل عام یتعلق بأصل الأصناف البیولوجیة الأعلى لیست مرتفعة . وفی الوقت نفسه ما من واحدة من النظریتین المتناقضتین بالنسبة لتفسیر التغیرات التطوریة التی على مستوى الأنواع  ـ أی نظریة التطور التدریجی الوراثی أو نظریة التطور الطفری ـ تبدو ممکنة على مشکلة أصل التصمیمات الجسدیة الجدیدة .44

التطور الطفری خیبة أمل کبرى بالنسبة للتطوریین

الیوم فُندت تماماً الآلیة الخیالیة للتطور الطفری وبشکل علمی . وثبُت أن الکائنات الحیة لن یمکنها التطور بالأسالیب المذکورة . ومثلما یوضح “جیفری س. لیفینتون” Jeffrey S . Levinton أیضا ـ من جامعة ولایة نیویورک ـ فإن التکوّن المذکور للأنواع لو لم یتأّت له الظهور بوضوح فی السجلات الحفریة فإنه لیس هناک إمکانیة لاختبار النظریة . ومن هذا المنطلق توصل لیفینتون Levinton إلى نتیجة مؤداها أن “ الشواهد کلها تجعله (أی التطور الطفری) بمثابة نظریة غیر جدیرة بأن تُتبع “45

وهذا صحیح بالطبع . فالزعم الذی یشکل لب النظریة دُحض علمیاً . ولکن ما هو مهم فی الأساس هو حقیقة أن السجلات الحفریة التی ینطلق منها المنظّرون لم تکسِب التطور الطفری أی دلیل قط . بل على العکس دحضت النظریة . فحفریات الکائنات الحیة ـ التی فی حالة “ توازن” استمر ملایین السنین ـ بالملایین فی السجلات الحفریة . ولا أثر للتطور الذی یتعین ـ وفقاً کذلک للنظریة ـ أن یکون قد استمر لآلاف السنین . ولم تقدم السجلات الحفریة ولو نموذج لکائن من الکائنات الحیة التی کان یتوقع أن تکون قد مرت بتطور . وما من دلیل واحد یثبت أن التطور الطفری قد عمل بأی شکل من الأشکال . ویسعى التطوریون ـ نتیجة لضعف حیلتهم ـ إلى أخذ أحد أعظم الأدلة على حقیقة الخلق ، ویجعلون نقطة ارتکاز للتطور . وتؤکد هذه الحقیقة الوضع الوخیم الذی تردوا فیه .

لا تختلف حفریة سمکة قشر البیاض البالغ عمرها 50 ملیون سنة عن نماذجها التی تعیش فی عصرنا الراهن .

وهنا ثمة سؤال یفرض نفسه وهو: کیف حققت نظریة متناقضة هکذا کل هذه الشعبیة ؟ فی الحقیقة أن أغلب المنافحین عن التطور الطفری علماء الحفریات . ومن ثم فهم یرون بوضوح أن السجلات الحفریة تکذّب نظریة داروین. إلا أنهم یسعون للإبقاء علیها حیة مهما کان الثمن وکأنهم فی ذعر منها.


حفریة لنجم البحر عمرها 150 ملیون سنة ، تبین أن نجوم البحر لم تتغیر على الإطلاق طیلة ملایین السنین .

وعلى الجانب الآخر یرى علماء الجینات والوراثة والحیوان التشریح أنه لیست هناک آلیة من شأنها إحداث طفرات من هذا النوع . ولهذا السبب یستبسلون فی الدفاع عن نمط التطور التدریجی الداروینی . وینتقد ریتشارد داوکینس Richard Dawkins ـ عالم الحیوان بجامعة أکسفورد ـ بعنف المدافعین عن نمط التطور الطفری ویتهمهم بأنهم “ یقضون على مصداقیة نظریة التطور لدى الناس “ !
أما النتیجة الجوهریة التی یثبتها هذا الحوار العقیم بین الطرفین فهی الأزمة العلمیة التی تردت فیها نظریة التطور . فکل ما هناک أسطورة تطور خیالی لا یمکن توفیقها مع أی تجربة أو مشاهدة أو اکتشاف حفری . وما من ادعاء یُدعى قط یمکن اختباره . ویسعى کل منظِّر تطوری ـ وفقا لمجال تخصصه ـ لإیجاد سند لهذه الأسطورة . إلا أنه یدخل فی اشتباک مع اکتشافات مجال علمی آخر . وأحیانا ما تُبذل المساعی لفض هذا الاشتباک بالتفسیرات السطحیة وکأن “ العلم یتقدم بهذا النوع من المناقشات الأکادیمیة “.بید أن القضیة هی أن هذه المناقشات لیست ریاضات فکریة تُمارس باسم صیاغة نظریة علمیة سلیمة ، وإنما هی عبارة عن مضاربات دوغماتیة تمارس باسم الدفاع ـ بتعنت ـ عن نظریة خاطئة عاریة من الصحة .
أما الحقیقة التی یجلیها منظرّو التطور الطفری ـ دون وعی منهم ـ هی إظهار السجلات الحفریة لا تتفق مع مفهوم التطور بأی شکل من الأشکال ، وإبراز الثبات الذی هو أهم الحقائق الموجودة فی السجلات الحفریة . وقد أشار جولد Gould إلى هذا بقوله:

“ لقد عُومل الثبات ـ الذی یعنی عدم وجود التطور باعتباره أمرا حتمیاً ـ وکأنه لیس موضوعاً . غیر أنه لکم هو غریب أن أکثر الوقائع شیوعا والخاصة بعلم الحفریات قدّمته بوصفه موضوعاً لم یحظ بالاهتمام أو الانتباه ! “46

وبات کل الداروینیین مضطرین إلى الإقرار بحقیقة الثبات الموجود فی السجلات الحفریة ـ التی لم یریدوا رؤیتها وأهملوها عن عمد ولم یسلِّموا بها کمُعْطَى .أما عدم تأکد وجود الکائنات الحیة ـ التی کانت تمر بتطور ـ فی السجلات الحفریة ، أی انتفاء وجود الأشکال الانتقالیة البینیة فقد قضى على کل ما أُجری من مضاربات حول الثبات ، وأوضح أن هذا أهم دلیل على حقیقة الخلق .أما التطور الطفری فقد دُحضته الآلیات التی زعمها وکذا سجلات الحفریات التی سعى لإظهارها کدلیل .




32. Gould , S. J. 1980. “ Return of the Hopeful Monster “ ; The Panda’s Thumb , New York: W. W. Norton Co. , p. 186-193 . 30- htt://www.blavatsky.net/features/newsletters/2005/fossil_fossil_record.htm
33. htt ://www .blavatsky .net /features /newsletters /2005/fossil _fossil _record .htm
34. Stephen J. Gould , “ The Paradox of the First Tier: An Agenda for Paleobiology “ , Paleobiology , 1985, p. 7 – http://www.genesispark.org/genpark/after/after.htm
35. Niles Eldredge , “ Progress in Evolution ?” New Scientist , Vol. 110, 1986, p.55- http://www.genesispark.org/genpark/after/after.htm
36. N . Eldredge and I . Tattersall , The Myths of Human Evolution , 1982 , 48.
37. Stephen J . Gould , “ Cordelia s Dilemma ” , Natural History , 1993, p . 15
38. Kemp , Tom S . , “ A Fresh Look at the Fossil Record “ , New Scientist , Vol .108, 1985, p . 66- 67.
39. R. A. Fisher , The Genetical Theory of Natural Selection , Oxford , Oxford University Press, 1930 .
40. Ernst Mayr , Population , Species , and Evolution , Cambridge , Mass : Belknap Press , 1970, p . 235
41. Lane Lester , Raymond Boblin , The Natural Limits to Biological Change , Probe Book , Dallas , 1989 , p . 141 .
42. M. E. Soule and L. S. Mils , “ Enhanced: No Need To Isolate Genetics ‘ , Science , 1998, vol. 282, p. 165 .
43. R. L. Westemeier , J. D. Brawn , J. D. Brawn , S. A. Simpson , T. L. Esker , R. W. Jansen , J. W. Walk , E. L. Kreshner , J. L. Bouzat and K. N. Paige , “ Tracking The Longterm Decline and Recovery of An Isolated Population “ , Science , 1998 , vol. 282, p. 1995.
44. Valentine and Erwin , 1985, p . 96 – http ://www .arn .org /docs /abatasis .htm
45. http ://www .dhushara .com /book /evol /evop .htm
46. Gould . S . J . and Eldredge . N . , 1993. “ Punctuated Equilibrium Comes of Age “ , Nature , 366, p . – http ://www .answersingenesis .org /tj /v 8/i 2/punct .asp

نظرات 0 + ارسال نظر
برای نمایش آواتار خود در این وبلاگ در سایت Gravatar.com ثبت نام کنید. (راهنما)
ایمیل شما بعد از ثبت نمایش داده نخواهد شد